إذا كان الخطاب النقدي (الأدبي) المعاصر بالمغرب لم يبدأ في فرض صوته، وداخل الخطاب النقدي العربي المعاصر، إلا منذ منتصف السبعينيات، فإن الخطاب الفلسفي بالمغرب استطاع أن يفرض صوته في فترة باكرة تعود إلى الستينيات النازلة. بل إن تأثير هذا الخطاب، ومقارنة مع تأثير الخطاب النقدي الأدبي، كان، ولا يزال، هو الأرجح والأقوى، ومرد ذلك إلى ما يمكن نعته بـ«المنحى النقدي التركيبي»، الذي سيميز بعض الأعمال أو بالأحرى المشاريع الفكرية الأولى التي ستجعل «المشارقة» ينظرون بـ«احترام» إلى ما يحصل بهذا البلد الذي قيل لمحمد عابد الجابري، العام 1958، وعندما كان فيه طالبا بدمشق، «هل يوجد فيه ماء» (حوار المشرق والمغرب، ص29). هذا، وإن كان هناك من لا يزال يشكك في هذا الخطاب بل ويسعى إلى «الإطاحة» به كما في حال أحد أبرز ممثليه محمد عابد الجابري (1935 ــ 2010) الذي كان الأكثر حضورا في المشرق، ودون التغافل عن عبد الله العروي (1933 ــ) الذي كان قد سبقه من ناحية التأثير من خلال كتابه المزلزل «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» الذي اطلع عليه القارئ العربي، وضمنه المفكر العربي، من خلال «الترجمة العربية» (1970) التي سينقلب عليها العروي نفسه من خلال إقدامه، اللاحق، وبعد وفاة مترجم الكتاب، وعلى وجه التحديد العام 1995، على إعادة صياغة الكتاب. ودون التغافل أيضا عن محمد عزيز الحبابي (1922 ــ 1993) الذي كان بدوره قد لفت الانتباه إليه هناك في المشرق من خلال أبحاثه ذات الصلة بـ«الشخصانية». إجمالا مع هؤلاء، ودون التغافل عن مؤسس «النقد المزدوج» عبد الكبير الخطيبي (1938 ــ 2009)، سيتم التخلص من «الهاجس السياسي الإصلاحي» الذي ظل مهيمنا، داخل الفكر المغربي، إلى حدود الستينيات.
غير أن قراءة الجابري التحليلية، وللتراث بصفة خاصة، كانت الأكثر انتشارا وتداولا داخل الفكر العربي بتياراته وإشكالاته ونزعاته. بل إنه يمكن الزعم بأنه بعد مشروع «نقد العقل العربي»، لم يعد بالإمكان قراءة التراث كما كان يقرأ من قبل، بل ويمكن القول بأن الجابري هو الشخصية المثيرة بعد طه حسين (1889 ــ 1973) داخل الفكر العربي المعاصر أو إنه «طه حسين نهاية القرن» كما صنفه أحد أكبر «أعدائه» وهو جورج طرابيشي (مجلة «النهج»، العدد 47، صيف 1997، ص208). هذا، وتجدر الإشارة إلى أنه ليس طرابيشي بمفرده من يماثل بين طه حسين ومحمد عابد الجابري. وكنا قد سعينا إلى «دحض» هذه «المماثلة» في مقال لنا نشر، وتحت عنوان «بين طه حسين ومحمد عابد الجابري»، في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» (21 أبريل 1999). وفي الحق ثمة قامات فكرية كانت، ومن موقع قراءة التراث ذاتها، قد أثارت نقاشات حادة مثل أدونيس وصادق جلال العظم ونصر حامد أبو زيد... غير أن الضجة التي أثارتها كتب هؤلاء كانت تستجيب لموقف معين، وصدامي، من الدين أو كانت تستجيب لحدث سياسي معين.
