شاءت الأقدار أن تكون وفاة الكاتب والناقد المغربي مصطفى المسناوي، صباح الثلاثاء، في أرض الكنانة التي تحتل مكانة كبيرة في تفكيره وكتاباته المختلفة، سواء تعلقت بمجال النقد السينمائي، أم تعلقت بالكتابات الساخرة التي برع فيها، إذ كان يقتبس من القاموس الشعبي المصري تعبيرات وحكما يعتمدها في مقالاته النقدية، التي تقارب بؤس بعض الممارسات السياسية هناك، باعتباره مظهرا من مظاهر بؤس السياسة العربية ككل.
والواقع أن الاستعارة من العامية المصرية ملاحظة تسري على مقالات مختلفة، وليست بالضرورة سياسية، فحينما وجدنا الكاتب الراحل يكتب عن ما سماه «موت التلفزيون»، مستدلا على ذلك بتحول الناس، ولاسيما الأجيال الصاعدة إلى أشكال التواصل الجماهيري الجديدة، يؤكد إن «تلفزيون الواقع» حوّل المشاهدين إلى مجرد «بصاصين» بالتعبير المصري، وذلك دليل على عجز القائمين على التلفزيونات العالمية عن إبداع مضامين جديدة. ويلاحظ مصطفى المسناوي أن الذين عاصروا بداية التلفزيون يترحمون اليوم على عصر ذهبي كانت ساعات البث فيه محدودة، على قناة واحدة في الغالب، تترك للناس فرصة عيش حياتهم الخاصة والاستمتاع بأنشطة ومتع أخرى، من قبيل القراءة والخروج من البيت لمشاهدة العروض السينمائية والمسرحية والموسيقية في القاعات ومشاركتها مع الآخرين، وهو ما نفتقده اليوم في عصر الإنترنت أو عصر «التواصل الافتراضي» الذي يحضر فيه كل شيء عدا الإنسان.
والأدهى والأمرّ، مثلما ينبه إلى ذلك المسناوي، أن وسائط الاتصال الجماهيري تقوم على «تضبيع» الناس، أي تحولهم إلى ضباع (مستعيرا عبارة عالم الاجتماع المغربي الراحل محمد جسوس، الذي نعت بها وسائل الإعلام العمومية في المغرب)؛ حيث يحس الفرد الذي تمارس عليه عمليه «التضبيع» بالفرح والسعادة، لأنها تمارس عليه، بل ويطلبها طوعا حين غيابها، متخليا عن حقه في التميز الفردي، وفي الخصوصية والتفكير النقدي، والمطالبة باحترام عقله وملكاته: إنه لا يريد، من الآن فصاعدا، سوى أن يجلس أمام شاشة الحاسوب، يدردش في غرف الدردشة، ويتابع مقاطع الأفلام على «اليوتوب»، يصدق كل ما يراه، ويقلد كل ما يطرح أمامه، متصورا بذلك أنه يعيش عصره، بينما هو في الحقيقة يسلم قياده إلى آخرين مجهولين/ معلومين، يقودونه ويدفعون مستقبله نحو الهاوية.
ومثلما اهتم بقضايا سياسية وفكرية وإعلامية عربية وعلمية، انصب اهتمام الكاتب الراحل أيضا على كثير من تفاصيل الواقع المغربي التي كان يرصدها في أعمدته اليومية بعدد من الصحف المغربية، ولاسيما «الاتحاد الاشتراكي» و«المساء»، حيث يوجه نقده اللاذع إلى المنظومات الصحية والتعليمية والإعلامية والسياسية والاجتماعية وغيرها، كاشفا عن مكامن الخلل فيها، ومستلهما القاموس الشعبي المغربي، من أمثال وحكم وتعبيرات متداولة. فلا غرابة، إذن، إن حملت مقالاته عناوين من أمثال: «حيلة وسباب»، «وليدات حديدان»، «اللي تلف يشد الأرض»، «الحق في النقيل أساس المواطنة الكاملة»…
خـلّـف رحيل الكاتب والناقد السينمائي مصطفى المسناوي حزنا كبيرا في الأوساط الثقافية المغربية والعربية، وبهذا الخصوص كتب صديقه الكاتب والصحافي المصري مصطفى الكيلاني نعياً في «الفيسبوك» يتحدث فيه عن آخر يوم من أيام الراحل: «طوبى لمن مات سعيدا. غاب عنا الكبير مصطفى المسناوي بعد أن قضى يوما رائعا بين أصدقائه في دار الأوبرا المصرية. ضحك مع الجميع، وشاكسني ورياض أبو عواد ولحسن العسيبي. وتناول العشاء مع أحمد فايق في ليلة عظيمة كلها ضحك وابتهاج. لم يتألم كثيرا. ورحل في هدوء، تاركا آخر ذكرى معه بسماته وضحكاته التي وزعها علينا."
