لكن، لا تحديث أيضا من غير تأصيل

شهادات

لا تأصيل من غير تحديث

عبدالسلام بن عبدالعالي

مأخذان يأخذهما محمد عابد الجابري على التيارين السلفي و الحداثي في الفكر العربي المعاصر: يأخذ على الأول كونه انكب على التراث من غير أن يستطيع أن يجعله معاصرا لنا، فهو أراد أن يؤصّل، لكن من غير تحديث. أما الثاني، فأراد أن يستورد مقومات الحداثة، ويستورد حتى أصولها، أراد أن يحدّث من غير أن تأصيل. سنتبيّن فيما بعد أن هذين المأخذين هما في واقع الأمر مأخذ واحد ذو وجهين، لسبب أساس وهو أن عمليتي التحديث والتأصيل، في نظر صاحب «نقد العقل العربي»، عملية واحدة، أوقل إنهما وجهان للعملية ذاتها.  تقوم هذه العملية في محاولة إرساء المرجعية داخل ثقافتنا للمفاهيم التي تشكل قوام الحداثة بهدف «استنباتها في تربتنا»، و«ربطها بما قد يكون لها من أشباه ونظائر في تراثنا، وإعادة بناء هذه بطريقة تجعل منها مرجعية للحداثة عندنا». إنها إذن «تبيئة ثقافية» لتلك المفاهيم. لا يتعلق الأمر بطبيعة الحال بمجرد إيجاد مقابلات عربية وترجمة مفاهيم و«نقلها» الى لغتنا وثقافتنا، كما لا يتعلق بالأوُلى بإثبات سبق للفكر العربي الإسلامي في جميع الميادين، والتفاخر بأن أجدادنا كانوا «السباقين على الدوام»، وإنما بتبيئة وزرع واستنبات .هذه الاستعارات التي ترد الى فلاحة الأرض و»فلاحة» الفكر تنقلنا الى تلك العملية التي ينتهجها الفلاح عندما يسعى الى استنبات مزروعات نقلت نقلا من بيئة مغايرة بهدف تدجينها و «تبيئتها» مع ما يتطلبه كل ذلك من مجهود وإعادة نظر و»تكييف» لطبيعة التربة و المناخ المحيط .

على هذا النحو يغدو التحديث انتظاما نقديا في الثقافة العربية لتلك المفاهيم التي تؤسس للحداثة. انه تغيير من الداخل ، وهو ليس قطيعة مع الماضي، وإنما «ارتفاعا بطريقة التعامل مع التراث الى مستوى ما نسميه بالمعاصرة». بهذا لن تعود تلك المفاهيم غريبة كل الغربة، وإنما تصبح، على حد قول أحد الروائيين الجزائريين، مفاهيم intrangers، مفاهيم، رغم غربتها، فهي "تجد أصولا في تراثناّ". يتعلق الأمر إذن بتجديد ثقافتنا من داخلها. هذا التجديد من الداخل يتبع استراتيجية ذات أبعاد ثلاثة:
 -  نقد التراث نقدا عقلانيا
-
 نقد الحداثة والكشف عن نسبية شعاراتها، وإبراز أصولها التاريخية التي هي أصول عربية إسلامية لاتينية اغريقية.
 -  ثم التأصيل الثقافي للحداثة في فكرنا ووعينا.

لا ينبغي أن ننسى أن هذا التجديد يستجيب لحاجة عملية يفرضها وضع الذات العربية في الظرف الراهن، وأن السؤال الأساس الذي ينبغي أن تجيب عنه وتستجيب له هو:» كيف يمكن للفكر العربي المعاصر أن يستعيد ويستوعب الجوانب العقلانية في تراثه، ويوظفها توظيفا جديدا؟». على هذا النحو يغدو تحديث التراث قضية استراتيجية:» فما لم نمارس العقلانية في تراثنا، وما لم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في هذا التراث، لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا، حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة العالمية كفاعلين لا كمجرد منفعلين». لكن كيف تغدو هذه الحداثة «العالمية» حداثة خاصة بنا؟ هذا هو الوجه الآخر لعملية التجديد من الداخل: انه التأصيل. يقوم تأصيل المفهوم على نقله الى ثقافتنا و»إعطائه مضامين داخلها تتناسب مع المضامين التي يتحدد بها أصلا في الثقافة الأوروبية التي منها نقلنا هذا المفهوم». فإذا كانت الحداثة على سبيل المثال تستعمل مفهوم حقوق الإنسان «فان ما نعنيه بالتأصيل الثقافي لحقوق الإنسان في فكرنا العربي المعاصر هو إيقاظ الوعي بعالمية حقوق الإنسان، وذلك بإبراز عالمية الأسس النظرية التي تقوم عليها والتي لا تختلف جوهريا عن الأسس التي قامت عليها حقوق الإنسان في الثقافة الغربية. ومن هنا يبرز الطابع العالمي-الشمولي الكلي المطلق لحقوق الإنسان داخل الخصوصية الثقافية نفسها». ومعنى العالمية هنا أن تلك الحقوق « تقوم على أسس فلسفية واحدة. أما الاختلافات فهي لا تعبّر عن «ثوابت ثقافية»، وإنما ترجع الى اختلاف «أسباب النزول»، أي اختلاف الشرط التاريخي.

المنحى ذاته نلتقيه عند صاحب «المثقفون في الحضارة الإسلامية» فيما يتعلق بتأصيل مفهوم المثقف في ثقافتنا العربية الإسلامية. نقرأ في هذا الكتابوهكذا نجد أنفسنا أمام النتيجة التالية التي يفرضها علينا التاريخ الأوروبي نفسه، وهي أن ظاهرة «المثقفين» في العالم العربي المعاصر، إذا كانت ترجع الى الاحتكاك بالثقافة الأوروبية الحديثة، فان الظاهرة نفسها نشأت في أوروبا الوسيطة نتيجة احتكاكها بالثقافة العربية الإسلامية...إن المثقفين في العصور الوسطى الأوروبية هم من نتاج المثقفين في الحضارة العربية الإسلامية" قد تتعذر علينا مسايرة هذا التحليل أو على الأقل متابعته. إلا أننا ينبغي أن نستحضر الخلفية الفكرية التي تقوم من ورائه وهي الإيمان القويّ بوحدة التطور البشري، والتسليم بأن هناك تاريخا كليا تتراكم لحظاته وتستمر وتتواصل، بحيث يشكل التاريخ العام عصارة المساهمات النوعية للثقافات جميعها. بهذا المعنى يغدو تراثنا العربي الإسلامي لحظةً من لحظات قيام الحداثة «العالمية». هناك إذن عالمية لتراثنا العربي الإسلامي لا ينبغي أن تغيب عن أذهاننا الى حد أننا حينما نقيم تعارضا ومقابلة بين الأصالة والمعاصرة نكون كأنما وضعنا "الفكر الإنساني في مقابل نفسه".