بعيداً عن تصنيم الراحل الكبير

شهادات

ما لم يحدث في قراءة الجابري

صلاح بوسريف

مات الجابري. هكذا وصلني خبر رحيل المفكر محمد عابد الجابري، لم أسْتَسِغ الخبر، رغم أنه جاءني من صحافي، فسَعَيْتُ للتَّأَكُّد من صحة الخبر، أو من بُطلانه، في الحقيقة، لأنني، أرى في رحيل بعض من اسْتَأْنَسْتُ بمعرفتهم، أو بقراءتهم، خسارةً فادحةً ليس لي، بل لِكُلِّ الذين يُواظِبُون على قلق الأسئلة، وعلى خَوْضِ المعرفة، بكُلِّ احتمالاتِها. مات الجابري. هذا ما أصبح حقيقةً، وليس مُجرد خبر، يقبل الصدقَ، كما قد يكون كاذباً. كان الجابري، أول مَنْ وَضَعَني في مُوَاجَهَة الفلسفة. لم أكن من طلبته، بشعبة الفلسفة، بكلية الآداب بالرباط، لكن كتاب 'دروس الفلسفة لطلاب الباكالوريا المغربية' الذي كان تأليفاً مشتركاً بينه وبين الراحل أحمد السطاتي، والأستاذ مصطفى العمري، الصادر في بداية السبعينيات، كان بالنسبة لي، لحظة اللِّقاء الأولى، بنوع جديد من التفكير، وبأسئلة، لم أكن تعوَّدْتُ على سماعها. كنتُ، في قسم الباكالوريا، لا أهتم بالدروس التي أتلقَّاها من أستاذ الفلسفة، رغم أهميتها، فهي لم تكن كافيةً لي، على الأقل، في فهم طبيعة المشكلات التي أصبح هذا الدرس الجديد يطرحُها عليَّ.

كان الكتابُ مَرْجِعاً مهماً، ليس لجيلي فقط، بل لجيل السبعينيات في المغرب، وأحد أهم أسس المعرفة الفلسفية، في المدارس المغربية، آنذاك، أي قبل أن تَمَّ طَمْسُ الفلسفة، واستبدالُها بما كان فكراً نقيضاً لما كان يحمله الكِتَاب، رغم أنه أُنْجِز بتكليف من طرف وزارة التربية الوطنية. في بغداد، حين عثرتُ على كتاب 'نحن والثرات'، قرأته، دون تأجيلٍ، وكان هذا العمل، هو صلة الوصل الدائمة في قراءتي للجابري، وفي تَعَرُّفِي عليه، حين عودتي إلى المغرب. في هذا العمل، بَدَت، بوضُوح ملامح تَوَجُّهات الجابري نحو الماضي، وبدا مشروعه النقدي الكبير الذي سيؤولُ به إلى البحث في العقل العربي، الذي جاء 'الخطاب العربي المعاصر'، كنوعٍ من القراءة، في الحاضر، لكن بنوعٍ من الالتفات المُسْتمِر إلى هذا الماضي، الذي اسْتَشْعَر الجابري ضرورة العودة إليه، لأنَّ الكثير مما يجري في الحاضر، وما جرى في الخطاب النهضوي، لا يمكن فهمُه بوضوح، أو لا يمكن اسْتِيعابُه إلاَّ باستيفاء المعرفة بمقدماته، وهو ما حدا، في تصوري، بالجابري إلى العودة، ليس إلى التراث، بالمعنى الذي كان يجري عند المشارقة، أو ما كان قام به حسين مروة، وطيب تيزيني، في سياق تصوراتهما المادية، أو ما عمل أدونيس في 'الثابت والمتحول' على فضحـه، من ثوابت أو مُعيقاتٍ فـي الفكـر والشعـر معاً. فالجابري اختار 'العقل'، أو ما يمكن اعتباره ميكانزمات التفكير عند العرب، وهذا ما حَدا به إلى اختيار مقاربات، هي غير ما كان مألوفاً، أو ما صار بالأحرى، سائداً بعد هذه القراءات، في الجامعات المغربية بشكل خاص.

