سقط بن علي.. وكان سقوطه محتما ومعبّرا عمّا تعنيه إرادة شعب ثائر، ولئن بدأ السؤال عمّا بعده، فالواقع أنّ جهات عديدة بدأت بالعمل وليس بالكلام من أجل أن يكون ما بعده متوافقا مع ما تريد، كل على حدة، ولا ينبغي أن يغيب عن الأذهان، أنّ اقتناص بن علي للسلطة مستغلا آنذاك ما وصل إليه الغضب الشعبي إزاء استبداد بورقيبة وشذوذه من قبل، قد أثار في حينه أملا مبدئيا في تحقيق التغيير، وما لبث أن تحوّل إلى الإمساك بناصية السلطة 23 سنة، "أمناً قمعيا" وإعلاميا، وفسادا عائليا وحزبيا، وقدرة واضحة على ممارسة لعبة ربط تحقيق المنافع الفاسدة الباطلة الشخصية والعائلية والحزبية، بتحقيق منافع باطلة أجنبية.. والسؤال:
ما الذي ينبغي صنعه كيلا تتكرّر المأساة في تونس ربعَ قرن آخر؟..
وانتشرت مع سقوط بن علي التمنيات الشعبية والنخبوية على أوسع نطاق بأنّ ما شهدته تونس ستشهده بلدان عربية أخرى، لا تختلف أوضاعها كثيرا عمّا كانت عليه تونس في عهد بن علي الفاحش، وهي تمنيات معبّرة بحد ذاتها عن حجم الهوة الفاصلة بين الشعوب والأنظمة، إنّما لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان أنّ شبيه ذلك اقترن بإسقاط شاه إيران قبل ثلاثة عقود ونيف، ولم يحدث شيء، ثم أخذت ثورة إيران مسارا اختاره قادتها لها، وتحوّلت التمنيات إلى مخاوف وحروب وأزمات ونزاعات، كما سبق أن أسقطت ثورةٌ شعبيةٌ النميري في السودان، وقيل يومها إن نموذج عبد الرحمن سوار الذهب سيفرض نفسه في بلدان أخرى، ونشهد بدلا من ذلك كيف يجري تفتيت السودان، بل كيف "تعلّم" آخرون في اتجاه مضادّ للمنطق والسياسة من مصير النميري، فشرعوا يحصّنون سلطاتهم تحصينا أشدّ وأنكى، كيلا يصيبهم ما أصابه. صحيح أن سقوط بن علي الآن يبيّن أن ما صنعوه ويصنعونه لا يضمن "البقاء" في السلطة، ولكن يبقى السؤال:
هل يمكن تحقيق تغيير قويم مستديم كما ينبغي وليس عبر التمنيات وحدها؟..
ثغرة الالتفاف على الثورة
من أهمّ ما ميّز ثورة تونس عن جميع ما سبقها على مستوى تاريخي عالمي، أنّها لم تكن من صنع حزب، أو تنظيم، أو طبقة، أو نخبة، بل كانت من لحظاتها الأولى وإلى أن حققت هدفها المشروع "الأوّل": إسقاط رأس النظام الاستبدادي، من صنع الشعب، انطلاقة، وانتشارا، واختراقا إعلاميا، وطرحا للأهداف، ورفضا للمساومات، وتضحيات جسيمة، علاوة على محاولات "أهلية" لضبط مجرى الأحداث في مواجهة ما سمّي "فلتانا أمنيا"، والواقع هو أنّه –وحده- ما كانت تحرّكه جهات بعينها، فبدا منظما ومسلحا وواضح المقاصد المريبة وليس "فلتانا".
ولكن التحرّك الشعبي في صناعة ثورة تونس لا يمثل سر قوّتها في تحقيق أوّل أهدافها فحسب، بل يمثل في الوقت نفسه ثغرة خطيرة يمكن أن تؤدّي إلى استحالة تحقيق الأهداف الأكبر التالية ما لم يتمّ التعامل معها بصورة فورية تواكب ما تعطيه إرادة الشعب المتفجرة من إمكانات واسعة النطاق.. الآن على وجه التحديد.
