يستعمل إدريس الخوري في مجموعتيه «يوسف في بطن أمه» و"مدينة التراب" لغة لا تبحث عن النتائج البلاغية أو عن التعقيد أو المعاني غير النصية أو الاستنتاجات اللغوية السطحية، بل يُشَغِّل لغة ترمي إلى الانتماء إلى «الجهد الجمالي» بواسطة معايير اتصالية بسيطة للوصول إلى نظرات عميقة في أبنية النص الكبرى. ويظهر هذا « الجهد الجمالي» في ما يلي:
استعمال لغة التلقي الخاصة (خاصة بالمعنيين الذاتي والنوعي)، وميزة هذه اللغة أنها تتخلق بشكل محايث لفعل الكتابة، لا بوحي أو إملاء نموذج خارجي كيفما كان هذا النموذج (حتى عندما يكون ذلك من اقتراح الكاتب نفسه). ففي هذه القصص يبدي المؤلف والشخصيات معا، رغبتهم الواضحة في مناقشة قضية التلقي وصوغ المادة السردية بما يوافق رؤيتهم الخاصة. فهم مدفوعون، دائما، إلى العمل على تصحيح مسارات الحكي ونسق الأحداث إلى درجة أن كثيرا من تلك القصص (حكاية نص مريض- بضاعة الكلام -كلية الآداب – ولادة- حكاية ملفقة- القصيدة- شخص ما بين المد والجزر- العلاقات الخطرة ) تتضمن سجالات حول الكيفية التي ينبغي بها أن تتركب المادة السردية، إلى درجة تتحول معها هذه المادة إلى مجموعة من الوقائع المتناثرة التي غالبا ما تعرضها الشخصيات وتختلف في ماهيتها وكيفية وقوعها.
إن قصص الخوري، بخرقها لميثاق التخييل الحكائي، تجعل ذلك الانتهاك موضوعا سرديا لها، مما يسهم في انشطار الشخصيات وتغير منظوراتها. بل إننا نصطدم، أحيانا، بالنص وقد أصبح شخصية من لحم ودم، مثلما هو الحال في قصة «حكاية نص مريض»: « فجأة أحس النص الأدبي بأنه جد متعب وأن عليه أن يستريح من عناء التأمل الذاتي والتفكير والانزياح نحو نصوص أخرى تشبهه أو تشترك معه في خاصية التناص الذي اكتشفه النقد في السنوات الأخيرة». (يوسف في بطن أمه: ص:195) أو قصة «القصيدة»: «وقفت القصيدة وألقت بتحيتها المبتذلة، جرت كرسيا وجلست عليه، آه، تأوهت وأعلنت أنها جد متعبة، ودون أن تنظر إليهما فحصت المكان المضاء بعينيها الخضراوين المكحلتين ومدت ساقيها القصيرتين الغليظتين فوق الزربية البربرية المزركشة. جسد «القصيدة « رخو مثل الرخويات، التفتت إلى الشاعر الأول وغمزت الشاعر الثاني، قالت له أنا لك هذا المساء، فهات برهانك إن استطعت ؟ التفت الشاعران إلى بعضهما وتبسما: كانت « القصيدة « فعلا غير متوقعة، ترتدي بذلة سوداء غامقة مزنرة بخيوط رخيصة وتلتفت باستمرار، لمن؟ تساءل الفندق والجمهور وتساءل الشعراء، لنفسها طبعا، قال الشاعر الولهان، فمن يجهل «القصيدة» ؟ تململ الشاعر في مقعده، تنحنح، سعل، قال: ربما جاءت « القصيدة « من أجلي، قال الآخر نفس الكلام، سكتا عن الكلام غير المباح « (مدينة التراب: ص: 20-21).
وفي قصة «ولادة» تظهر تلك الشخصيات كأنها جزء من الشبكة السردية، إذ نلاحظ سرعة انقلابها فتصبح، هي نفسها، مصدرا من مصادر الحكي، تعبر عن وجهة نظرها في مساراته، تلح وترفض وتحتج وتهرب من الخطاطات التي يضعها لها المؤلف.