رغم أن الجابري اختار التَّوَجُّه الإبستمولوجي، فهو كان، في الحقيقة، يقترض، مفهوماته من أكثر من منهج، وهو ما أربك الكثيرين ممن قرأوه، وم مَنْ سيعتبرونه قرأ التراث بدون منهج، أو كان يفتقد بالأحرى، للوضوح المنهجي الكافي. لم يستسغ، الكثير من المشارقة، قراءة الجابري للتراث، هذا الآتـي من خارج 'المركز'، وكأن التراث صار حكراً على هؤلاء دون غيرهم. وحين قدم الجابري قراءته حول ابن رشد، وما وصل إليه من نتائج، لها علاقة بالانتماء، أو بالسياقات المعرفية التي في ضوئها ظهر فكر ابن رشد، قياساً بما كان في المشرق العربي، فهذا أزعجَ الكثيرين، وهو ما أفضى ببعضهم إلى اتهام الجابري بالتعصب، أو بالإفراط في ما وصل إليه من نتائج، وهو ما بدا في دراسته حول الفكر الرُّشْدي، في كتابه 'نحن والتراث'، الذي كان مقدمةً لما أنجزه في ما بعد من تحقيقات لأعمال ابن رُشد، ودراسته 'ابن رشد .. سيرته وأعماله' التي كانت تتويجاً لعمله حول هذا الفقيه الفيلسوف. من قرأ مقدمة كتاب 'نحن والتراث'، سيفهم جيداً، كيف كان الجابري يبني رؤيته للأشياء، وما سيصل إليه، في ما بعد من قراءة في التراث الفكري العربي، بكل مكوناته، بما فيها عمله الأخير حول القرآن. فهذه المقدمة، هي بمثابة البيان النظري، أو المنهجي الذي فيه وضع الجابري أُسُسَ عمله القادم، وغَضُّ النظر عن هذه المقدمة، لن يَسْعَفَ قارئ الجابري في فهم أُسُس مشروعه في عمله الضخم، والكبير حول 'العقل العربي'

كان الجابري، بالنسبة لي واحداً من الذين فتحوا لي طريق الماضي، وهو ما حدث لي مع حسين مروة وأدونيس، وغيرهما ممن خاضوا في هذا الماضي البعيد، ولعل أهم هؤلاء، كان الدكتور طه حسين، الذي كان أوَّل الضِوْء. أعتقد، اليوم، أننا في حاجة لإعادة قراءة الجابري، بعد رحيل الرجل، أو تَوَقُّف مشروعه الفكري، عند حدود ما أنجزه من أعمال، وتقييم مشروعه، دون حساباتٍ، طالَت الشخص أكثر مما طالت العمل. فهذا الرجل الذي تخلَّى عن العمل السياسي، الذي أخذ منه وقتاً كبيراً، وتركَ كل مسؤولياته داخل الحزب، نذَرَ نفسه للعمل الفكري، وجاب أراضٍ، ليس من السَّهل خَوْضُها، لِمَا يَحُفُ بها من مزالق، وما تَحْتَمِلُه من تأويلاتٍ، لم يعد المفكر وحده المعني بها، فثمة غير المفكرين، ممن باتوا أوصياء على العقل وعلى حرية التفكير، مِمَّنْ أصبحوا يتدخَّلُون في كل ما له صلة بالماضي، وفي نوع التأويلات التي يحتملها الماضي، خصوصاً في جانبه الديني.

مهما تكن اختلافاتُنا مع الراحل، ومهما تكن طبيعة المنطلقات الفكرية أو المنهجية التي نقرأ بها الماضي، فمعرفتنا بفكر الجابري، أصبحت من ضرورة المعرفة، التي لا غِنىً عنها. لا أعني أن نضع الجابري موضع الصَّنَمِ، بل يقتضي الفكر النقدي أن نقرأه، لكن بعينٍ ساهرةٍ يَقِظَةٍ حَذِرَة، وبالعودة لاختبار منهجه في القراءة، واختبار مرجعيته التي استند إليها في قراءته، قبل أن نذهب لتأويلاته، التي قد لا تفيد في معرفة الطريق الذي قطعهُ قبل الوُصول إلى ما وَصَل إليه. ثمة علاماتٍ، لا يمكن للطريق أن يكون سالكاً إلا بقراءة ما تُشير إليه، وهذا بالأسف، ومن منظوري كقارئ حريص على اختبار إشارات الطُّرُق، قبل السَّيْر، هو ما لم يحدث في قراءة الجابري، الذي خبر علامات السير، وكان مُدْرِكاً لأهوال الطُّرُق التي جابها، وهو ما عبر عنه الجابري في أكثر من مكان.