الرجال هم الأغلبية في أدب نجيب محفوظ، ذلك أمر طبيعي في مجتمع أبوي ومتخلف، ومن يقرأ قصص نجيب محفوظ سيلاحظ ثلاث مجموعات رئيسية: عالم الموظفين، وعالم الفتوات، وعالم الدراويش. وبصورة خاصة فإن الموظفين يحتلون أغلب القائمة، وأغلب هؤلاء من الكتبة والاداريين.
1
وتكاد مشكلات التوظف والوظيفة، والترقي في الدرجات والتنافس عليها أن تحتل جانبا كبيرا من المشكلات القصصية في تجارب نجيب محفوظ، وهذا طبيعي. فنجيب محفوظ ابن القاهرة المركز الرئيسي لموظفي الدولة، وهو نفسه، عمل أثر تخرجه من الجامعة كاتبا في سراديب وزارة الأوقاف، وعمل كموظف مثالي صغير، يضع علي رأسه الطربوش ويزرر جاكتته. فنجيب محفوظ حين يكتب عن الموظفين، فإنه يكتب عما عاشه، وعاناه، عما يعرفه معرفة حياتية واثقة، يكتب عن معاناته وقلقه.
2
كتب نجيب محفوظ، الأقصوصة، والقصة القصيرة الطويلة، هي محورها البنائي، وكل ما حولها يدور في فلكها لإضاءتها .. و(حضرة المحترم)، تقدم لنا في بنائها المحكم، المصمم بوعي واقتدار، شخصية الموظف "عثمان بيومي" في موقف من مواقف الحصار النفسي، السلوك العصابي، الثابت والمهووس. هو موقف السعي الحالم، والطموح، إلي بلوغ قمة يرنو إليها كذروة خاصة لحياته وكمعني لتحقيق وجوده في الحياة. ألا وهو منصب المدير العام.
وفي الحدود المرسومة قدم لنا نجيب هذا الموقف من خلال مسيرة الشخصية إلي هدفها، وقدم لنا ما يحيط بهذا الموقف الأساسي العام من مواقف. ولكن الوظيفة كظاهرة اجتماعية تظل في هذه الرواية، غامضة، ومبهمة، وملقاة في الظل. وهذه الشخصية الكاريكاتورية التي تقوم علي المبالغة المأساوية تظل نموذجا واحدا يبتعد بنا عن واقع الظاهرة الاجتماعية ومن ردود أفعالها، دون فعل حاسم للنجاة من الوظيفة كصورة من صور العبودية الحديثة.
لقد تغاضي نجيب محفوظ في روايته، عن الوظيفة كظاهرة، وعن حالات من الموظفين، ومواقف غنية كان من الممكن، بمواقف حضورية لا سردية، كما فعل هنا ان يقودنا الي بناء عالم أكثر رحابة ومستوي أرقي. وحصر نفسه، بروايته القصيرة، في تشريح شخصية عصابية، وشاذة: كان يمكن ان يحمد له تشريحها، لو اغتنت الشخصية بالمبررات في نسيجها، منذ البداية، لو استبدل لنا سرده التلخيص بالمواقف الحضورية، التي يسلم كل منها للآخر، ويضيئه ويبرره.
3
من المسلم به ان يراعي الروائي رد الفعل النفسي لشخصيته حين تواجه موقفا ما. ولكن من المسلم به ايضا ان يكون رد الفعل مساويا للعمر النفسي والزمني والثقافي لهذه الشخصية. وعلي سبيل المثال: فحين يقول "سعفان افندي بسيوني" رئيس المحفوظات، وقد كبر في السن لموظفه الجديد "عثمان بيومي" حامل البكالوريا، وهو دون العشرين في العمر:- "اهلا. اهلا.. الحياة يمكن تلخيصها في كلمتين: استقبال ثم توديع" تكون الحكمة مقبولة من الشخصية، وفي مكانها: من خبرة حياة سعفان، وعمره النفسي والزمني، ولكن حين يعلق "عثمان بيومي" وهو دون العشرين، علي هذه الحكمة بقوله لنفسه: "ولكنها رغم ذلك لا نهائية. في حاجة إلي ارادة لا نهائية" يكون التعليق حكمة سابقة لأوانها بالنسبة لشاب مراهق، مهما كانت حدة مراهقته حيال الكون.