في تونس أحزاب وهمية وحقيقية، منها المعارِضة التي كانت جزءا من السلطة، ومنها المعارِضة فعلا، وهي محظورة، ولا يمكن الجزم بحقيقة حجم كل منها شعبيا، وفي تونس قوى نقابية عمالية يغلب الاتجاه اليساري عليها وتجد تأييدا نقابيا ويساريا من خارج تونس، وأبرزت أحداث الثورة تنظيمات أخرى كالمحامين، ويمكن أن تظهر في الفترة التالية قوى أخرى كالإعلاميين، إنّما لم تنشأ بعدُ قياداتٌ بارزة قادرة بحكمتها ووعيها وقدراتها التنظيمية على ضبط المسار في الاتجاه الصحيح بأقل قدر ممكن من الأخطاء –وهي محتمة في ظروف الثورة تخصيصا- وبأكبر قدر ممكن من الضمانات العملية، وهي ضرورية لمواجهة ضربات مضادة مؤكدة، وانحرافات خفية محتملة، ومحاولاتٍ -يصعب استبعاد وقوعها لا سيما من قبيل ما سبقت الإشارة إليه- أن ينتهز الفرصة بعض أركان النظام المتهاوي لاقتناص السلطة، مع كيل الوعود كالوعود المعروفة في تونس بعنوان "وعود 7 نوفمبر" على لسان بن علي، وقد تلتْها 23 سنة كبيسة، فتكون الحصيلة الحقيقية آنذاك استبدال استبداد باستبداد، وإجرام بإجرام، ومعاناة بمعاناة.
المشروعية الدستورية
إن حقبة ما بعد الثورة في تونس هي بداية جديدة وليست استئناف وضع قديم، فالوضع القديم غير قابل للإصلاح، ولا تتحقق البداية الجديدة من خلاله، أي في نطاق ما يوصف بالنقلة الدستورية المشروعة، فليس فيما صنعه وثبته النظام السابق "مشروع.. وغير مشروع"، بل جميعه غير مشروع ولا يكتسب المشروعية منه سوى ما تستثنيه آلياتٌ مشروعة جديدة، عندما تنبثق عن إرادة الشعب الذي صنع الثورة، ويخوّلها الشعب بالدراسة لما سبق وإعادة النظر في سائر ما كان قبل الثورة دون استثناء.
لقد ظهرت من اللحظات الأولى لسقوط بن علي وفراره محاولات اختزال ما صنعته الثورة الشعبية في تونس، ما بين مادة من مواد دستور النظام المنهار وأخرى، لتخويل رئيس وزراء النظام المنهار ثم رئيس مجلس نواب النظام المنهار بالصلاحيات شبه المطلقة للرئاسة المنهارة.. ولو لفترة مؤقتة، إنّما لا يتحقق مغزى الثورة إلا مع اعتبار جميع ما يرتبط بالباطل المنهار منهارا، واعتباره بحد ذاته باطلا غير مشروع، ولا يمكن أن تنبثق عنه مشروعية جديدة، وكل محاولة في هذا الاتجاه هي اغتيال للثورة من ظهرها بعد العجز عن قتلها بالرصاص الحيّ في مهدها وجها لوجه.
هي بداية جديدة، بمشروعية جديدة، ولا مناص من ضبط "المرحلة الانتقالية" على هذا الأساس، بغض النظر عن المظاهر الشكلية، فلا ينبغي خلالها صنعُ شيء حاسم يتجاوز حفظ الأمن بالتنسيق المباشر ما بين وحدات عسكرية وأمنية لا يسيطر عليها أركان النظام المنهار، وبين جمعيات أهلية محلية على مستوى الأحياء والقرى والمدن، لها كلمة الفصل في ضبط الأمن مثلما كان لتلك الأحياء والقرى والمدن الكلمة الفصل في مسار الثورة، أمّا النقلة الدستورية فلا تكون مشروعة دون أن تتشكل هيئة جديدة شاملة، للإعداد لأوضاع دستورية جديدة، دون أن ينتمي إلى تلك الهيئة أحد من أركان النظام المنحلّ، ففي كل ركن من أركانه فساد يمكن أن ينخر مفعوله في أي نظام جديد.
ولا بد أن تضم الهيئة جميع الأطياف التي تنتمي إلى شعب تونس، من داخل ما يوجد من أحزاب وجماعات ونقابات وتنظيمات ومن خارجها، بحيث تحوز على الثقة الشعبية من خلال "مجموعها" وليس من خلال وجود بعض الرموز المعروفة فيها فحسب.
كانت المشروعية الدستورية غائبة طوال حقبة الاستبداد، ولا تتحقق الآن إلا من خلال صياغة دستور جديد وليس ترقيع دستور قديم، فمنذ استقلت تونس عن الاستعمار الفرنسي، لم توضع فيها أي صياغة دستورية قويمة، مؤقتة أو دائمة، ثم أن يكون في نص الدستور من المواد غير القابلة للتعديل، ما يضمن حقوق الإنسان وحرياته وفصل السلطات، وتحديد الأطر الدستورية لمهام الأجهزة العسكرية والأمنية، والتداول على السلطة، مع توازن مدروس لتوزيع الصلاحيات بين مختلف الأجهزة، بما فيها الرئاسة، فضلا عن آليات مضمونة تشريعا وتنظيما لاختيار ممثلي الشعب في نظام الحكم، ولتطبيق مبادئ الشفافية والرقابة والمحاسبة مع استقلالية القضاء وسيادة القانون.