من بات بعدك في ملك يسر به
فإنما بات بالأحلام مغرورا
المعتمد بن عباد
الرسالة الأولى:
سيدي الكريم،
أنا آسف جدا لحظي التعس. كل الأشياء الجديدة والممتعة تحصل في غيابي، وأسمع عنها من أفواه الناس، بعد ذلك، أو أقرأ عنها في الجرائد فأود لو دفعت عمري كله مقابل لحظة حضور واحدة أحكيها، بعد ذلك، لتعساء الحظ مثلي. هو حظي التعس، وحده، ولاشيء سواه.
حين وقع الزلزال العظيم كنت بالخارج، أعبر بلدان أوروبا كلها في قطارات لاتكف عن الاهتزاز؛ بل لعل اهتزازي الآن، اهتزاز جسمي وأفكاري وإبهامي قدمي، هو مجرد بقايا للاهتزاز العظيم؛ ولما مات الحبر الأعظم وخرج الناس يمزقون ثيابهم ويحثون التراب عل رؤوسهم وجرت الدموع أنهارا في الشوارع كنت في السجن بسبب عدم رؤيتي الهلال في الوقت المناسب. لم أحضر حفل زفاف لاعب الكرة العملاق بالمغنية الحولاء، ولا سقوط الطائرة الهولندية على سوق السمك، كما لم أحضر لحظة تعويض التلفزة لمذيعيها بقردة استقدمتهم خصيصا من إفريقيا الوسطى… ففي كل مرة كان يحصل ما من شأنه أن يجعلني، وبترتيب كأنه مقصود، بعيدا كل البعد، أكاد أقول، خارج التاريخ العظيم الذي تصنعه بلادنا بحزم وإصرار، بفضل الإرادة الفولاذية لرؤساء بلدياتها ولاعبيها ومغنيها وصحافتها الجهوية ورسومها المتحركة.
ولا أخفيك، سيدي المدير، أن رغبتي في الصغر كانت هي أن أصبح ربان طائرة أسافر دون انقطاع بين مدن العالم؛ لكنني قنعت فيما بعد، والإنسان تصدمه الحيطان وتعلمه التجارب، بأن يسوقني الآخرون، مؤمنا بمشيئة القدر وبعجز البشر الضعاف عن أن يحققوا كامل أحلامهم وأمانيهم. كم من طفل يحلم، وهو بقاعة الدرس، بأن يصبح طبيبا أو مهندسا أو طيّارا، كي يتحول، عند الكبر، إلى مجرد كنّاس شوارع. مع أن ذلك لم يراود فكره قط، وكأنه بذلك يكنس أحلامه وأحلام الناس الضعاف تحت واضحة النهار؟
نعم. إنه حظي التعس وحده، ولا شيء آخر، هو الذي جعلني أغيب، مرة أخرى، ولا أشهد اللحظة التاريخية التي وقعت السماء فيها على الأرض. لقد جئت متأخرا فوجدت الناس يترنحون ذات اليمين وذات الشمال، والسماء عادت إلى مكانها، أو كادت؛ لأنه تهيأ لي، وسط الظلمة، أنها تتحرك صاعدة وأن نجومها تبتعد عنا أكثر فأكثر. كما تهيأ لي أن الأرض هوت بعض الشيء، وأن أكتاف الناس مبتلة بما يشبه الماء الأزرق. كان الناس ينظرون أمامهم في ذهول، ولا أحد، من أحبابي ومعارفي بينهم، يبدو عليه أنه يعرفني. هم ينظرون إليّ حقا، لكن لا أحد منهم يراني. عيونهم تخترقني وكأنني كائن هلامي شفاف تنظر عبره إلى ما يوجد ورائي، مع أنه لا يوجد ورائي سوى الهباء. ماذا جرى للناس؟ ماذا رأى الناس؟ وإلى أين تقودهم الآن خطواتهم المترنحة؟
إنني أموت شوقا، سيدي المدير، لأن أدفع عمري كله مقابل لحظة حضور واحدة؛ تهوي السماء فيها على الأرض وأنا بينهما فأعيش الإحساس والذهول الفريدين، ولا يهم ما قد يحصل بعد ذلك. لحظة مثل هذه تحصل مرة واحدة في الحياة، أو لعلها تحصل مرة واحدة في حياة البشرية كلها، ولسوء حظي أكون غائبا عنها. هو حظي التعس وحده ولا شيء سواه. لاشيء سواه.
