إسرائيل تتوخى «الإرهاب عن بعد» ضد الثورة التونسية
لماذا تقبلت إسرائيل الثورة التي حصلت في تونس بكل هذا الفزع؟ وماهو ذلك الحشد الأمني السري الذي تتابع به إسرائيل الأحداث المتسارعة التي تحصل على المستويين الأمني والسياسي؟ وحركة الشارع التونسي واحتجاجاته المتواصلة على حكومة الوحدة الوطنية التي يبدو أنها لم تعمر أكثر من 24 ساعة؟
كل هذه الأسئلة توحي بأن المستوى الأمني الإسرائيلي يتابع باهتمام شديد تطورات ثورة الياسمين التي أطاحت بالصديق الخفي الذي كان يبارك سياسة تل أبيب في المنطقة الجيوسياسية الحساسة التي تمتد من أعلى جبال البلوشستان في أفغانستان إلى أعالي المحيطات على الضفاف المغربية للأطلسي وفي حوض المتوسط.
لقد كان اختيار نتنياهو على نائبه سيلفان شالوم للتعليق على الأحداث، رسالة واضحة حول أهمية الثورة التونسية في المقاربات الأمنية الإسرائيلية، وحتى في الفلسفة التي بني عليها التنظيم الأمني الإسرائيلي منذ تأسيس الصهيونية في بال السويسرية سنة 1897، إذ بنيت على مبادئ محددة تقوم على تجنيد بلدان التماس المباشر لخدمة المشروع الصهيوني، وهي المرحلة الأولى التي امتدت منذ تأسيس الحركة وبداية حركة الهجرة وتأمينها من دول الشتات، وافتكاك الأراضي الفلسطينية وتبني خيار حرب العصابات والضربات الإرهابية لتحقيق المصالح السياسية عن طريق استراتيجية الأرض المحروقة التي انتهجتها منظمات الإيرغون والهاغاناه ضد العرب الفلسطينيين والبريطانيين بعيد الحرب العالمية الثانية وبداية التململ البريطاني حول مشروع الوطن اليهودي القومي واستبداله بمشروع الدولة ثنائية القومية.
الفلسفة الدموية
تلك الفلسفة الدموية التي بدأ بانتهاجها البناة الأول لما يسمى «دولة إسرائيل»، تنطلق من نظرة جيوسياسية شاملة لما يوجد في الأراضي العربية من مكامن الضعف الذي يمكن أن تستعمله في المسك بتلابيب الموقف الإستراتيجي في بلدان الشرق الأوسط، لتتمكن من القبض على أطراف خيوط اللعبة الإستراتيجية وذلك تحقيقا لتمرير أجندتها الإستراتيجية في المنطقة، والإطاحة بالأنظمة العربية التي تشكل إيديولوجياتها خطرا كبيرا على استمراريتها، بعيد قرار تقسيم فلسطين الذي أتاح لها الدخول في المرحلة الثانية في تنظيم الإستراتيجية الأمنية وفق فلسفة معينة تضمن المحافظة على استمرارية المجتمع الإسرائيلي، عن طريق عسكرته داخليا، وذلك بالإنطلاق من المبادئ التوراتية حول أرض الميعاد، وقداسة الدفاع عنها بكل الطرق، وهذا ما يبرر إستعمالها المفرط في أي عدوان لأسلحة محرمة بالقانون الدولي، وكذلك تبني خيار «الهجوم» واتخاذ أسلوب الحرب الخاطفة.
ويرتكز هذا الأسلوب الإستراتيجي حسب الفلسفة الأمنية الإسرائيلية، تتطلب أمرين هامين على الصعيد العسكري المباشر:
أولا/ إبعاد ميدان الحرب عن الأراضي المحتلة، وهو ما ثبت فعلا في كل الحروب الإسرائيلية، حيث كانت تل أبيب تبادر دائما بالضربة الأولى، ولعل أهم أمثلة على ذلك ما حصل في حرب 1967، وبعيد وقف إطلاق النار والهجوم العكسي الذي قام به شارون باتجاه القاهرة في سنة 1973.
