قبل البدء:
مصطفى المسناوي، رحمه الله، واحد من المثقفين المغاربة المتشبّعين بمرجعيات متعددة ومختلفة. لقد كان رحمه الله، نموذجا في كتاباته ذات النفس الفلسفي والسياسي والنقدي والأدبي...باحث تدرّج واقتنع بضرورة هدم الحدود الفاصلة بين المعارف والفنون والإنسانيات. كلما قرأت بعض مقالاته هنا أو هناك، أو قرأت بعض كتاباته، أحسست أنه مثقف بصيغة الجمع المعرفي، كيف ذلك؟
في حدود هدم الحدود المعرفية (تجريب أول)
من الصعب أن تضع مصطفى المسناوي رحمه الله، في مجال معرفي واحد، لقد كان رحّالا ومسافرا، وهادما للحدود الفاصلة بين الفن والفلسفة والسياسة والإعلام الخ. هذا الارتواء المتعدد جعله، يوسِّع رؤيته لذاته وللآخر وللعالم ككل، رؤية منفلتة من قبضة التبسيط المعرفي، ومتشبعة بفتح نوافذ معرفية عديدة، وهو هنا رحمه الله، قريب جدا إلى ما نادى به العديد من المنظرِّين في مجال المعرفة الإنسانية، وأستحضر هنا بالخصوص، ما كان يؤمن به الكاتب الفرنسي "جون إيف تادي"، في مؤلفه "الحكي الشعري"، حيث كان هو الآخر مدافعا عن ضرورة هدم الحدود بين الأجناس الفنية.
هدم الحدود المعرفية بين الفنون والآداب والفلسفة والإعلام .. الخ، جعله، رحمه الله، يكون قريبا من هموم مجتمعه، بل قادرا على تشخيص الأمراض ومن زوايا متعددة. تشخيص نحن دوما في أمسّ الحاجة إليه، لاسيما في زمن تهيمن فيه، في عالمنا العربي ككل، تشخيصات السياسي في الدرجة الأولى، مقارنة مع تشخيصات المثقف/ الباحث، والتي عادة ما نجدها شبه مغيبة.
في تجربته الفنية الساخرة (تجريب ثان)
كتب نصوصا ساخرة عديدة، وهي نصوص انتقد فيها بفنية عالية، ما يعيشه مجتمعه وعلاقاته مع المجتمعات الأخرى، إيمانا منه بكون فن السخرية، فن من الممكن أن يُنبهّنا إلى عيوبنا، ومن ثم الرغبة في تصحيحها وتجاوزها نحو الأفضل، وفي هذا الصدد ونظرا لإيمانه القوي بهذه الوظيفة الفنية والنقدية والثقافية لفن السخرية، أفرد لها مؤلفا مستقلا تحت عنوان "مقالات نقدية ساخرة"، سنة1982 في هذا النوع من الكتابة استطاع أن يلفت انتباهنا إلى العديد من الظواهر الاجتماعية والسياسية، كتابة تميزّت بتملّك العبارة، وجعلها غنية بدلالاتها المتعدّدة، وجد مؤثرة في المتلقي، كتابات تؤكد مدى ارتباط الرجل بعمقه المغربي والعربي والإنساني ككل.
حول كتاباته السينمائية (تجريب ثالث)
كتابات تجعلك تقترب من عشقه للسينما، عشق بناه على "معيارية" خدمة الصورة لمجتمعها، كتابات هي اليوم، مرجعية خصبة في الممارسة النقدية السينمائية المغربية والعربية، فيكفي الاطلّاع على مؤلفه النقدي السينمائي النوعي، "أبحاث في السينما المغربية" 2001، لتشعر بكونه فعلا ناقدا سينمائيا ملمّا ومطلعّا ومتشبعا بعدة نظريات، ومنهجية تُخصِّب قراءاته السينمائية، بل هو مؤمن هنا، وفي العديد من كتاباته السينمائية، سواء تعلقت بالسينما المغربية أو العربية أو غيرها، بمدى وظيفتها الفنية/ الجمالية/ النقدية لمجتمعاتها. كتابات هي اليوم، مرجعية خصبة لمن يرغب في التشبع بالكتابة النقدية السينمائية المبنية على أسس "الكيف"، وليس الـ"ماذا"، أقصد أن كتاباته السينمائية تنبني على سؤال الشكل/ المحتوى، سؤال "كيف قال الفيلم قوله؟" وليس سؤال "ماذا قال الفيلم؟" باعتباره السؤال الذي تنشغل به مقالات عديدة ذات طابع إعلامي إخباري.