ان العبارات الحكيمة هنا، بالنسبة لعثمان بيومي، تأتي في غير أوانها، ولذلك نتلقاها، بمحض الادراك الذهني، كمقولة تقريرية ومباشرة وتشعرنا بأنها تدخل من الكاتب، يتجاوز ردود القول والفعل لشخصية عثمان. لكن هل هي حقا مجرد تدخل من الكاتب، يمكن ان يحسب في عداد الحشو، والزيادة والكليشهات الموروثة؟ لماذا لا نقول ان هدف الكاتب من ذلك، ان يفرغ منذ الفصل الأول، من عثمان بتحديد الملامح الفكرية والنفسية لشخصيته، التي ستلقي بظلها علي ردود فعله، ومواقفه، وسلوكه ونهج حياته في الرواية كلها؟
ولو ان نجيب محفوظ وضع يده علي العقدة الجوهرية في شخصيته، وما يؤدي اليه من طموح طبقي في السلم الاجتماعي، عقدة ان اباه سائق عربة كارو، وأمه دلالة، وأخاه مات في السجن وأخاه الآخر مات في مظاهرة بأيدي الثوار، ولو انه جعل "العقدة" هي فكرته عن العالم، وعن الوظيفة، عن النار المشتعلة في صدره. لتغيرت معالجته لهذه الشخصية، ورؤيته لعالم الموظفين، بل لتغير بناؤه كله في "حضرة المحترم". وهي العقدة التي اشار اليها نجيب في روايته، دون ان يبني فوقها وينسج حولها احداث وشخوص روايته. بل ولفسر لنا روائيا، السر في بخل عثمان، والسر في عزلته، والسر في تقديسه للوظيفة وتأجيله عن السياسة عما يجري حوله في مجتمع صاخب، يضج بالحركة، ويدور حول نفسه، باحثا عن المخرج والخلاص.
4
في ألوان الأدب الدرامية، يخضع الحوار، كوسيلة درامية، للتعبير عن الشخصيات في موقف، للغة خاصة به، هي اللغة الحركية، التي تعبر عن الواقع الفكري والنفسي لكل شخصية علي حدة، الي الدرجة التي يختلف فيها حوار كل شخصية عن الأخرى، بمقدار اختلاف الشخصيات في التفرد الخاص بها، كعوالم مستقلة بذواتها، كأكوان صغيرة، فريدة، نراها من حولنا دائما، ونرى صورها في أعمال الأدباء، والفنانين العظام، يختلف في القاموس اللغوي سواء كانت هذه اللغة عامية، أو فصيحة، ويختلف فيما يعكسه حوار كل شخصية في الموقف الخاص، من مستويات ثقافية ونفسية، وطبقية ايضا. وتلك امور فنية هي جزء من العمل الدرامي، ووسيلة فيه، للوصول الي التأثير والاقناع، بين وسائل التعبير الدرامي، التي تستهدف جميعا هذا التأثير والاقناع.
لكنني لاحظت كثيرا، ان شخصيات نجيب محفوظ، حتي في مرحلة الواقعية، تتكلم غالبا بنفس اللغة الراقية، وبنفس المستوي الأسلوبي، الرفيع، وبنفس التقارب الفكري والنفسي، وكان الكاتب قد قسم لغته، وقاموسها بين شخوصه، وتحدث لنا نيابة عنهم، دون ان يتقمصها، أو يتلبسها، كما فعل جوجول، ودستويفسكي وتشيكوف وشتاينبيك وهمنجواي ويوسف ادريس بل يفعل ذلك مع كل الشخصيات بنفس الطريقة وبنفس المستوي، في مونولوجات هذه الشخصيات، وحواراتها الداخلية: وينقل لنا ان نبلع ذلك علي مضض في روايات نجيب وأقاصيصه الذهنية في مرحلته التجريدية، مع تحفظنا الشديد حيالها فنيا، لأن الكاتب يضحي فيها بالكثير، لكي يقول لنا آراء وأفكارا سياسية، لكنه في "حضرة المحترم" يحاول ان يعود ليصل ما انقطع برواياته الواقعية، وفي هذه العودة يتحرر كثيرا من أسلوبه الفضفاض، وسرده التلخيصي، والتاريخي للمواقف، وللشخصيات، ويتحرر كثيرا من الاستطرادات ومن الحشو والاطناب، في غير مقام أو سياق ولكنه لا يتحرر من ثبات مستويات حوار الشخصيات، وتقاربها حتي ان أية شخصية قادره علي ان تقول "كلا" بدلا من ان تقول "لا" نري ذلك في حوارات: عثمان، حمزة بسيوني، والمدير العام، وسعفان، وأم حسني، وقدرية، وسيدة، وأصيلة، وإحسان، وأنيسة، وراضية.. الي آخره ولقد يغفر له هذا التشابه، تشابه أكثر الشخصيات في نوعيتها، وموظفين، ومتعلمين، ولكن يظل مفقودا في الحوار، ذلك التفرد الخاص بكل شخصية، في روحها، وفكرها، ونفسيتها، كما في وجهها وبنيانها الجسدي، وملامحها، وحركاتها اليومية.