ثانيا/ التركيز دائما على لعبة معقدة وهي جمع العمليات الإستخبارية السرية، التي تؤمن بها العقيدة الأمنية الإسرائيلية في تعاملها مع الدول العربية، وهي اللعبة التي تكفل معرفة الأرض قبل الضربة الخاطفة، وتوجيه ضربات محددة جعلتها تكون الغالبة دائما في الحروب من الناحية الإستراتيجية الحربية، أي في الصراع الميداني، ومن ثم مكنتها في مرات عديدة من ضمان تكسير إرادة الخصم.
حرب على اتجاهين
من هذين المنطلقين فإن الفلسفة الأمنية الإسرائيلية، والتي تنطلق من أن هناك حربا معلنة ضد كل مكونات المحيط الذي توجد فيه والمتكون أساسا من العرب، تعتبر أن الحرب يجب أن تجرى على اتجاهين: اتجاه حربي سياسي-عسكري مع بلدان التماس المباشر، واتجاه حربي سياسي، وهو الذي تمارسه ضد الدول العدوة البعيدة عن التماس المباشر كالسودان وتونس والمغرب والعراق وحتى إيران.
وتقتضي ممارسة هذه اللعبة من إسرائيل أن تجند بداخل كل هذه الدول الكثير من العملاء الذين يستطيعون مدها بمعلومات عن مختلف الحساسيات السياسية والإجتماعية والإقتصادية التي يمكن أن تستعملها كأطراف جذب في أي فرصة تمكنها من تفتيتها وإضعافها وذلك في صالح مشروع التطبيع، الذي قد يكفل لها الإلتحام ضمن النسيج العربي المحيط بها، والذي من شأنه أن يشكل نقطة زمنية قد تقطع مع الماضي يبدو أن الإسرائيليين يسعون لها.
الويكي وتونس والإستراتيجية السرية
وعلى هذا الأساس، فإن ما حصل من انفصال جنوب السودان، ومحاولة التفتيت السياسي للبنان بعد الفشل الحربي في تحقيق ذلك، ونجاحها بالتعاون مع بلدان التحالف الأنقلو-ساكسوني، في تفتيت العراق طائفيا، كلها تعتبر نجاحات للاستخبارات الإسرائيلية ومنظريها بداية من الرئيس الحالي، شيمون بيريز.
ولكن بالنسبة لتونس يبدو ذلك غير ممكن، باعتبار لأنه لا يوجد في تونس اختلافات طائفية ولا حتى اختلافات سياسية، فالبلاد ظلت تحت حكم الرجل الواحد منذ الإستقلال، بداية من بورقيبة الذي كان يمثل رجل اللائكية الأمثل، وهو من رجال الإستقلال الذي كان يوصف برجل فرنسا في تونس، غير متأثر بالقومية العربية التي تعتبر الخطر الأكبر بالنسبة لإسرائيل في الخمسينات، فكان بالنسبة للإسرائيليين الحاكم المستبد الذي يمكنه تأمين بند الأمن بالنسبة للإسرائيل وضمان المصالح الغربية كذلك. وعند سقوطه، كان الإختيار صعبا بالنسبة الأمريكان والإسرائيليين في اختيار «سلطان» آخر، فكان بن علي، المتخرج من مدرسة الأمن والإستخبارات التابعة لـ»سي.أي.إيه» في فرجينيا، والذي أمسك بزمام الأمور، بيد من حديد، ومد يديه تحت الطاولة للتطبيع سريا مع الإسرائيليين، وخاصة تجاريا وسياحيا، منفذا للرغبة الأمريكية التي عينته بمباركة أوروبية وخاصة فرنسية، وتغاضت عن ممارساته المنافية لمختلف حقوق الإنسان تجاه الشعب التونسي، وعن محيطه الأسري الفاسد من الطرابلسية وعائلته.