حول كتاباته القصصية (تجريب رابع)
كان لديه اهتمام نوعي أيضا بالكتابة القصصية باعتبارها، مجالا سرديا من الممكن أن يكون في خدمة قضايا مجتمعه، كتابات قصصية مبكرة، إذ سنة 1979، أصدر مجموعته القصصية، وحينما نربط هذه المجموعة بسنة صدورها، وبتشبّع المرحوم مصطفى المسناوي بالفكر اليساري، من الممكن أن نجد خيطا رابطا لهذه الغايات والمرامي التي كانت تنهض عليها هذه الكتابات القصصية. كتابات وظّف فيها رؤى/ أصوات مجتمعية عديدة، مما جعلها تجد تلقيّا دالّا، بل ومن خلالها نمسك بالعديد من العناصر المُشكّلة لرؤيته للعالم، وبالتوظيف المفاهيمي الوارد عند باختين.
قراءة في ترجمات المسناوي
حينما نقترب لما ترجم، لاسيما لـ "لوسيان غولدمان" ومؤلف الطاهر لبيب "سوسيولوجيا الغزل العربي: الغزل العذري نموذجا" .. الخ، تشعر بأن المرحوم كان يترجم نصوصا لها قيمتها المعرفية والمنهجية والفكرية، نصوص لها وظيفتها ومكانتها في اهتمامات المثقف المغربي والعربي، بل هي ترجمات أملتها خصوصيات العصر وبكل تناقضاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ترجمات شكلّت ضرورة وحاجة داخل رحاب الجامعات المغربية والعربية، بل تكاد تحتل ترجماته حضورا بارزا في العديد من بحوث الطلبة والباحثين والكتاب الذي لهم كتابات علمية دالة. كل هذه الترجمات التي أنجزها وأبدعها ساهمت في تشكيل وعي مغربي متعطش، خلال مرحلة زمنية معينة، إلى معرفة ما يجري في "المعسكر الاشتراكي"، الذي يفسر العالم تفسيرا ماديا وتاريخانيا.
تركيب دالّ
مصطفى المسناوي، رحمه الله، شخصية ثقافية مغربية/ عربية متنوعة المشارب، ملأت كتاباته مساحات إعلامية عديدة داخل وخارج أرض الوطن، وساهم في تطوير أساليب الكتابة الإعلامية، وفق رؤى علمية ممتعة وجميلة وجاذبة لعينات متعددة من القراء (طلبة وباحثين .. الخ). كان دائم الحضور في العديد من المهرجانات ولجان التحكيم السينمائية، وأيضا فاعلا في طبيعة اختيار مجموعة من البرامج والأفلام التلفزيونية والسينمائية، لكونه تم اختياره مرّات عديدة في مجموعة من لجان القراءة والانتقاء.
بالتأكيد، ستبقى كتاباته مدافعة عن حضوره الدائم، لاسيما وأن من آمن بوظيفة المعرفة/ الجمال، سيبقى فاعلا ومنفعلا بقضايا مجتمعه .. موته في مهرجان القاهرة الدولي السينمائي، قدر سينمائي، لا يخلو من دلالات، "موت" بلغة السينما وهو العاشق للسينما، المؤمن بوظيفتها التنويرية والمجتمعية والثقافية.
عن (الجزيرة الوثائقية)