كاتدرائية فكرية عالية

شهادات

معارك محمد عابد الجابري الفكرية والسياسية

حسن نجمي

حين سمعت خبر رحيل أخينا الأستاذ الدكتور محمد عابد الجابري، لم أصدق. لم أصدق نفسي في الواقع كما ظل يحدث لي في السنوات الأخيرة، كلما رحل كبار أحببتهم وانتميت إلى أفقهم الفكري أوالإبداعي أوالنضالي أو الإنساني. ولعلها المضاضة نفسُها التي كان طعمها في اللسان مرٍّا، وكان وقعها على النفس انكسارٍّا كاتم النبرة عصيَّ الدمع، عندما رحل عبد الرحيم بوعبيد، وعندما رحل محمد باهي، وعندما رحل محمد القاسمي، وعندما رحل أخيرا الشاعر الكبير محمود درويش... وآخرون من الجغرافيا العربية، ومن خارجها أحيانا. تلك اللحظة العسيرة التي تستشعر فيها فراغ الكلمات التي تقولها لتعزي النفس، ولتقتسم الألم مع من تحبُّ، والتي تفقد فيها القدرة على قراءة بعض الكتابات التي يسارع إلى نشرها من يستسهلون الحدادَ ويرتجلون «الصداقات» مع الموتى.تلك اللحظة المُرّة التي تفقدُ فيها مرجعاً كما تفقد ذراعًا اتكأتَ عليها طويلاً، وتدفن فيها عزيزا كما تدفن فيها أحد أطراف جسدك. تلك اللحظة التي ينزل فيها خبر الموت كحبّة البَرَد على لحمك فيشتعل كيانك كله. اللحظة الطويلة التي يتواصل فيها رنين الاسم الذي تفقده، فيظل يتردد صوته في أذنك، وتتراقص أمام نظرتك الأَسِيانة مجموع صُوَره، وصورك معه، والجلسات، والندوات واللقاءات، والأسفار، والعبارات، والنصوص، والمداعبات، والمواقف، والمنعطفات، والحوارات الفكرية، والحوارات الإعلامية، واللقاء الأَول، والمكان الأول، ثم اللقاء الأَخير، وآخر الكلمات، وآخر الإيماءات.

سيتحدث الأصدقاء الحقيقيون عن محمد عابد الجابري، وسيتحدث زملاؤه وطلابه في الجامعة وفي الثقافة وفي الحياة، وسيتحدث عنه إخوته الصادقون الأصفياء في الحزب،سيتحدثون عن كثير من المشترك الرائع الذي اقتسموه معه، ولهم الحق في ذلك مثلما لقرائه الحق أيضا، فقد كان ملكا جماعيا لكل الناس، لأنه منح عمره كله وانتدب نفسه كلها للآخرين ولبلاده ولأمته العريضة من الماء إلى الماء، ومن ثم هذا الارتباك في أن لا تجد ما تقوله هنا والآن، وألا تجد ما تكتبه الأيام الأولى عقب رحيله. ينبغي أن ينتظر المرء قليلا قبل أن يجمع الأفكار والذكريات، ويراجع ا لصور والمشاهد، فالجابري فرد بصيغة الجمع، والجابري شخصية فذة مركبة الأبعاد، والجابري بالنسبة إليّ كان دائما - وسيظل - مرجعية وبوصلة وأفقا. تعلمتُ منه، وتتلمذتُ على فكره وخصاله، وخطوتُ بين يدَيْه، وأحسنتُ الصمت في حضرَتِه، حين كنت أجلس إليه وحين كنتُ أقرؤه، وتلبّستْني في الكثير من الأحيان حالتُه، وفكرته، ونبرته، ولغتُه، وغضبتُه، وسؤاله، وقلقُه، وأنَفَتُه، ومروءته، وعفّتُه..

