إذا أنت شئت أن تبحث عن أدب مغربي خالص، أدب ماركة مسجلة أو « براءة اختراع « سردي بديع ولاسع يُريكَ ما أنته لا ما تتخيله، فَعُجْ ـ أيها القاريءالظاميء ـ على أدب بّا ادريس لأنه يخفي وينطوي على سر الأسرار في دواخله وبواطنه، ويفشيها في لحظة انتشاء نِرْفاني، أو شطح زورْباوي مجنون لا يليق إلا به. فإذا أنت أمام العجب العجاب، أمام مرايا ولا أنصع تعكس كل شيء، وتترجم بلغة مسنونة جارحة، وأسلوب شخصي رائق، أعطاب الواقع. وتقول ، بلا مواربة ما خلا بعض التوريات التي يقتضيهاالفن، سوءَته، وتمسح أصباغه ومساحيقه فإذا هو نَضْوٌ كما هو لا كما يراد له. ومن ثَمَّ، حاز إعجابنا، إعجاب القاريء العادي، والقاريء المتورط، والناقد الجهم، والناقد الألمعي، لأنه أدب مغربي حتى النخاع، أدب سردي أو سردية منسابة لا تخشى الذهاب رأسا إلى خصوصيتها، وخواص بنائها، ومتواليات حكيها ووصفها كأنما هي عدسة ماحقة التصوير، عميقة الأخذ والالتقاط، وكاميرا متجولة متحركة في كل الزوايا والأنحاء، تسلط زُومَها تصغيرا وتكبيرا على « المدن السفلى» بتعبير الشاعر عبد الله راجع، على الإنسان المغربي وهو يعارك قدره، ويحاول، جاهدا، أن يزيح عنه ـ في دأبه وسعيه اليومي ـ نيرَ البؤس والطغيان اللذين يرزح تحتهما، طمعا في أن يسترد آدميته وحقه في الحياة، في واقع التسلط والبهتان، و» الحكرة «. ولا غروَ، فبّا ادريسْ عاشق وعارف بجماليات وأسرار الأفلام السينمائية، والمسرح والتشكيل والموسيقا. قاريء من طراز رفيع ومتفرد لكِتَابِ الواقع واليومي والمعيش، والسعي الحثيث الموجع والأليم في البحث عن ماء ودواء وهواء نقي، و « شراب « سائغ. كِتَاب قرأه الخوري بإمعان، ورأى أن خطايا مُحَبّريه ومُدَبّجي صفحاته وفقراته وفصوله، من الوساعة والوساخة والشساعة بمكان، ما تعيا وتنوءُ بحكيه الركبان. فارتأى وهو الوفي لأرومته، ومنبته ومنحدره، وطبقته، أن ينقله إلى العيان، إلى ما به كان ما كان. فكيف ننسى، وهل لنا أن ننسى، أنه ـ بالمعاني المطروقة سالفا ـ ضمير مرحلة، ولسان عقود تناوبت عليها الشرور، وإِنْ قليلا، الخير والسرور؟، وأنه كاتب مغربي من طينة خاصة، ذو قلم لا يُماري ولا يهادن. يقول ما يراه حقا حتى ولو كان خادشا « للحياء العام «، وجارحا ل « كرامة « البعض الذين لا يتردد في حشرهم في صف المرائين المنافقين، والساعين إلى الضوء والبهرجة، والمحتلين الصفوف الأولى والمقاعد الوثيرة بدون وجه حق، ومن غير استئهال ولا استحقاق. وقد جرَّ عليه قلمه ما جَرَّ من ضغائن وأحقاد وإبعاد. ولكن با ادريس الأنوف الأبي ذا النفس الحرة، وذا الكبرياء المنيفة، لم يكن يكترث لذلك، وما كان ليتودد لهذا أو ذاك، وقد خَبَرْنا فيه هذه الخصلة الفريدة، والأنفة التي ترفعه في أعيننا، وتُنْزِل إلى الحضيض، أعداءَه وخصومه الفعليين والمفترضين.
أسطورته الشخصية التي بناها بفعل كتاباته المتنوعة والمتعددة التي طالتْ وَمسَّت حقولا أدبية وفنية مختلفة بما فيها المقالة التي بصمها ببصمته التي لا تخطئها العين المدربة والاستبصار، أسطورة تغلغلت في حياته سلوكا وعلائق، وممارسات، وقفشات، ونكات دكالية تمتح من خابية الشعب العميقة العتيقة والثمينة. فكان ـ وهو يتكلم أو يحتسي كاسات الحياة، أو يعلق أو يغني، أو يرتجل، أو يقرأ "سَرَّاباتْ" عامية موغلة في البهجة والحكمة، والأمثال الشعبية السائرة، كان مٍلْحَ الجلسات والسهرات، وسُكَّرَها وسُكْرها معاً. ولذلك حاز المحبة والتقرب والانجذاب، والهيبة أيضا، والتقدير فوق ذلك.
