بدأ هذا الصيف حزينا، واستمر في زوابعه ومفاجآته الأليمة. فقد كان الشهران الماضيان شهري الرحيل بالنسبة للثقافة العربية. فقد رحل عنا المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري، المفكر الذي رد للعقل النقدي العربي كرامته، وأسس المهاد المنهجي والمعرفي لأعادة التفكير في تكوين العقل العربي. وأصبح بذلك كاتب النخبة المثقفة، أو ما يعرف بالانجليزية باسم مثقف المثقفين، مفكر المثقفين وخاصة النخبة الفكرية. وفي الوقت نفسه رحل أسامة أنور عكاشة الكاتب التليفزيزني المصري الشهير، يوشك أن يكون النقيض الكامل لمحمد عابد الجابري، والوجة المكمل له. حيث جلب استقصاءات الثقافة العربية الجادة، ورؤاها التي انضجها الجدل المعرفي والعقلي، ومصادراتها التقدمية إلى أكثر الوسائط شعبية، التليفزيزن، فأثراها بمسلسلات تليفزيونية شهيرة وباقية، جلبت الكثير مما في جعبة السرد العربي الجاد من تقنيات واستراتيجيات ورؤى، إلى الشاشة الصغيرة فأثرتها وثقفت جمهورها، وأرهفت وجدانه بينما تسليه وتمتعه. وقبلهما رحل إمام الكتاب الساخرين في مصر محمود السعدني الذي أغنى المكتبة العربية بالكثير من الكتابات الساخرة والمهمة معا. ثم لحق بهم الناقد المصري الكبير فاروق عبدالقادر الذي جسد استقلال العقل النقدي عن المؤسسة والفساد. وظل حتى آخر أيامه، وقبل تدهور صحته المتسارع، قابضا على استقلاله وصرامته النقدية كالقابض على الجمر في زمن «الجمر والرماد» كما يقول عنوان أحد كتبه الكثيرة. وها هي الأخبار تجيئنا قبل صدور العدد بيوم واحد برحيل أكبر شعراء مصر، محمد عفيفي مطر، فنعيد نشر مقالنا الافتتاحي في ملفه الذي نشرناه إبان حياته نعيا له. ولأن (الكلمة) مجلة الثقافة العربية الإنسانية، فإنه يهمها أيضا رحيل الكاتب البرتغالي الكبير خوزيه ساراماجو، الفائز عن جدارة بجائزة نوبل للآداب، والذي رد للمثقف الأوروبي اعتباره في زمن العولمة والتدليس. وطرح الحقيقة في مواجهة الزيف والقوة، وخاصة حينما زار فلسطين المحتلة، وأدان بجرأة صارمة ممارسات الصهيونية البربرية فيها، وقارنها دون خوف أو وجل بممارسات النازية والهلوكوست.
وكان بود (الكلمة) لو توفرت لها الإمكانيات المادية التي كانت تعول عليها، وقبل أن تسرق منها، أن تخصص ملفا ضافيا لكل واحد من هؤلاء الراحلين. لكنها إذ تنعيهم جميعا تخصص ملف هذا العدد للمفكر الكبير محمد عابد الجابري.