هذا التمزق في وعي الشخصيات والضغط الخارجي الذي تتعرض له، فضلا عن تغير أنساق العلاقات التي تربطها ببعضها البعض، أو بالمؤلف الداخلي أو الواقعي، يجعلها متوترة، بل تعيش وضعا إشكاليا وتراجيديا. فالمؤلف الواقعي (الراوي العليم) والشخصيات (المؤلف (الشخصية)- السيد باء- الآنسة البتول)، كلهم يعيشون انشطارات تندحر فيها كل الحدود بين الواقعي والمتخيل. وبذلك تشتغل القصة على نفسها، أي أنها تشرك القارئ في كشف بعض غموضها وهواجسها الذاتية ورحلة انضمامها إلى هذا الجنس الأدبي، كما أنها تقدم تصورات مختلفة عن لغتها وقارئها وفلسفتها وأحلامها، بل إنها في أحيان كثيرة تعمد في حماس شديد إلى إدخال القارئ في متاهات تخييلية بما يمنحها انفتاحا وتنوعا وتعقيدا، أي تصبح مختبرا للتداخلات النصية وتحويلا كيميائيا لتقنيات كتابية شديدة التنوع، ثم إنها لا تخفي طموحها في تحقيق عملية نقدية للإمساك بالمعنى القصدي، وتقديم تفسير له في الوقت نفسه الذي تدرك عجزها عن الإمساك بهذا المعنى، نظرا لتراكب عناصره وصعوبة اندماجه في نسق معرفي واحد ومنسجم. نقرأ من نص "ولادة".
-»لم يكن السيد باء، المزعوم والمعلوم في ذاكرة المؤلف والقراء معا، والذي استيقظ اللحظة من شروده الدائم، لم يكن على علم مسبق بما سيقع له الآن أو غدا، فقد وجد نفسه، فجأة، داخل إشكالية جد عويصة: إما أن يكون أو لا يكون، كيف ؟ تساءل القارئ في غرفته والقارئ في المقهى، تساءلت الآنسة البتول المعجبة بقصص الكاتب، كيف يبحث السيد باء عن نفسه وهو مازال بعد مجردا ؟ إذاك رمى القارئ نسخة المجلة فوق الطاولة المستديرة والتفت إلى صديقته قائلا: لا أدري لم يصر الناس على أن يكونوا دوما أبطالا مع أنهم غير مهيئين لذلك؟ ردت صديقته: حتى الضحايا أيضا .
يكون السيد باء أو لا يكون، تلك هي إشكالية المؤلف والسيد باء معا، إذ بإمكان المؤلف أن يجعل من بطله شخصا آخر: تراجيديا -كوميديا- فانطازيا، ينظر إلى الناس والدنيا بعين مقلوبة ويسير ضد التيار. بإمكانه أن يفعل ذلك لو أراد، ولكن الوقت لا يعمل لصالح المؤلف، وحتى إذا تقمص السيد باء إحدى هذه الشخوص المتنافرة فسوف لا يتعدى وجوده سطح الصفحات البيضاء، أما في الحياة الدنيا فسيظل معلقا إلى إشعار آخر، بل ولسوف ينسى من ذاكرة الناس، فهل يستطيع السيد باء أن يستقل بنفسه ويخرج من عقدة كونه مجرد فكرة ؟ « (مدينة التراب.ص:5-6)
وتمضي قصة «ولادة « وفق استراتيجيا المراوحة بين الإمكانات التي يتوفر عليها المؤلف، والحالات التي تؤطر الشخصيات (حتى قبل أن يخلقها المؤلف) والاحتمالات التي يكشف عنها القراء. فالشخصيات تمارس نوعا من الباروديا الساخرة التي تخرج قرنيها للقارئ، وتقول له إنني أتقمص الأدوار وأحمل الأقنعة وأنزعها…إلخ. والمؤلف يشير إلى أنواع من اللعب، ويقترح على اللاعبين (الشخصيات) أدوارا يلعبونها أو يتظاهرون بلعبها. وهي تقنية تقوم بشكل أساس على تماهي اللاعب مع صورة أو شخصية وهمية يصنعها المؤلف.
إن المؤلف الواقعي، ها هنا، يكشف عن وجهه، إذ يتوجه إلى القارئ الواقعي ويدعوه: «أيها الأخ». ثم يسارع إلى حجب هذا السفور بإخراج ورقة القارئ الجالس في المقهى للتلبيس على « الأخ القارئ « الذي لا يعرف حقا من هو صاحب الافتراض، ومن يدرك أن» كتابة الحكاية «حكاية أخرى»!.