وكتب السيناريست والمخرج السينمائي المغربي عبد السلام الكلاعي تدوينة جاء فيها: «حزين لأنني علمت برحيل صديق خلوق وكريم، هو الناقد السينمائي مصطفى المسناوي الذي عرفته، وأنا يافع أقرأ مقالاته النقدية الساخرة وترجمته لمجموعة «فهم السينما» للوي دي جانيتي التي أراد أن يوصل بها معارف السينما للشباب والعموم. ثم التقيته في ما بعد وأنا كاتب سيناريو ومخرج، وهو رئيس لجنة انتقاء الأعمال للتلفزيون المغربي. وبعدها صارت علاقاتنا الإنسانية المباشرة تتوطد مهرجانا بعد آخر، كان كلامه طيبا وأفعاله كريمة. كان كلما شاهد فيلما من أفلامي كلمني عنه طويلا بحب كبير. وحين كان يريد أن يتقاسم معي ملاحظة أو انتقادا كان ينتقي كلماته بعناية فائقة، لأنه يقدر حساسية المبدعين ورهافتهم. وصل إلى علمه يوما أنني أبحث عن مجموعة أفلام «تاريخ السينما» لمارك كوزان، فاتصل بي وأخبرني أنه سيحضرها لي، وهو ما كان، حيث بعثها لي بالبريد. كانت تلك واحدة من أجمل وأعز الهدايا التي توصلت بها على الإطلاق…".
كما أصدر اتحاد كتاب المغرب نعيا جاء فيه: تلقينا في اتحاد كتاب المغرب، ببالغ الحزن والأسى، نبأ فقدان المغرب الفني والسينمائي، صباح الثلاثاء، لأحد أعمدة النقد السينمائي في المغرب والعالم العربي؛ الكاتب والناقد السينمائي وعضو اتحاد كتاب المغرب، الأستاذ مصطفى المسناوي، رحمه الله، إثر أزمة قلبية طارئة باغتته، وهو في القاهرة، حيث يشارك في مهرجان القاهرة السينمائي، في دورته 37، المهرجان الذي ظل الفقيد وفيا له وعاشقا لدوراته.
ولد الأستاذ مصطفى المسناوي في مدينة الدار البيضاء سنة 1953، ودرس في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، وحصل على الإجازة في الفلسفة سنة 1977 ثم على دبلوم الدراسات المعمقة، وهو عضو في اتحاد كتاب المغرب، بل تحمل المسؤولية في مكتبه المركزي، فضلا عن مساهمته اللافتة في تحرير مجلة «الثقافة الجديدة»، وتوليه مهمة مدير لجريدة «الجامعة»، ولمجلة «بيت الحكمة» المختصة في الترجمة، إلى جانب انشغاله الأكاديمي كأستاذ للفلسفة في الجامعة المغربية.
يتوزع إنتاج الراحل بين القصة القصيرة والترجمة عن الفرنسية والإسبانية، حيث صدر له عمل قصصي فريد من نوعه، هو «طارق الذي لم يفتح الأندلس» عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت في 1976، وترجمتان هما «المنهجية في علم اجتماع الأدب» للوسيان غولدمان، و«سوسيولوجيا الغزل العربي: الشعر العذري نموذجا» للطاهر لبيب. كما يعتبر الفقيد من أهم كتاب الكتابة الساخرة في المغرب، إلى جانب كتابته لعديد السيناريوهات، عدا إسهامه الكبير في تأسيس الجامعة الوطنية للأندية السينمائية.