نحن الشرقيون روحانيون، شعوب ذات حضارة قائمة على المثاليات والأخلاقيات. نحن مهد الديانات، ومبعث الأنوار العليا. تحن رُسل الروح والهداية إلى الحضارة الغربية، التى هى حضارة مادية، قائمة على المنفعة القريبة، والحاجة العاجلة، تفرح ببهرجات العلم والمخترعات، بسؤدد القوة وزهو الانتصار، إلا أنها من الأخلاق والروحانيات، ومن الجوهر دون الأعراض، فى الحضيض وأسفل سافلين. لهم الدنيا ولنا الدين. لهم العاجلة ولنا الآخرة. أو هكذا زعم توفيق الحكيم فى روايته الشهيرة «عصفور من الشرق» (1938) وإلى حد أقل يحيى حقى فى «قنديل أم هاشم» (1944). أما سليمان فيّاض فيقص علينا قصة أخرى فى روايته القصيرة «أصوات» الصادرة فى 1972، أى بعد ما يزيد على ثلاثين عاما من رواية الحكيم، والتى أعادت «دار الشروق» إصدارها قبل شهور (2009). وإليكم تفصيل ذلك.
يحفل الأدب العربى الحديث بكمّ هائل من النصوص الروائية وشبه الروائية التى تعالج موضوع اللقاء ــ أو إن شئتم ــ الصراع الحضارى بين الشرق والغرب، ذلك الموضوع الذى بذر بذوره الأولى توفيق الحكيم فى روايته المذكورة، ثم توالت الأعمال ولا تزال حتى اليوم. وإلى هذه الفئة من القصص تنتمى أيضا رائعة سليمان فيّاض.
هى رواية قصيرة تكاد لا تتجاوز المائة صفحة، إلا أن أهميتها فائقة وذات مدلول تاريخى. فإن كان الحكيم قد أرسى فى «عصفور من الشرق» فكرة روحانية الشرق ومادية الغرب، وبالتالى سموّ الذات الشرقية على الآخر الغربى، فإن فياض جاء لينسف هذه الفكرة، ويُعلى من شأن الآخر الغربى على الذات الشرقية، فى عمل روائى صريح فى رؤيته الحضارية، صادم فى اختياراته، وغير مهاود فى نقده لمجتمعنا المصرى، وإعلائه لقيم الآخر الغربى فى المقابل.
هل تستغربون أن الحكيم، المولع بالغرب فى كل ما يكتب الآخذ عنه فنون المسرح والرواية، المنفق سنوات من صدر شبابه فى باريس طالما تغنى بها، وأحد رواد التحديث نقلا عن أوروبا فى الأدب والفكر المصريين فى النصف الأول من القرن الماضى ــ هل تستغربون هذه الإدانة منه للحضارة الغربية فى «عصفور من الشرق»؟ يحق لكم الاستغراب بلا شك.
ولكن إن عُرف السبب، بُطل العجب. أما السبب، فهو أن الحكيم كان يكتب فى الثلاثينيات، فى أوج فترة النضال الوطنى ضد الاستعمار البريطانى فى مصر، والهيمنة الأوروبية فى العالم العربى وسائر الشرق، فأراد أن يدعم الروح القومية بأن يكتب عملا روائيا يظهر فيه التفوق المعنوى لحضارة الشرق على الغرب رغم انهزامها المادى أمامه، فكان طريقه إلى ذلك أن يكتب مجازا روائيا يقوم على قصة حب بين الفتى المصرى «محسن» والفتاة الفرنسية «سوزى»، جاعلا منهما رمزين يجسدان، كل على حدة، قيمهما الحضارية، كما أراد الحكيم تصويرها، وليس موضوعيا.
هكذا يجىء محسن مثاليا، بريئا، رومانسيا، مخلصا، منغمسا فى التأمل والبحث عن المعرفة، بينما محبوبته سوزى الفرنسية تـُصور مادية، نفعية، استغلالية، مخادعة، تستغل تدلهه لإشعال غيرة حبيبها الحقيقى الذى كان اهتمامه بها قد فتر، فما أن يعود إليها حتى تنبذ محسن بلا تردد. ومن هذا التصوير الكنائى إلى جانب محاورات مسهبة بين محسن وصديقه «إيفان» الذى يستخدمه الحكيم بوقا لأفكاره تتفق الرؤية الحضارية الزائفة عن مادية الغرب وروحانية الشرق، والتي تنصلّ منها الحكيم نفسه فى مقابلة صحفية أعقبت الرواية بعشر سنوات.
