كان ابن طفيل الطبيب العربي الأندلسي الفيلسوف يقول مناقضًا معاصريه: "كل مكان له حدود له نهاية". وكنت أظن أن النفس أو الروح عند الإنسان خاصة ليس لهما حدود، واكتشفت منطقيًّا أن النفس والعقل أيضًا لهما حدود، فهما كامنان بين جنبي كل أحد، فالجسد البشري أيضا له مثل الكون حدود. وكلمات النفس والروح والعقل ليست إلا مسميات ذات مدلولات متقاربة لمدركات العقل الحسية للمحسوسات، والتخييلية للمتوهمات والحدسيات، والتصورية للمعقولات. وبها مجتمعة يحيا الإنسان حياة متميزة عن كل الأحياء، يتجاوز بها، بالتصور والتوهم، حدود حيزه الجسدي، ويحلق في رحاب الأماكن والأزمنة منذ طفولته وصباه، وإلى أن يودع الدنيا في رحاب الكون من حوله، المشهود منه في الحاضر، والخفي المغيب منه في الماضي والمستقبل، والمعلوم منه والمجهول، ويعرف الطريق إلى الإبداع: إلى العلم ليكتشف علمًا، أو يتوصل إلى اختراع، وإلى الكلمة ليتواصل بها مع رفاقه من البشر، مشافهة ومكاتبة، ويبتكر شعرًا وقصًّا ونقدًا ودراسة ومسرحة، ورسمًا للوحات ونحتًا للتماثيل منقوشة بارزة وغائرة، وصورًا تحاكي الواقع بواقع وهمي مجسد في المرئيات.
وتحليقات المبدعين من العلماء والأدباء والفنانين تتفجر في العقول والنفوس الحبيسة في أجسادهم، حين يواجهون مشكلة ما عقلية، ويروحون يبحثون لها عن حلول ونظريات وقوانين وتجسدات خيالية شتى، بحثًا عن طرق بكر جديدة للتقدم وللتعبير، وإطلاق رؤاهم كمرسلين إلى رفاقهم من البشر كمستقبلين. المبدع حبيس المكان نعم، ولكنه طليق في المكان منه إلى كل مكان، بل وإلى لا مكان في آن واحد، بطاقة خلق فريدة كامنة فيه، فيما نسميه بالعقل والنفس والروح، وتظل الطاقات حبيسة في نفوس غير المبدعين لا تجد لها طريقًا للتصورات سوى الحلم والشرود، إلى أن تطلقها في عقولهم معطيات المبدعين.
قد تنبثق الفكرة العلمية في ذهن العالم أو التجربة الشعرية أو القصصية أو المسرحية أو الفنية في ذهن الأديب أو الفنان وهو نائم في الحلم أو وهو يأخذ دشًّا في حمام، أو وهو يفرغ مثانته، أو وهو جالس بين الناس، أو يركب طائرة أو سفينة أو حافلة. كثيرًا ما حدث كل ذلك معي. وأكاد أتذكر مولد كل قصة كتبتها. لكن تنفيذها لا بد وأن يكون في مكان أثير لي، في خلوة متوحدًا مع نفسي حتى لو كنت وسط جمع من البشر، فقط أنزل على أذني الستائر فلا أسمع إلا صوت نفسي في داخلي يملي عليّ ما أقول، وأسدل الستائر على عيني فلا أرى إلا عملي، وتكف حواسي الأخرى تقريبًا عن التنبه إلى غير ما يشغلني. أنا الآن في ذروة مجهِدة، أخرج منها سعيدًا ومريضًا في آن واحد، أو هكذا أكون أنا حين أنجز عملا إبداعيًّا، كأنني كنت في حمام من البخار، وعلي وشك المرض بالإنفلونزا، تكاد الدموع تتساقط من عيني، وقد كنت قبل لحظة فقط سليمًا معافى، قبل أن أضع نقطة النهاية لعملي.
في بداية الحلم بأن أكون كاتبًا، في زمن المراهقة والأمل والحماسة، كنت أجرب حظي مع اللغة وتجارب الكتابات الأولى في بلكنوت مسطر الصفحات بقلم كوبيا. كنت أكتب جالسًا إلى منضدة بمقهى هاربًا من سؤال الأهل. ماذا تكتب؟ ماذا تفعل؟ ومن نصائحهم: ذاكر كتب السنة القادمة أحسن.