حاشية أولى:
الرجل الذي يقف بانتظار الحافلة ليس رجلا، بل هو سلحفاة عجوز ضاعت منها صدفتها وضلّت الطريق إلى ماء النبع. وهو الآن، إذ يقف في الزرقة التي تسودّ، يحاول أن يتذكر أين كان وإلى أي مكان كان يريد أن يذهب. هو يحس، ولو بشكل مبهم، أن موقفه الآن سيضيّعه أكثر: فالطرق، أمامه، تذهب إلى كل الاتجاهات، والناس الذين يمرون أمامه وخلفه وإلى جانبيه يرتدون أصدافا ملونة رخوة غريبة ويتحدثون بلغات لا يفهمها؛ وها هو ذا المساء يقترب الآن ليخفي، مع رذاذ المطر، كل العلامات. إن الرجل ينظر في حيرة حواليه، ولعله يحدث نفسه بصوت لا يسمعه سواه، يحاول به لمّ شتات ذاته ومنعها من أن تهوي وتتفتّت على الإفريز. هو يبحث، اللحظة، في عيون الآخرين عن صدفته المفقودة وعن ماء النبع الزلال. وفجأة يدير رأسه فتقع عيناه على عينيّ، وتقع عيناي على عينيه. إنه لا يتمالك نفسه، الآن، وها هي ذي رجفة تتملكه وعيناه تنفتحان في ذعر وفرح: هو مذعور لأنه ما كان يتصوّر ذاته منكشفة حتى ذلك الحد، وهو فرح لأنه وجد لنظرته مكانا تستقر إليه، وأنا لم أستطع أن أشيح بوجهي كيلا أُضبط متلبسا بالجبن. إن نظرته يمتزج فيها السخط بالاستعطاف، وإحساس المهانة بالاتهام. هو هناك، فردا أعزل، وأنا هنا، داخل أصدافي الملونة. ووسط المساء البارد، وقطرات المطر التي توقفت عن الهطول منذ هنيهة فحسب، وأضواء العربات الملتمعة على الإسفلت المبتل، وجدت نفسي أرتعش وأمد أصابع يسراي مرتاعا إلى شاربي. وكما توقعت تماما، لتوّي، لم أخطئ اللزوجة الحمراء القانية وهي تسيل من أنفي وفمي، ولم أخطئ مصدر الألم بوجنتي اليمنى وأسفل ضلوعي وبفخذي الأيسر. وجدت نفسي أرتعش وأرتعش. ولما عدت ونظرت إلى جهة الرجل الذي هو سلحفاة تتظاهر بانتظار الحافلة لم أجد أحدا : لم أجد رجلا ولا محطة حافلات، وكنت وحدي أقف منهدّا تحت المظلة في وحشة الليل البارد والتماع الأضواء على الإسفلت. أرتعش وأرتعش و أرتعش مثل كتكوت غادر بيضته لتوّه.
الرسالة الثانية :
سيدي المحترم،
أودّ أن أخبركم بشيء حصل لي صبيحة يومه مباشرة بعد يقظتي الصباحية. فقد نظرت إلى وجهي في المرآة أطمئن عليه كعادتي منذ سنوات طويلة خلت، إلا أنني لم أجده في مكانه. ظننت، في البداية، أن المرآة مصابة بعطب، ولذلك فهي لاتعكس القسمات. غير أن الأمر تكرر في مرايا أخرى لم أجد فيها، بدورها، أثرا لوجهي على الإطلاق، فأحسست بالرعب.
ضعوا نفسكم في مكاني، سيدي المدير، وتصوّروا أنكم في صباح يوم جميل، بعد نعسة ممتعة، وحمّام دافئ منعش، أردتم النظر إلى وجهكم العزيز في المرآة قصد التملّي بطلعته البهية والتمتّع بالرغوة البيضاء على جنباته الفسيحة وبالموسى تلمسه وتطرد الزغب الأخضر من مسامّه، فإذا بعينكم لا تلتقط سوى الهباء. ترى، ما هو الشعور الذي سيراودكم في مثل هذه اللحظة؟ أما أنا، فلم أحس بغير الرعب.
حاولت تذكر أحلامي لليلة الفارطة فلم أفلح؛ بل لم أستطع الجزم فيما إذا كانت أحلاما حقا أم مجرد كوابيس. الشيء الوحيد الذي احتفظت به ذاكرتي هو وسواس الانتحار الذي تملكني عشية أمس بأكملها، إلى حد أني فاجأت نفسي، ساعة، وقد استطابته. كان الناس من حولي منشغلين بذهولهم لا يفيقون منه، وأنا أحس بأن كل كدّي في العمل والتحصيل خارج البلاد قد ذهب سدى؛ وكل أقربائي وأهلي ومعارفي الذين أضعت عمري لأجلهم هاهم يترنحون، وقد فغروا أفواههم إلى آخرها، ذات اليمين وذات الشمال. لذلك، ربما، تملكني الوسواس وصرت أفكر في جنازتي، وفي الناس الذين سيسيرون خلفها. مرة أراهم كثرا يتزاحمون ويتدافعون بتهاليلهم وسياراتهم، فيطفر الدمع إلى عيني، بل وأشرع في النهنهة مثل الأطفال؛ وتارة أراني وحيدا محمولا على أكتاف فقهاء فقراء مغمورين، فأبكي ثانية على نفسي وعلى أحوالي وأتمتم بألا كرامة لنبي في وطنه.