ليس هكذا الأمر لدى سليمان فياض، وإن كان هو أيضا لم يسلم من تأثير الظرف التاريخي والاجتماعي فى رؤيته المخالفة التى تتفتق عنها «أصوات». تدور هذه الرواية القوية البناء، المحكمة فى ايجازها، العالية فى جمالياتها بما يترك «عصفور من الشرق» تلهث وراءها ــ تدور ليس فى باريس، وإنما فى قرية بدلتا مصر. هكذا ينقل فياض ساحة الصدام من أرض الآخر إلى أرض الذات.
إلا أن المعادلة الأساسية للمجاز تبقى كما وضع خطوطها المهندس الأصلى لهذا القالب الروائى، توفيق الحكيم. فالغرب تمثله الصحفية الفرنسية «سيمون»، أما الشرق فلا تمثله شخصية بعينها وإنما القرية المصرية بكاملها. تأتى سيمون فى زيارة أولى (وأخيرة كما سيتضح) لمصر فى صحبة زوجها، رجل الأعمال «حامد»، ابن القرية الذى هرب منها صبيا قبل ثلاثين سنة وانتهى فى فرنسا التى أعطته التحقق والنجاح، والآن يعود ليعرّف زوجته الفرنسية على وطنه الأصلى، وليقدم لقريته شيئا من ثمار نجاحه. تنقلب القرية رأسا على عقب جراء هذه الزيارة، تماما كما انقلبت رأسا على عقب الدلتا المصرية كلها جراء الحملة الصليبية التى قادها لويس التاسع فى القرن الثالث عشر والتى انتهت بهزيمته فى فارسكور أيام الدولة الأيوبية وأسره، وفيما يُشاع إخصاؤه فى الأسر قبل أن يُفدى بمبلغ باهظ ويُطلق سراحه.
يستخدم القصاص البارع، فياض، هذا الحدث التاريخى، استخداما دالا. فها هى فرنسا تعود إلى قرية مصرية فى الدلتا، إلا أنها لا تأتى هذه المرة غازية، سالبة ناهبة، بل تأتى فى شخص الجميلة المسالمة، سيمون، التى تبهر القرية بجمالها وشبابها وحيويتها وبساطتها، التى توقظها من سباتها، أو تحييها من مواتها. إلا أن للبعث آلامه، وللنهوض من مراقد الموت الطويل إلى عرصات النور الباهر عواقبه.
تكتشف الذات عيوبها بمطالعة بهاء الآخر. يكتشف الرجال قبح زوجاتهم المتشحات دوما بالسواد، إذ تُعشى أبصارهم من جمال سيمون المكشوف للنور. وتأكل الغيرة قلوب النساء، اللواتى يتقلبن بين كراهة سيمون، وبين الإعجاب بها ومحاولاتهن المضحكة لتقليدها. كل هذا تفعله سيمون بدون جهد أو تعمُّد، تفعله بمجرد كونها ما هى عليه، بمجرد تقديمها النموذج المضاد: نموذج الجمال مقابل القبح، التقدم مقابل التخلف، الحيوية مقابل الموات، البساطة والتلقائية مقابل الرزوح تحت ثقل التقاليد الجامدة، إلى آخر هذه الثنائيات التى تلعب عليها الرواية بمهارة خفيّة.
فى النهاية ينتصر الموت على الحياة. تجتمع نساء القرية على سيمون فى غيبة زوجها، ويختنّها قسرا، مبتسرين من جسدها الحق الطبيعى للاستمتاع بالحياة، ذلك الحق الذى هن مسلوباته أصلا بثقافتهن الناكرة للحياة. تنزف سيمون حتى الموت. فتكون الزائرة المسالمة الحديثة أقل حظا من ملكها الغازى التاريخى الذى نجا بحياته قبل سبعة قرون، وإن فقد ذكورته حسب بعض الروايات. وحين يتآمر مأمور المركز وطبيب الصحة على استخراج شهادة وفاة زائفة، يتساءل الطبيب سؤالا كاشفا: شهادة موتها هى أم موتنا نحن؟
تتناصّ هذه الرواية مع نصيّ الحكيم وحقى بمفارقتهما فى رسالتها، إذ تنتصر للغرب على الشرق، مقدمة رؤية رافضة للذات، ناشدة الخلاص لدى الآخر. وهى رؤية لا شك أنها وليدة انهيار المشروع القومى بهزيمة 1967، التى تأتى الرواية بعدها بنحو خمس سنوات، ناعية أوهام الفرح بالذات التى سادت فى الفترة الناصرية، ومنكفئة على تأمل جراحها المتقيحة، متلذذة بنكأها، وفتق بثورها.