ليس في الوطن ـ من أقصاه إلى أقصاه ـ من لا يعرفه أو يسمع به، أو يقرأ له.
كانت قصصه التي ينشرها في العلم الثقافي، أو المحرر، أو الاتحاد الاشتراكي، أو أنوال، أو غيرها من الجرائد المغربية، والمجلات العربية، مناط اهتمام ومتابعة وإطراء وجدل. كانت حدثاً. لأنها تلقي ـ في كل مرة ـ بحصاة في النهر الذي لا يتوقف عن الجريان: نهر الحياة، نهر الواقع، ونهر التلقي بالجمع والإفراد. وأكاد أقول إنه كان ـ وهو بالفعل كذلك، أحد الفرسان الثلاثة للسرد والقص المغربيين البديعين: عنيت: محمد شكري ومحمد زفزاف. فعلى يد هؤلاء الثلاثة الكبارـ مع اختلاف طرائق تعابيرهم الفنية، وَحَوْك أسْلَبَتهم المنقوعة في حياض البهاء، والدم وحرائق المرحلة، وشظف العيش، وبؤس الإنسان، والظمأ إلى الحرية المفقودة، والأحلام المغتالة، وإنْ كانت مرجعيتهم واحدة، ومصدرهم متعين ومعروف، على أيديهم تشكلت بِنْياتٌ ومُتونٌ قصصية فارهة، ومدونة سردية عجيبت ابْتُنِيَتْ بالجهد والعرق والعصب والنَّصب، شكلا ومحتوى. وأمكن الكلام عن سرد مغربي محض برغم اغتنائه وامتصاصه، وتناصه مع سرود وقصص عربية بأعيانها، ومدونة نثرية هائلة غربية وأمريكية وروسية على مستوى الترجمة، أو على مستوى لغتها أولا بأول.
وليس من شك في أن صاحب المجموعة القصصية (حزن في الرأس والقلب)، التي لفتت الانتباه في إبانها، فاشرأبت أعناق النقاد والقراء إلى « مقترفها «، منتظرة أن يغزو المشهد الثقافي العام، والساحة الأدبية، بمثيلات لها أرفع وأرحب وأغنى. وصاحب القصة البديعة (مليكة.. البحر يقترب)، وغيرها من البدائع والدُّرَرِ ك: (البدايات)، و(الأيام والليالي)، و(يوسف في بطن أمه)، لم يخيب ظن المتلقي به، ولم يحبط انتظارات عاشقيه ومترصديه. إذْ ما عتم أن أبدع ما أبدع، فاستحق بذلك أن أقول فيه وعنه: إنه الكاتب الكبير.. أسطورة القص والنص، وباعجُ عينِ السرد الفني ـ مع ثلة من مجايليه ـ وفائق رَتْقِه الذي كان قد ختم عليه منزعٌ تقليديٌّ غائصٌ في « الفقه «، وفي عوالم مقامات الهمذاني والحريري، حيث المعاضلة، والأسجاع المملة، والتقعر اللغوي، أو الإنشاء اللغوي البسيط والعادي المتصل بالشفاهي صوغا وتركيبا، والشقشقة اللفظية في أحسن الأحوال.
وداعا بّا ادريسْ المبدع النادر، والإنسان الاستثنائي، صديق الكل، وصديق الفئات المغبونة، والناس « اللّي تَحْتْ «. لقد أفدتني كثيرا حين جمعتنا جلسات ليلية باذخة، على تباعدها، في الرباط، والبيضاء، وفي فاس. أفدتني قوةً وصبرا، وتحملا وكبرياء، ورسوخا، وشعرا بدويا شعبيا ماتعا، ونكاتا أضحكتنا حتى بانت نواجذنا، وبانت شمس الصباح طالعة من حيث لم نحتسب. وأفدتني كما أفدت غيري، بصراحتك المعهودة، وقسوتك « الجميلة المحبوبة «، وبمهارتك وعالي شأنك ، وأنت العصامي، قاصا وساردا وناثرا، ومعلقا ومعقبا، وقائدا للجماعة المحيطة بك جلساءَ ورفقاءَ وندماءَ، ومايْسْترُو للساهرين الذين يا كم رددوا معك، شعر عمر الخيام العظيم:
أفِقْ خفيفَ الظلِّ هذا السَّحَرْ نادى دَعِ النومَ وناغِ الوتَرْ
فما أطال النومُ عُمْراً ولا قصَّرَ في الأعمار طول السّهرْ
العزيز إدريس: أنت باقٍ. وستزداد توهجا وحضورا شرطَ أنْ نستعيدك ونقرأك، ونذكر بإبداعك، وندرأ عنك النسيان.
ذلك أن النسيان أقسى من الموت.
------------
شاعر من المغرب