5
بعض الروائيين الذين قرأت لهم، تبدو تجاربهم اغني واخصب من قدرتهم الروائية، ولذلك تستمد رواياتهم غناها وخصوصيتها من خصوبة تجاربها وبعضهم تبدو قدرتهم الروائية اكبر من التجارب التي يعالجونها وتبقي رواياتهم شامخة وغزيرة بسبب هذه القدرة واعترف ان رواية "حضرة المحترم" علي قصرها، تستمد غناها من غني تجربتها، وامكانيات هذه التجربة، ما طرح منها وما تستثيره في نفس القارئ عن الموظف المصري، وتجربة الموظف في مصر.
ويخيل الي أحيانا ان احتفاء السينما والتليفزيون بقصص كتابنا قد جني عليهم وقلل من قدرتهم علي العطاء القصصي الخالص الدءوب والصبور. فقد جعل عينا لهم علي القصة، وعينا اخري علي الشاشة الكبيرة أو الصغيرة. بل جعلهم يروضون بناءهم الفني وسبرهم لأعماق التجربة وتمازج الشخصيات، والمواقف القصصية، لإمكانيات الصورة. وأخشي ان اقول قولا فيه مصادرة علي الموضوع: "انهم صاروا يكتبون قصصا سينمائية تيسر للسينارست والمصور والمخرج عمله".
ولم اشعر قط في "حضرة المحترم" بجو العمل الوظيفي، ورتابته، وتوافهه الصغيرة وتعليقاته، ومنازعاته، ومجاملاته، حتي المكان والزمان، هما من "جغرافية" الرواية. كانا غائبين دائما، ولم افقدهما ابدا في اية رواية عظيمة، قصيرة كانت او طويلة، ذلك راجع اولا، الي ان نجيب محفوظ حصر نفسه، وحصرنا معه، في بطله المحاصر، ففقدنا المكان، الزمان، وحيوية الشخصيات، وساد من حول "عثمان بيومي" ذلك الشعور، الذي يجعل من عالم الفن الوهمي عالما حقيقيا يحمل كثافة الحياة، وعنفوانها، عظمتها وحقاراتها، جدها وهزلها. لقد جنت حقا روايات نجيب محفوظ واقاصيصه التجريدية، طوال ما يقرب من عشرين سنة، علي امكانياته في العطاء الواقعي، علي مستوي روائي، حين شرع في الانعطاف بروايته "حضرة المحترم" الي عالمه الروائي الواقعي الأول.
لقد بدت لي مواقف رواية (حضرة المحترم) وانتقالاتها متجاورة في الرواية، بترتيب مرقم ومسلسل، يجعلها، كأنها قصاصات كتبت تحت عناوين ونقاط وعناصر متوالية عدديا. فجاء بناؤها مبوبا، وقد فقد فاعليته الدرامية، وجاءت شخصياتها كدمي تتحرك حركة باهتة، ما تكاد تظهر حتي تختفي. ومرة اخري تفقد رواية لنجيب محفوظ ديناميكيتها، ومرة اخري اشعر بان كاتبنا الكبير يتسرع بنشر مسودة روايته، في مشروعها الأول. وتخطيطها البكر، ويفقد علي غير عادتنا معه صبره القديم في الكتابة الروائية لعل روايته القادمة تسترد لنا وله.. ما خسرناه.