إن إدريس الخوري في قصة «ولادة « يمارس الوقوف أمام مرايا ذاته، إذ يعبر عن وعيه بالمادة التي يتم الاشتغال بها، كما يعبر عن نزعة تفكيكية ترتاب في كل المنظمة والقوانين والتقاليد وتنحاز لذاتية القراءة، أو في أحسن الأحوال تكشف عن المرجعية بإنتاج لغة نقدية تتعمد لفت النظر إلى نفسها وإلى تفسيراتها القلقة التي تقفز على المعنى لترتمي في اللامعنى. فالخوري، حين يلجأ إلى هذا الكشف عن المرجعية، وإلى نوع من الفانطازيا يسقط من خلالها كل الجدران بين المؤلف والشخصيات والقارئ، فإنه يسعى إلى نقد الممارسة النقدية الخداعة التي مارستها «الإيديولوجيا» التي تصطنع عوالم متخيلة ويوتوبيات سعيدة و تريد للقصة أن تلعب أكبر من دورها لتقوم بالتغيير. إنه يدرك أنه « توجد كتابة لا يعرف سرها إلا صاحبها، وليس ضروريا أن أعجب القراء، لأن الكتابة الحقيقية، ذات المعاناة اليومية، أكبر من « هذا الإعجاب « المتبادل بين الكتاب و القراء، وكل كتابة هي حوار متبادل لا أقل ولا أكثر» (ظلال.ص:23)، كما يدرك أن القصة هي نوع من "النميمة الحكائية"يمارسها المؤلف على ذاته؛ فالمؤلف يداهم عالم الشخصيات والقراء، كما يلجأ هؤلاء إلى بعثرة خطاطات المؤلف والتمرد عليها. وكل هذا يفسر بطبيعة الحال حالات الانشطار التي تكون عليها الشخصيات، كما يفسر التوتر الواضح في أفكارها وتصوراتها و مصائرهم. وهذه التغيرات تلعب دورا أساسيا في تشويه الصفاء الذي ينتظره المتلقي، أي صفاء التمثيل السردي بحالته التقليدية حيث يتخلل العالم الخارجي نسيج السرد، ويتجلى من خلاله ويظهر في النص بوصفه مكونا من مكوناته .فهي توظف شذرات من ذلك العالم وتعيد إنتاجه وتركيبه بما يوافق أنظمتها السردية. إنها تضع المتلقي في قلب المرايا ليرى « على الطبيعة عملية الكتابة وهي تتخلق «.
أليست الكتابة في قصة « شخص ما بين المد والجزر» هي مجموعة الفضاءات (المرايا) : «المكان كتابة، قيل، كذلك الشارع، المقهى، البار، الدار، كذلك الجسد، أما الجسد،آه لرغباته. جسدي كتاب وأنا حروف كالنمل، صفحات مثل الأيام، منيتصفحني يجدني؟ من يقرأني؟ لغتي لغة أخرى. لقد كان كذلك، ما يزال ، وهاهو جسده ينتشر عبر الآلام الصغيرة و الكبيرة طفلا مهجورا كان..» (مدينة التراب :ص:63)
إن المؤلف، الذي يحاول أن يبني نوعا من التلقي الواضح الشفاف، يكشف- وهو يقول لنا إنه لا يقع خارج القصة- عيوب العالم السردي وخدعه، ويبين أثره في تشويه « البعد الأخلاقي « للشخصيات والانزياح عن ذلك العالم، وتوجيه هجاء قاس له ونقد بؤر العنف المتمركزة فيه ومحاولة تجاوزه إلى ابتكار عالم بديل يستعين بمجموعة من التقنيات الأسلوبية في مجال السرد، أي أنه لا يكتفي بالبحث عن المعنى في المادة القصصية، بل على مستوى القصة باعتبارها لغة وبناء. وهي تقنيات تعمق درجة الإيهام من جهة وتبدده من جهة أخرى. فالشخصيات تكون مرة مشاركة في الأحداث، وتظهر مرة ثانية راوية لها وتظهر مرة ثالثة بوصفها خالقة للمتن السردي ذاته. وهذا التبادل في الأدوار يفضح عمق التحولات التي تجري فيها أو حولها وأحيانا يضيء طبيعة الحيرة التي تكتنفها، وصعوبة الاختيار الذي ينبغي أن تختاره كما أن ذلك التعدد في أدوار الشخصيات ووظائفها ينعكس مباشرة على الحدث القصصي الذي تتمزق وقائعه وعناصره، ويعاد تشكيلها في وعي الشخصيات ذاتها دون مراعاة للتعاقب الزمني.
-----------
مبدع وإعلامي