رحل عن عالمنا الموبوء أمس الثلاثاء، الكاتب المغربي إدريس الخوري الذي ظل وفيا لجنس إبداعي بعينه هو القصة القصيرة، حيث خلف عدة مجاميع بهذا الصدد، ابتداء من مجموعة “حزن في القلب وفي الرأس” التي كان لها إسهام حقيقي في كسر نمطية الكتابة القصصية في الستينيات القرن الماضي، إلى “بيت النعاس” التي صدرت قبل سنوات قليلة عن مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، والتي شكلت منعطفا في تجربته الإبداعية، مرورا بالمجاميع التالية: “ظلال”، “البدايات”، “الأيام والليالي”، “يوسف في بطن أمه”، “مدينة التراب”، هذه المجموعة التي كان يرشحها العديد من المتتبيعن لتحظى بجائزة المغرب للكتاب، لكن لم يشأ لها ذلك، ويظهر أن الراحل إدريس الخوري غير محظوظ مع الجوائز، حيث لم ينل أي واحدة منها سواء داخل الوطن أو خارجه، لكن إنتاجه القصصي ظل محط تقدير من طرف النقاد والباحثين الأكاديميين، حيث أنجزت حوله عدة أطروحات جامعية.
سئل الراحل في أحد الحوارات التي جمعت في ما بعد في كتاب تحت اسم “أسماء مغربية”، عن أمنيته في الحياة، فكان جوابه: “أمنيتي أن أعيش أطول مدة ممكنة”. هل حقق أمنيته فعلا؟ رحل فقيدنا عن سن الثمانين ونيف، لكن الشيء الأكيد أن إبداعاته القصصية ستعيش أطول مدة ممكنة، إن لم نقل ستظل خالدة، لأن صاحبها لم يكن متطفلا على هذا الفن الأدبي، بل يعد من المؤسسين للتجربة القصصية في المغرب على الأقل. لقد خلق لأجل أن يكون قاصا وحسب.
لم يخلق إدريس الخوري لكي يكون أكاديميا ولكي يعد أطروحة جامعية وما إلى ذلك، بل ظل مخلصا للكتابة القصصية، وحتى عندما هجر العديد من أدبائنا نحو تأليف الرواية لغرض في نفس يعقوب كما يقال، لم ينسق نحو هذه الموجة. ظل يخبر متتبعيه وقرائه بأنه بصدد كتابة رواية، هي عبارة عن سيرة ذاتية، وقد نشر فصلا واحدا منها بالفعل في إحدى المجلات، لكن هذا الكتاب لم يخرج إلى الوجود إلى يوم الناس هذا. في كل مرة يخبر من يسأله عن الرواية التي وعد بإصدارها؛ بأنه وصل إلى عدد معين من الصفحات وأنه على وشك إنهائها، لكن هذه الرواية لم تنته ولم تر النور إطلاقا، وفي اعتقادي أن من مسؤولية أسرته الصغيرة وكذا اتحاد كتاب المغرب الذي كان الراحل أحد أعضائه النشيطين؛ العمل على إعداد هذا النص الروائي للطبع وكذا البحث عن نصوصه الأخرى المتفرقة في الصحف والمجلات التي لم يتسن له جمعها وطبعها.
كان الراحل إدريس الخوري عاشقا كبيرا لمتع الحياة، إلى حد يجعلك تتساءل متى يجد الوقت للتفرغ للكتابة؟
حول ذلك يخاطب ذاته في أحد مقالاته بأسلوبه المميز: “ميزتك الأساسية أن الوقت لا ينفلت من بين يديك وأنك لا تتكربع مثل الآخرين، هي التجربة الطويلة في المعاقرة وفي الحياة، في العلاقات الإنسانية الكثيرة والتي لا تحصى..”.
فضلا عن إخلاصه للإبداع القصصي، كان يكتب بين الحين والآخر، مقالات أدبية حول الحياة الثقافية بصفة عامة. تم جمع هذه المقالات الصحفية في عدة كتب، منها ما تمحور حول المسرح والسينما تحت عنوان “فوق الخشبة أمام الشاشة”، ومنها ما كان محوره الفن التشكيلي، كتاب “كأس حياتي”، ومنها ما توزعت مواضيعه حول قضايا أدبية وسياسية متنوعة، كما هو الحال بالنسبة للكتب التالية: “من شرفة العين”، “التتياك السياسي”، قريبا من النص.. بعيدا عنه”، “فم مزدوج”.. إلى غير ذلك من العناوين، ومن الملاحظ أن أغلب هذه الكتب صدرت عن وزارة الثقافة في الفترة التي كانت على رأسها الفنانة ثريا جبران، كما صدرت له الأعمال القصصية الكاملة عن القطاع الوزاري نفسه، وتولت دار النشر توبقال إصدار الطبعة الثانية لباكورة أعماله القصصية “حزن في الرأس وفي القلب” التي تشكل منعطفا حقيقيا في تجربة الكتابة القصصية بالمغرب.
له كتاب آخر متفرد، عبارة عن أدب الرحلة، فيه يسرد ظروف عيشه وتنقله في عدة مدن مغربية وعالمية، يحمل عنوان “فضاءات”.
كان الراحل إدريس الخوري يشكل ثلاثيا مع أديبين آخرين، هما محمد شكري ومحمد زفزاف، بالنظر إلى التقاطعات القائمة بينهم في العالم القصصي وفي التجربة الحياتية كذلك. كلهم رحلوا، مما يدل على أن جيلا من المؤسسين للكتابة القصصية بالمغرب، في طريقه نحو الانقراض، وبالتالي هذا يفرض طرح التساؤل حول الآفاق المستقبلية لهذا الفن الأدبي، وحول ما إذا ظهرت أجيال جديدة تحمل بوادر تحقيق انعطافة في هذا الصدد.
حظي فقيد القصة القصيرة بعدة حفلات تكريم، كما أقيمت ملتقيات حول تجربته الإبداعية، وتم توشيحه بوسام ملكي.
تغمد الله الفقيد بواسع رحمته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
---------------------------------
قاص وصحفي مغربي (عن بيان اليوم)