فجعت الحركة الثقافية ولا سيما الحركة النقدية العربية برحيل الأديب الناقد المغربي مصطفى المسناوي فيما كان يتابع في القاهرة نشاطات الدورة الحالية لمهرجانها السينمائي. ولقد نعى المـــسناوي وفجع عليه كل النقاد العرب، وأهل السينما، الذين عرفوه وقرأوه دائماً بشغف وتطلّع. وهنا نبذة عن المسناوي الذي أقام مهرجان القاهرة ندوة أمس الخميس لتكريمه.
الحديث عن مصطفى المسناوي هو بشكل ما حديث عن سنوات التعلم التي ظلت بطبيعة الحال مستمرة حتى اللحظات الأخيرة، فمرحلة التعلم لا تنتهي ولا ســيما في مـــنظور المــسناوي، لا بالحصول على شهادة الدكتوراه ولا بكتابة الكتب وإذاعتها بين الناس، إنها تنتهي فقط بالوداع النهائي للحياة. يوم تحسّ أن السنين تمر سريعة ولا تدري إلا وهي تأخذك بعيداً.
لقد سمعت باسم مصطفى المسناوي قبل أن ألتقيه، وقرأت له كثيراً قبل أن ألتقيه أيضاً وتعلمت منه الكثير كما حال أبناء جيلي الذين شكل مصطفى المسناوي ومجايلوه، أساتذة لهم في شكل من الأشكال، وذلك إما عبر مقاعد الدراســة، أو عن طريق قراءة كتبهم والاستفادة من تجاربهم الثقافية.
لقد كان اسمه حاضراً بقوة في نقاشاتنا حول القصة المغربية، التي كتب فيها مجموعة قصصية قوية تضاهي ما كان يكتبه زكريا تامر -إذ قورن به دائماً -، مثلاً من مجاميع قصصية تجريبية في ذلك الوقت، لكنها كانت تختلف عنها في ذات الآن؛ مشكّلة انعطافة سردية فاتنة وبهية تجمع بين الواقعي والغرائبي في بوتقة واحدة من جهة، وبين وجود الحكاية والبناء السردي المختلف الذي يمنحها تعبيراً جديداً بعيداً عن الواقعية الحرفية من جهة أخرى. كما كان اسمه حاضراً أيضاً وبقوة في المشاريع الثقافية التي شارك فيها كما هو الشأن بالنسبة لمجلة «الثقافة الجديدة» التي شكلت رفقة مجلات ثقافية مغربية أخرى مثل «أقلام» و«الزمان المغربي» و«جسور» و«البديل» وغيرها محطات ثقافية حداثية بامتياز.
أما جريدة «الجامعة» فقد كانت بالفعل مدرسة ثقافية تربوية تخرج منها جيل ثقافي بأكمله وولج من خلالها بعد حصوله على شهادة البكالوريا إلى أبواب الجامعة المغربية. وظل هذا الاسم بهياً وهو يعلن عن صدور مجلة «بيت الحكمة» ويخصص أعدادها لرموز الفكر الثقافي العالمي التنويري من أمثال رولان بارت ونعوم تشومسكي وميشيل فوكو وسواهم.
والحقيقة أن اسم مصطفى المسناوي لم يكن يغيب، إلا ليحضر مجدداً وأكثر قوة وإشعاعاً. هكذا كان مصطفى المسناوي مثقفاً متنوعاً، وكانت السينما حاضرة في كل هذا التنوع الغني. فهو كان عاشقاً كبيراً لها بحيث لم يكن من الممكن أن تسأله عن فيلم سينمائي إلا ويأتي لك به، ويقدم لك وجهة نظره حوله بكل تواضع الكبار. في هذا المجال تحديداً كان اسمه يحضر بقوة في نقاشاتنا، عبد الرزاق الزاهير، وبوشعيب كادر، وكاتب هذه السطور، حين كنا لا نكاد نفترق إلا لنلتقي من جديد، من مقهى لآخر أيام إصدارنا لنشرة ثقافية سمعية بصرية، أطلقنا عليها اسم «لسان العين»، وأسسنا «مركز الدراسات والأبحاث السمعية البصرية» تحت إشراف «مختبر السرديات» بكلية ابن امسيك. وأيام كتاباتنا معاً في مجلة «سينما وتلفزيون» بعد ذلك. كما ظل يحضر اسمه في النقاشات حول النقد السينمائي المغربي الذي كان أحد أعمدته بامتياز ســواء مع الأصدقاء في «الجمعية المغربية لنقاد السينما» ومن بينهم خليل الدمون، وحمادي كيروم، ومحمد اشويكة؛ أو مع بعض الأصدقاء المهتمين بالمجال السمعي البصري والباحثين في مجال الصورة بامتياز في الجامعات المغربية وفي مقدمهم حمادي كيروم، وعبد المجيد سداتي، وعبد المجيد جهاد وسواهم كثر.
وبين هذا وذاك التقينا كثيراً مصطفى المسناوي في بعض المهرجانات السينمائية المغربية، كان آخرها المهرجان الوطني للفيلم بمدينة طنجة 2015 حيث كان عضواً في لجنة التحكيم الرسمية للفيلم الطويل التي ترأسها الكاتب والناقد الروائي محمد برادة والتي منحت جائزتها الكبرى لفيلم «إطار الليل» للمخرجة طالا حديد. وحين أعلنت النتائج والتقينا بعد ذلك قال مازحاً: «لقد سبقتونا بتتويج فيلم «إطار الليل»، في إشارة إلى أن الإعلان عن جائزة النقد السينمائي، التي يتم الإعلان عنها عادة قبل الإعــلان عن جوائز اللجنة الرسمية للمهرجان، وقد توافق أن جائزة النقد السينمائي في هذه السنة قد ذهبت هي الأخرى لذات الفيلم «إطار الليل».
ومن بين اللقاءات التي ظلت عالقة في الذهن بالإضافة إلى هذا اللقاء الذي كان هو الأخير وهو على قيد الحياة، وتلك التي كنا نلتقي به فيها من خلال كتبه ومقالاته المنشورة في المجلات والصحف، لقائي به في معرض الكتاب بمدينة الدار البيضاء، حيث تحدثنا كثيراً حول المشهد الثقافي المغربي أدباً وسينماً، والتقطنا بعض الصور معاً.
نم قرير العين يا عاشق الأدب والسينما، فقد قرأت الكتب، وشاهدت الأفلام السينمائية، وكتبت نقداً وترجمة وإبداعاً، وحفرت اسمك بهياً وفي شكل قوي في هذه الأنواع الثقافية العميقة بمختلف تجلياتها.
عن (جريدة الحياة)