إلا أني، سيدي المدير، وبعد أن مرّرت فكرة الانتحار بذهني عشرات المرات، وجدتني أبعدها عن ذهني نهائيا، بجملة واحدة، باتّة وحازمة :" كلا. أنا لا أريد أن أموت. أريد أن أرى ماذا سيحصل فيما بعد ". كانت الفكرة من القوة حتى أنها جعلت جسمي يرتجف وجفنيّ يختلجان. أتدري مقدار القوة الكامن في بقائك شاهدا على ما سيحصل فيما بعد؟ أما أنا فما كان يخطر ببالي، قبل ذلك، أن أعظم شيء في الحياة هو أن نبقى لنعرف ماذا سيحصل فيما بعد. بعد ماذا؟ لا أدري. فقط يبدو لي أن الانتحار يبقى شبيها بمغادرة فيلم شيق في منتصفه، أو قبل نهايته. قد تكون النهاية عادية، أو تافهة أحيانا ولا شأن لها، لكن المهم هو أن تبقى جالسا في مقعدك لا يفوتك أي مشهد، إلى أن ينتهي الفيلم وتوقد الأضواء وتعود الحياة إلى القاعة، بمقاعدها ومشاهديها، وتكون أنت عرفت بنفسك كل ما حصل. إن نفَسك، حينها، سيعاود انتظامه، وستشعر في قرارة نفسك بمزيج من القوة والحكمة والرضى عن الذات.نعم. لكن، ما علاقة كل ذلك بوجهي، سيدي المدير؟ وهل وسواس الانتحار هو من تلك الوساوس الأسطورية التي لا نتخلى عنها دون أن نجد أنفسنا مضطرين لدفع الثمن؟
إن الحزن يتملكني الآن، وعضلات وجهي تتقلص، ومع أني لا أرى لي وجها يقابلني في المرآة فإنني أحس بدمعي الساخن ينهمر مدرارا : على وجهي الذي أضعته، وعلى السماء التي لم أحضر لحظة تهاويها على الأرض، وعلى الأهل والأحباب الذين تدلّت لحاهم حتى الرّكب وهم ينظرون إليّ دون أن يراني منهم أحد.
حاشية ثانية:
كنت أقف بسيارتي عند مفترق الطرق بانتظار علامة الضوء الخضراء حين رأيته يتقدم ناحيتي ثم يقف، جوار نافذتي، على الطوار ويهتف جذلا : محمود، ها أنتذا يا محمود. نظرت إلى وجهه محاولا أن أرسم بسمة على ملامحي فلم أفلح. أنا لاأعرف هذا الوجه. إن ثيابه مسودّة رثّة متآكلة، ووجهه الأسمر الغائم يختفي تحت شيب الشعر واللحية. فتحت فمي كي أقول له : من أنت؟ لكني لم أجرؤ على السؤال. ومثل خدر لذيذ خادع شرع في التسرب إلى عروقي أحسست أني أعرفه وأن وجهه مألوف لديّ تماما. لكن أين؟ أين يا ربّي؟ أين أعرف هذا الوجه الذي لم أره من قبل، والذي أدرك، مع ذلك، أني أعرفه حق المعرفة ؟قال : ها أنتذا، أخيرا، يا محمود؛ أتعبتني، والله، في العثور عليك. باغتني كلامه وأزعجني فمددت يدي إلى الزرالأسنان.قميصي أفتحه وإلى ربطة عنقي أخفف عقدتها الخانقة، وقلت في لهوجة: ماذا تريد مني؟ وضحك الرجل في صفاء فاتحا فمه الخالي من الأسنان. فسألت، ثانية، في قلق، وعلامة الضوء الخضراء تقارب الاشتعال: ماذا تريد؟ فتنهد والبسمة لا تفارق محياه وقال : ماذا تريد أنت؟ لا أنا.
