"أنا كائن استثنائي قادم من قبيلة منسية وميتة مع وقف التنفيذ، كاتب يقف على رصيف الضفة الأخرى للكتابة المضادة للقناعات الراسخة، لا شكلَ لي إلا الحرْف، لا لونَ لي إلاّ البساطة، أنتمي إلى مدينةٍ كبيرة هي الدار البيضاء، من أحيائها الشعبية أطللتُ برأسي على العالم، في مدارسها تعلّمت قراءةَ الحروف وأبْجديةَ الكتابة، وأنا اليومَ أكْتبها حكاياتٍ وخيالات، منْ يقرأني فقد قرأ نفسي، ومن لم يقرأني فهو معذور، ذلك لأنّ الجغرافيا تفصلنا عن بعضنا.."
تكادُ تلخِّصُ هذه الكلمات تاريخًا بكامله. إنه تاريخُ رجل استثنائيّ: رجلٌ استثنائيّ في كل شيء: مع ذاته أوّلا، التي عوّدها على الماء البارد صيفا وشتاء، وعلى نمط عيْش وإيقاع يوميّ لا يجاريه فيه أحد؛ ومع الآخرين، في المحبّة التي لا يُضْمرها، والصراحة التي جرّت عليه الكثيرَ من المتاعبِ والعتاب منَ الذين ألِفوا العيْش بالأقنعة. هذه الاستثنائية هي التي تجعله يقول لك ما يستشعره نحوك دون تردّد، ودون نفاقٍ، ودون رغْبة في جاهٍ أو تقرّب أو طمع في خدمة. وهو استثنائيّ في استحضاره لذاكراتٍ متعددة ومتنوّعة. تكاد تشعر، وأنتَ تُجالسه، أنك أمام أرْشيف متعدّد الرفوف (أسماء أمكنة، وأسْماء أشخاص وكتّاب وفنانين موسيقيين وسينمائيين الخ). لا يترُكُ معلومةً تفلتُ مهما صغُرت، ومهما كانت طبيعتها، حتى ولو تعلّق الأمر باسْمِ لاعب لكرة القدم ضمن فريق الطّاس في السبعينيات. إنها ذاكرة الأديب الحقيقيّ الذي يكتب وعينه على المجتمع بكلّ تعقيداته وتلاوينه.
وهو استثنائيّ في علاقته بالكوْن الذي يعرف أسرارَه، في علاقتِه بالحياة التي يقبض على نُسْغها. بّا ادريسْ ينتزع من الحياة كلَّ نَبَضاتها وإيقاعاتِها المتعدّدة التي لا يكاد يسمع نبضها إلاّ هو. يعيشها كما يرغب هو، ومع مَنْ يرغب هو، لأنه يكره الانعزالية الصوفية، ومع ذلك فله قدرة استثنائية على أنْ ينفردَ بنفسه وهو مع الآخرين. يكاد يوزّع أزمنتها وأمكنتها وفق برنامج بيولوجيّ خاصّ. مستعدّا ليكون كلّ يوم هو في شأن: تجالس بّا إدريس مئات المرّات، وفي كلّ جلسة هو شخص مختلف (حكْيًا وبوْحا ووصفا وجدّا وهزْلاً ونميمة طبعاً). في كلّ مرّة تشعر وكأنك تجالسه للمرّة الأولى. "بّا ادريس حارس صداقات لاتُنسى، وحارس أمكنة لاتضيع" على حدّ تعبير محمد الأشعريّ". يُطلق ضحكاته وقهقهاته دون احتراز ودون حدود انتشاءً بدفء الصداقة واللحظة. وحين يثق فيك ويرتاح إلى علاقتك به يقبل عن طيب خاطر، أنْ «تدور» فيه من حينٍ لآخر، وتسبّه بالاستعارات التي يقهقه لسماعها. ما كايْنبايس! المهمّ أن لا نشيخ، وأنْ لانموت قبل أنْ نموت!
وهو استثنائيّ لكونه يحبّ كلّ شيء في الحياة: السينما، الموسيقى التي يخبر أنواعها وأسماءها، من سيباستيانْ باخْ إلى الحاج الدعباجي والشيخة عايدة.