عملية عسكرية
وتدل بعض المؤشرات على أن يدا إسرائيلية مدت للمليشيات الرئاسية بالسلاح والعتاد ومن بينها العثور على بعض الخراطيش في الشوارع تحمل كتابة عبرية، ما يشكل دليلا بارزا حول تغلغل إسرائيلي استخباري، كانت عائلة الرئيس المخلوع تمارسه مع تل أبيب مقابل أموال طائلة، وهو أسلوب عادة ما يستعمله الموساد في عمليات تجنيده، ولعل عملية الإجلاء لـ21 يهوديا تونسيا والتي قامت بها خلية «الفهود السوداء» التي كما كشف التلفيزيون الإسرائيلي، قد تكون عملية إجلاء لعملاء كانوا يسهرون على تدعيم هؤلاء الطرابلسية ومليشياتهم خاصة وأن تعلة الهجرة لإسرائيل لا تفسر تلك العملية التي وصفت بالمعقدة، لإجلاء 21 يهوديا من جملة 1500 يهودي يعيشون في تونس، وكذلك ما يفسر استعمال السفير الأمريكي في تونس لكلمة «مافياوي» للتعبير عن حالة عائلة الطرابلسية في تسريبات ويكيليكس للبرقيات السرية الأمريكية.
وقد يعطي هذا تفسيرا لعملية سرقة اليخت من الساحل اللازوردي الفرنسي (cote d'azure) التي قيل أن عماد الطرابلسي ضالع فيها والتي تمت بطريقة معقدة تذكرنا بعملية الموساد التي قام بها لسرقة قوارب سريعة فرنسية عسكرية كانت ستصدر لأحد البلدان العربية في الستينات، والتي يمكن أن تكون تدريبا ميدانيا حول تقنيات كان هذا الطرابلسي تلقاها من الموساد.
وعلى هذا الأساس، فإنه يبدو أن القلق الإسرائيلي الذي دلت عليه تصريحات نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي سيلفان شالوم من تداعيات التي أسماها غير المباشرة التي قيل أن الثورة التونسية التي ستحدثها في مجتمعات عربية أخرى سيمثل خطرا مباشرا على الأمن الإسرائيلي، ولذلك جاءت تعليقات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتصب الزيت على نار عملية السلام، خاصة وأن أحداث تونس وتداعيات ما يجري في لبنان مع صدور القرار الظني، قد يحول الإدارة السياسية في تل أبيب تتوجه نحو التكتل في الإتجاه عسكري الحربي والمطالبة بسقف أمني، في أي اتفاق سلام آخر يمكن أن يبرم، خصوصا مع بداية نجاح الديبلوماسية الفلسطينية في اعتراف بالدولة في نطاق حدود ما قبل 5 جوان 1967.
من هذا النطاق قال داني ياتوم أحد رجالات الموساد السابقين أن الثورة التونسية ستمتد إلى أراضي التماس المباشر. وأعطى مثالا قائلا في تدخله في القناة الإسرائيلية أن الأجهزة الإسرائيلية لن تقف مكتوفة الأيدي إذا ماحصلت ثورة في الأردن. ويأتي حديث ياتوم في الوقت الذي قالت فيه صحيفة «جيروزاليم بوست» أن ملك الأردن بدا قلقا جدا من الثورة التي حصلت في تونس والتي يقول عنها المجتمع السياسي الإسرائيلي أنه يتابعها عن كثب عن طريق ما أسماهم «مسؤولين إسرائيليين هناك».
إنه الارهاب الإسرائيلي الذي يسعى عن بعد لوأد أي تحرك شعبي ضد الأنظمة الفاسدة في العالم العربي باعتباره خير ضمانة لاستمرار الهيمنة الصهيونية والتحكم الصهيوني في مقدرات المنطقة.