بدأت الدنيا تغيم أمام ناظريّ، ففككت ربطة عنقي كاملة وفتحت زرا آخر بقميصي. الدنيا تغيم والحرارة ترتفع والنور الأحمر مشتعلا لا يزال وأصوات محركات السيارات ومنبهاتها تهدر وتزعق دون توقف. وهو، الذي يقف بجواري على الرصيف، أخذت صورته تهتز شيئا فشيئا، ثم تلاشت بالتدريج وسط عالم يغيم ووسط الحرارة والضجيج والغبار؛ ثم اختفت السيارة والبذلة وربطة العنق والمحفظة السوداء ووجدتني أقترب راجلا متعبا من سيارة زرقاء فارهة تقف عند مفترق الطرق بانتظار علامة الضوء الخضراء، وأرى نفسي جالسا وراء المقود في بذلتي الفخمة المعتادة، فأحسست بفرح غامر وقلت لنفسي إن بالإمكان إعادة الماضي وتصحيح كامل أخطائه وبدء الحياة من جديد، ولم أتمالك نفسي عن الهتاف : محمود، محمود، ها أنتذا يا محمود. لكن محمودا تجاهلني وتظاهر بأنه لايعرفني. وحين اشتعلت علامة الضوء الخضراء ضغط على دواسة البنزين وانطلق بسيارته مسرعا فارا مني نحو مصيره الوحيد الأوحد الذي ينتظره هو بالذات والذي لا يملك أيّ منا تغييره.
الرسالة الثالثة:
أيها السيد المحترم الكريم،
إن الأحوال، أحوالي طبعا، لاتسرّ. فمنذ تهاوت السماء على الأرض وفقدت وجهي، لم أعد أعرف إلى أين أسير. إن لحى الناس قد تدلّت حتى جاوزت الرّكب، وعيونهم مبحلقة دائما باتجاه الهباء، أو ربما باتجاه أشياء لا يراها أحد سواهم. ورغم امتلاء الشوارع بهم، تحسها فارغة؛ كأن الأمر يتعلق بأولئك البحّارة الذين أوقعهم البحر (أو حظهم التعس، مثلي)، كما يروي السندباد، في يد غول يؤكلهم طعاما يسمنهم ويذهب فطنتهم كي يلتهمهم، هو شخصيا، فيما بعد. إنك تتمنى، في حالة مثل هذه، أن تكون مثلهم، ذاهلا لا تحس بما يجري حولك، أو أن ترحل إلى بلد آخر، بلد بعيد، في نهاية العالم. لكني أنا، وأنا بالذات، لم يعد لرحيلي أي معنى بعد أن أضعت سنوات عمري في الطريق الخطأ؛ كي أكتشف، في النهاية، ألاّ مكان لي غير هذا المكان. بهبائه وأهله الضائعين وغيابي الدائم. لا عزاء لي سوى معرفتي الأكيدة بأن هناك في هذا الكون، بملايين الملايين من شموسه وكواكبه، نسخا عديدة مني، لأشخاص يشبهوني تماما، بلون عيني وشعري، ولدوا يوم ولادتي ويتحدثون لغتي أنا بالذات، ويجلسون في هذه اللحظة نفسها، وبتوقيت سرمدي، إلى مكاتبهم يحررون، كل من جهته، رسائلهم إلى السيد المدير. كلّ إلى مدير من مدراء كوكبه، يطلعه فيها على أحواله في هذه اللحظة الحرجة من التاريخ التي تتضمن عددا لا يحصى من العلامات. يكفي أن نفتح أعيننا لندرك أن العالم لم يعد هو العالم، وأن الناس لم يعودوا هم الناس. ولعل الواحد منا، إن هو أصاخ السمع، سيلتقط وسط الذهول والغبار تكتكة العد العكسي للنهاية. نهاية لا تشبه أية نهاية أخرى لأنها هي وحدها النهاية.
من المؤكد، سيدي المدير، أن أفكاري الآن مشوّشة مضطربة، إلا أني لست أهذي. فأنا أحسّ الآن، وأعرف، أني سأظل حاضرا هذه المرة لأشهد كل شيء. وإن كنت أخشى ألا أجد غائبا أروي له ما حصل في غيبته، أو ألاّ يجد غائب حين عودته من يحكي له كيف هوى النيزك الضخم على سطح الأرض واختفت الدناصير، كل الدناصير، إلى الأبد.
