كَعَادَتِها كُلَّ صباح، تستيْقظ الشّيْخوخة المَريضة بالوقت، وتدْخل في دهاليزه. هُنا يصبح قابَ قَوْسيْن أو أدنى من المَوْت. فليكنْ. سيختفي هذا الجسدُ المنهار عن الأنظار وترْتاح المدينة. ربّما في منتصف الليل، ربما في الصباح الباكر، في الزّوال أو في المساء، في المقهى أو في نادي الكرة الحديدية. أيْنَكَ يا عزيز أزْغاي لتشاركنا طاولتنا الغذائية؟ لقد كَبُر أطفالك وأداروا ظهورَهم للنادي. لقد وصلتْ هذه الشيْخوخة المتمرّدة إلى نهاية الطريق ولم يبْق لها إلاّ الحفرة!
كانتْ ليلة البارحة جدّ مضطربة. ثمّة نوْم متقطّع، فاستيقاظ فنوم فاستيقاظ، فالإحساس بالجسد يُريد أنْ يُفرغ ما في بطْنه ثمّ العوْدة إلى الفراشِ الدافئ للاسْترخاءِ منْ جديد. هلْ ثمّة أفضل من أنْ يتمطّط الْجَسَد ويتثاءب مثل حِصَان في العَرَاء أُخْرِجَ من الإصْطبل ليستريحَ منْ جرّ العَرَبَة؟ إنّ هذا الجسد المُتعب الآنَ كان يَتَبَوْرَدُ بالأمس!
آحْ، آيْ، الله. كانت الشيخوخة تبحثُ عنْ نفسها في هذا الصباح، علّ وَعَسَى أنْ تجد لها معنى. هي الآن في سِبَاقٍ أخيرٍ مع الزّمن. هذا مَا تبقّى لها. وللبحْثِ عنْ رَاحَةٍ نَفْسيّة وجَسَدية أهدأ، مالتْ بجسدها إلى اليسار حيث الحائط واتّكأت عليه. لقد استمتعتْ ليلة البارحة بموسيقى الموشّحات الأندلسيّة.
ها هي الشيْخوخة مستيقظة وجدّ متنبّهة، فماذا ستفعل الآن؟ بعْدَ تناوُل وَجْبة الفطور سوْف ترْتدي ثيابَها العادية وتستعدّ للخُرُوج إلى المقهى. فليْس أبْقى للشّيوخ في آخر أيّامهم غيْر المقاهي والتّأمّل في المارّة وفي الفَرَاغ، الفَرَاغ… يجب شَمّ هواء هذا الصّباح النّاهض منْ نوْمه، يجب رؤْية البشر الذّاهب إلى حتْفِهِ الأَبَدِيّ دون أنْ يشعر. قَدَرُهُ التّاريخي فوْق أكتافه. أنَا نفسي قَدَرٌ آخر. فمنذ ولدتُ وأنا جدّ مليءٌ بالأحزان والآلام!
نفسُ النادل، ونفسُ الفنجان، ونفسُ الوُجُوه المتجهّمة الباحثة عن الدّرهم بالرّيق الناشف.
تْسيري؟ لا. باعَة مُتجوّلون مُتناسلون مثْل الفئْرَان. كيْف ستشرب هذه الشيْخوخة قهوتَها الصّباحية دون إزْعاج؟ شيئا فشيئا تضَعُ الشيخوخة نفسها في دائرة عَدَمِ الاهتمام بما حوْلها وتسبح في مَلَكُوتٍ آخر. ستُتَلْفِنُ إلى أحدِ الأصدقاء أنْ يأتيَ وينتشلَها منْ وحدتها النفسيّة. ليكُنْ شاعر الجلبانة أو قَصّاص الفُول، ليكنْ مصطفى النحال هو الذي يعرف ما بي.