كان قدوةً لمن كان يحب أن يخطو في درب الحياة وحومات الفعل نزيهًا عفيفًا نظيفًا جريئًا. ولعنا أخفَقْنا، لعلّي أخفقتُ - لكي أكون دقيقًا، ولكي لا أَتحدث إلاّ عن نفسي في أفق صورته البهية الباذخة وأفق نموذجه الفكري والإنساني والأخلاقي - أخفقت في أن أتقلَّل كما تقلَّل هو، فقد كان الجابري مثالاً للتزهُّد الأخلاقي النادر. ولعله كان نابعًا من تربيته وتكوينه وعمق تجربته، وأساسا من قدرته على خلق التوازن الضروري بين الفكر والاختيار والأخلاق. والحق أن «الأخ عابد» - كما كنتُ أناديه دائمًا - كان يمثل نموذجَنا الأبرز، ليس فقط في اجتهاده الفكري، وإنما في أسلوب حياته أيضا، وإن لم نستطع أن نشيد لأنفسنا كما شيد لنفسه إيقاعًا خاصًا من حيث الانتظام في الانتاج الفكري، وفي الكتابة. لقد نجح رحمه الله في بناء مشروع فكري فذ لأن فكره كان نابعا من إيمانه العميق بقوة القضية التي نذر لها حياته. لم يكن ا لجابري يفكر ويكتب ليسترزق او ليبحث عن الأَضواء، أو ليمد صلاتٍ او علاقاتٍ. ولذلك، فقد شيَّد لنفسه، ولمشروعه الفكري، ولاجتهاداته ومواقفه مناعةً معرفيةً واخلاقيةً، خصوصا ضد تجاذبات الممارسة السياسية وإِغراء أو إِكراه مناطق ومواقع النفوذ.

ولأَنه كان حاسما في حدود التزاماته النضالية والاجتماعية، بعد أَن أَعطى الكثيرَ الكثير، وخَبِر الأَشخاص والأَقوال والأَفعال والمراحل والمنعطفات، فقد فَرَض على نَفسِه طرازًا صارمًا من التفاعل والتعامل حتى إِنه لم يكن معنيًا دائمًا بما يقال او بما يصله من أَنواع من التهجم الرخيص أو نقد الصغار، وكان كبيرًا في حواراته و جدالاته الفكرية التي كانت تستدعي من مجادليه ضرورة الارتقاء الي رفْعته الفكرية والأَخلاقية. وبذلك، ربح وفرة من الوقت والجهد ليمنح لنَفْسًه ولمشروعه الفكري عدة منافذ كي يواصل كشوفه في خرائط التراث العربي الاسلامي وفي نقد الحداثة، وهو ما انتهى به في النهاية - كما كان الشأن بالنسبة لكبار فلاسفة العالم - إلى جرأة البحث والتأويل في عمق النص المقدّس. خطوة كبرى وثّابة خَتَم بها الجابري مشروع تفكيره ومسار حياته الغنية المثمرة، في مرحلة لا تخلو من الانحدار والرداءة وابتذال القيم. ولقد عرفنا كيف نقترب من أفقه الرحب، تلامذةً واخوةً وأبناءَ وأصدقاء ورفاق طريق، وعرفنا في حياته كيف ننصت، وكيف نتعلم،و كيف نقرأ، وكي نفكر، وكيف نكتب، وكيف نعفّ، وكيف نعفو، وكيف نغفر، وكيف نستدرك، وكيف نصحح،و كيف نتجاوز، وكيف نختلف، وكيف نرتب الاختلاف ونأتلف، وكيف نتسامح، وكيف نتأمل قارة التراث دون ان نكون ماضويين، وكيف نمضي إلى المستقبل بدون أن نكون مقطوعي الجذور.. فهل سنعرف الآن، و قد رحل عنا إلى الأبد متوَّجًا بالمجد والحب وروح الوفاء الصادق العميق، كيف نقترب من موته، أقصد من حياته الأخرى كنص معرفي، وكمرجعية استثنائية، وكأفق متجدد مفتوح لتفكيرنا ولنضالنا ولأخلاقنا؟ علينا الآن أن نعرف كيف ندخل إلى كاتدرائية فكره العالية، علينا أن نعرف كيف نرتقي إلى رفعته فلا ننزل. رحم الله أخانا عابد، وبلّل الله تُربتَه،و أَلحقنا به - حين يأتي النداء - صادقين، زَنقياء، مطهَّري العقل والنفس واليد والذيل.