حاشية أخيرة:
كنت أسير، مطمئنا، إلى حتفي حين أوقفتني المرأة ذات الشعر الطويل والعينين السوداوين وقالت لي: أرجوك، أيها الغريب، أن تمسك بابني هذا لحظة أتمكن فيها من ضفر جدائلي. وأنا، الذي لم أتردد، أمسكت بالطفل بين يديّ مستسلما للحظة تشبه الحلم. حضنت الطفل بين ذراعي وناغيته، حاولت أن أناغيه، لكن المرأة شرعت، بغتة، في تمزيق ثيابها ورفعت عقيرتها بالصراخ. لم أفهم ماذا حصل بالضبط، وخيل لي أن اللحظة ليست شبيهة بالحلم، ولكنها حلم بالتأكيد، ولكنها كابوس. وحاولت أن أستيقظ من نومي. فتحت عينيّ وأغمضتهما، وأغمضت عينيّ وفتحتهما، غير أني كنت يقظانا بالفعل. وها هم الناس يتجمعون حول المرأة وحولي، وها هي ذي المرأة تواصل صراخها وتلطم خديها وتشير إليّ. وأنا الذي كنت، قبل هنيهة، أسير غفلا مطمئنا إلى حتفي بات عليّ أن أتوقف لحظة وأن أصبح مركزا للعالم. كانت المرأة تتكلم دون انقطاع، وأنا لم أفهم شيئا من كلامها. هي تتحدث عني على أني أب طفلها هذا، وأني اغتصبتها ذات ليلة في الخلاء بعد أن وعدتها بالزواج، لكني فررت منها طيلة السنوات الماضية، وهي ظلت تبحث عني، ظلت تتعذب وتبحث عنّي، وها هي ذي الأقدار تسوقني إليها اليوم. فالله يمهل ولا يهمل، وقد حانت ساعة الانتقام. ولم أفهم كل ما قالته المرأة بعد ذلك، فالأمر يتعلق بشخص آخر غيري بالتأكيد. وفي أسوأ الأحوال بواحد من الأربعين شخصا الذين أسرق ملامحهم، في هذا العالم، ويسرقون ملامحي. وأنا ابتسمت، وفتحت فمي كي أنبه المرأة إلى خطئها، وإلى أني خارج لتوّي من السجن الذي قضيت به عشرين ألف سنة بالتمام، دخلته طفلا على أعتاب المراهقة، وها أنا أخرج منه شيخا على أعتاب القبر. وأنت يا سيدتي تتحدثين، بالتأكيد، عن أشياء لا أعرفها ولا علاقة لي، البتة، بها. كدت أقول للمرأة كل ذلك لولا أن الناس الذين يحيطون بي ضيّقوا الخناق عليّ وتهاتفوا: أنظروا إلى النذل يبتسم ولا يستشعر ندما على فعلته. ضيّقوا عليّ الخناق بلحاهم الطويلة ووجوههم العابسة، ثم شرعوا في ضربي. أخذت لكماتهم تأتيني من كل اتجاه. وأنا لم أخف قط على نفسي قدر خوفي على الطفل الذي احتضنته بجسمي مبعدا عنه ضربة طائشة قد تخطئني وتصيبه. تكوّمت على الطفل وضممته إلى صدري بقوة، لكني أحسست به ينكمش بين ذراعي. نظرت إليه قلقا فاكتشفت، لخيبتي، أنه مجرد دمية من مطاط. حاولت، مرة أخرى، أن أستيقظ من الكابوس، لكني كنت يقظا وعيناي مفتحتان إلى آخرهما، والضربات أحس بها تنزل على كل جزء من جسدي : خذ يا عدو الله. خذ يا ابن إبليس اللعين. بل بدأت أحس بالضربات تخترق جسمي: ها هي ذي ضربة تخترق أضلاعي وتنفذ إلى رئتي، وها هي ذي ضربة أخرى تثقب بطني باتجاه المعدة، وها هي ذي ثالثة تخترق قحفي بدويّ كأنه انفجار قنبلة. واه كم كنت مطمئنا إلى جسمي، وواثقا بقدرة عظامي على حمايتي. لكن. ما أبأسه من جسم هذا الذي نحمله وننوء ونفخر به كي يتخلّى عنّا في أقرب فرصة.
إن أعضائي الآن تتفتت، وذاتي تهرب مني، وأنا أعود من جديد إلى وضع الجنين الذي كنته حين قدومي إلى هذا العالم. وها هي ذي الضربات تتزايد، وصراخ المرأة يعلو ويرتفع، ودمية المطاط تنكمش وتنكمش؛ وأنا، أقول لنفسي الآن، مضطرا : عليك أن تصبر قليلا أيها الولد، وأن تذهب بفكرك إلى ذرى أخرى، مؤجلا الحتف الذي كنت تذهب، مطمئنا، نحوه، إلى امرأة أخرى، إلى فرصة أخرى، إلى موت آخر.
باريس/ يوليوز 1989