في المقهى لا أحد يسألك شيئًا عدا الجرسون غالبًا: ماذا تشرب؟ قد ينظر إليك بعض المتوحدين بالمقهى، ولكنه لا يلبث أن يشيح بوجهه عنك، فلا بد وأنك في تقديره كاتب حسابات، أو عرضحالات.
كانت المقاهي الشعبية مكاني المفضل الأثير إلى نفسي، في بداياتي بالمنصورة، ثم في القاهرة، بعضها لم يعد له وجود، مثل مقهى الأوبرج بحي السيدة زينب الشعبية الذي هدم الآن ووسعت به ساحة المسجد للمصلين ورصيف المسجد لباعة الأرصفة.
ستون عامًا من ممارسة الكتابة والتوقف عنها لاكتساب خبرات جديدة خاصة في البدايات وقت البحث عن عالمي الخاص المتميز، بالقراءة أولا لعدة سنين في الروائع من مترجمات الأدب العالمي وكتاب مصر والعرب الكبار، وثانيًا بالقراءة في حياة الناس من حولي وكتاب الطبيعة المفتوح في السماوات والأرض ما سوف يكون لي زادًا في القص، من المعاناة والحكايات والنماذج البشرية والأحداث والوقائع.
كانت الأماكن العامة والمقاهي خاصة والكافتيريات أحيانًا زادي في ذلك، ففي كل بلد عشت فيه كان لي مقهى أو كافتيريا خاصّ أختاره بعناية، أظل أتنقل من مقهى إلى آخر ومن كافتريا إلى أخرى حتى تستريح نفسي لإحداها فلا أفارقها إلا بمفارقة الحي أو البلدة.
عبر ستين عامًا عملت في أكثر من مهنة، لكنني في النهاية فضلت مهنة التدريس، فهي مهنة تمنحك كثيرًا من الوقت لنفسك ولأفكارك. ومعها تنقلت في أكثر من بلدة بمصر، وتعددت تجاربي في قراءة البشر، ومع كل بلدة كافتيريا قريبة إلى نفسي ما زلت أتذكر كراسيها وطرق انتظامها، وهيئة جدرانها، وزجاجها، اكتشف الآن أن جميعها كانت تشترك في شيء هام هو عبير نفسي الذي أبحث عنه دائمًا.
منها: نادي مركز البداري السامق الأشجار بصعيد مصر، ثم في كازينو الشاطبي بالإسكندرية الداخل من الشاطئ في مياه البحر المتوسط، وأخيرًا في كافتيريا الجزيرة الجميل بالمنيل الذي شهد كتابة كثيرًا من قصصي خاصة روايتي أصوات التي كتبت في ثمانية جلسات، وغيرها، وغيرها عبر أكثر من ثلاثين عامًا.
تحولت هذه الكافتيريا الآن إلى حديقة عامة على شاطئ النيل. حين فقدتها شعرت وما زلت أشعر حتى الآن أنني فقدت جزءا من حياتي. وبالرغم من بلوغي الثمانين ببضع سنوات، فنزهتي الصباحية الرائقة حينما تسمح حالتي الصحية المشي بالقرب من تلك الحديقة، ولا أجرؤ على دخولها حتى لا تنمحي ذكرياته، مشاهد جلوسي على منضدة بوسط الكافتيريا منكفئًا على ورقي أكتب كتابة متواصلة لا تتوقف إلا مع غروب الشمس، والجرسون الصعيدي الأسمر الذي حفظني وحفظ جلستي وهو يحضر كوب الشاي لي في لحظة شرودي وتوقفي للحظات عن الكتابة للتفكير، وكأنه كان يرقبني وحدي طوال الوقت عن بعد، وكأنه كان يساعدني على الكتابة بهذا الكوب. وما زلت أتذكر لحظة خروجي المتردد من الكافتيريا بعد غروب الشمس متأملا في الأشجار من حولي في انتظار صباح جديد.
في بعض الأحيان حينما أتذكر هذه الكافتيريا أحدث نفسي قائلا: لولا هذه الكافتيريا ما كتبت معظم قصصي.