وهو أخيراً استثنائيّ في الكتابة التي جاء إليها (أو جاءت إليه سيّان) من الحياة. فسواء تعلق الأمر بالقصة، محبوبته الأبدية، أو بالمقالة أو بكتاباته في التشكيل والمسرح والسينما، لا تجد نفسك إلا منجّرًا ومُنْحازًا إلى الأسلوب الإدريسيّ اللاّنمطي، والذي لا تستطيع أنْ تقلّده أو تجاريه. لذلك فإنه يُعتبر، بالفعل، واحداً من أبرز كتاب القصة في المغرب، حيث تبدو قصّته مسكونة بضوء من المستقبل، تستمد عوالمها من المعيشِ ومن المعاناة والحلم، ولغتُه تحمل شفافية الشعر. "حزن في الرأس والقلب”، “ظلال”، “البدايات”، "بيت النعاس"، “مدينة التراب”، “بعيدا عن النص قريبا منه”، “كاسْ حياتي”، و”فوْق الخشبة أمامَ الشاشة”. في كل ما يكتب الخوري، هناك حضور للكتابة بالعيْن التي تلتقط أدقّ التفاصيل. انطلاقاً من لقطة يومية، من مشهد مثير، من حالة إنْسانية غير طبيعية. أكادُ أجزم بأنه، وهو في الطاكسي أو داخلَ المقهى أو الحانة، ينظر إلى الناس باعتبارهم شخوصاً، أو بّيرْسوناج على حدّ تعبيره.
ولأنه كاتبٌ أصيلٌ فهو لا يُسْتَنْسَخُ رغم المحاولات الكثيرة التي تقتفي أثره، وتتشبه به، وتنهل من معينه الخصب الثر الذي لا ينضب، والسبب أن للكاتب عينا يقظة لا تُفْلِتُ صغيرة أو كبيرة في حياتنا اليومية، كما أن له بصيرة، وقد خبرتها فيه، تغوص نحو الأعماق لتفرز الغث من السمين. ولأن الكاتب لا يهادن ولا يجامل فقد اكتسب احتراما وتقديرا خاصين من قبل الكتاب المغاربة مبدعين ونقادا وباحثين. لإدريس الخوري طريقته الخاصة في الكتابة وله طريقته الخاصة في الحياة. يكره المجاملين والمتملقين، ثقيلي الظلّ، كما يقول .
لقدْ برع بّادريس في التقاط روح الأمكنة الشعبية، ولا سيما المقاهي باعتبارها فضاءات كان يترفع عن الكتابة عنها الكتاب المغاربة التقليديون. يقول الكاتب: «أنا رجل أحب الحياة وأكره الانعزالية. أحب الفضاءات المفتوحة كالمقاهي والحانات، فهي عبارة عن مجتمعات مصغرة تلتقط فيها تناقضات الناس وأقنعتهم، أفراحهم وأحزانهم. لذلك فضلت الكتابة عن الهامش مكسرا التابوهات التي تخنق مجتمعنا، فيصير كتابها انعزاليين». وفي علاقته بشخوصه ونصوصه يقول الكاتب: «يصعب على الأب أن يفرق بين أبنائه، كما تعلم. ومع ذلك إذا أردت أن أفضل بعضا من أبنائي فسأختار مجموعتي «الأيام والليالي» و«مدينة التراب». لقد انتقلت في مسار الكتابة القصصية من الواقعية إلى التجريبية، أي من القصة التي تبحث عن الذات في تفاصيل اليومي إلى قصة متعددة الأصوات الدلالية واللغوية والرمزية. ومع ذلك فعندما كتبت عن الذات والمرأة والجنس اتهمني النقد الإيديولوجي بأنني بورجوازي صغير! وبعد سنوات عاد الحديث عن هذا الأدب بشكل إيجابي! غير أنه بالنسبة لتجربتي المتواضعة فأعتقد أنّ النقد الحقيقي أنصفني». لكن هل أنصف المغرب هذا الكاتب الكبير؟ سؤال يبقى معلقا، لا سيما بعد أن تقاعد بادريس من مهنة المتاعب التي قضى فيها زهرة شبابه دون أن يوفر لأسرته الصغيرة بيتا حقيقيا ورمزيا يحميها من أنياب المجهول.
--------------
ناقد ومترجم