والمؤكد أن الاقتراب من مثل هذه المواضيع يؤهل المفكر أو الكاتب ليثير ضجة معينة أو ليثار حوله نقاش محموم بل وأن يتم تقديمه قربانا وسط حرائق الضجة. الجابري تمكن من أن يفتح نقاشا واسعا حوله من خارج هذه الدائرة وقبل أن يقدم على الكتابة في مجال «فهم النص القرآني» التي أثارت ردودا حادة وإن خارج المغرب فقط. ثم إن حجم الكتابات، والاتهامات أيضا، حول مشروعه، المعمّد بـ»نقد العقل العربي»، لم يحظ بها، وحتى الآن، أي مشروع قرائي للتراث عدا نجيب محفوظ وفي مجال الإبداع الروائي. لقد دشَّن الجابري، وبمفرده، «عهدا قرائيا جديدا» ينم عن إبحار عريض في «قارة التراث». ومصدر ذلك طبيعة القراءة التي اعتمدها والتي تستند إلى مستندات معرفية وإيديولوجية. هذا بالإضافة إلى طريقة «الكتابة» التي سلكها في مشروعه النقدي الكبير. فكتاباته تعانق مضمونها بشكل مباشر ولا مجال فيه للزوائد. إنه ليس، وكما قال، وقبل أن يشرع في نشر مصنفات «نقد العقل العربي»، من أنصار «الكتابة في الكتابة». ولعل هذا ما يذكرنا بكتابة الخطيبي التي تمحي فيها الفواصل بين المقدمات والخلاصات بل تغدو الكتابة فيها جزءا من الفكر إن لم نقل هي الفكر ذاته. وربما أن الجابري، هنا، يقصد أيضا إلى العروي الذي يستند إلى منظور تحليلي قوامه التكثيف والاختزال لا التبسيط والتدرج. محمد عابد الجابري لا يتلذذ بالنقاش، وفي مقابل ذلك يسعى إلى صياغة أنساق مغلقة تنتهي إلى نتائج مغلقة تنتهي بدورها إلى نتائج محددة. من هنا نفهم اعتماد كتاباته أسلوب التدرج والتنسيق وبيداغوجيا التواصل. وهذا ما ساهم، ومن ناحية موازية، في تداول مشروعه وعلى نطاق واسع.
والرجل كتب، وقاوم وجابه، على مدار زمني يزيد على أربعة عقود. كان من الصنف الذي لا يهدأ بالتعبير السارتري الآفل. وليس غريبا أن يعرف خطابه، وعلى امتداد هذه الفترة، تحولات لا يهمنا أن نبحث فيها الآن أو هو ما كنا قد سعينا إلى القيام بجزء منه في كتابنا «التراث والقراءة» (2002) الذي كرسناه للخطاب النقدي المعاصر بالمغرب والذي لا نخفي إفادتنا منه في هذا المقال. يهمنا أن نشير إلى أن مشروع «نقد العقل العربي» حظي بكم هائل من الكتابات التي ــ ربما ــ يصعب حتى على محمد عابد الجابري نفسه مواكبتها والإحاطة بها. فهي تتطلب عملا بيبليوغرافيا مستقلا أو مسحا لمكتبة شبه قائمة بذاتها. وقد كتبت عنه كتب مستقلة أنجز بعضها مفكرون مكرسون ولهم مكانتهم في خريطة الفكر العربي. هذا عشرات المقالات والدراسات المتفرقة في الصحف والمجلات والدوريات والكتب الجماعية. وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى كتاب «هل هناك عقل عربي؟» لهشام غصيب (1993)، و»من الاستشراق الغربي إلى الاستشراق المغربي» لطيب تيزني (1996)، و«نقد العقل العربي في الميزان» ليحيى محمد (1997)، و«نقد العقل أم عقل التوافق» لكمال عبد اللطيف (1999)، و«الرؤى المختلفة» لسيار الجميل (1999)، و«الجابري بين طروحات لالاند وجان بياجيه» لمحمد مبارك (2000). ثم جورج طرابيشي الذي يفرض ذاته أكثر، طالما أنه الوحيد الذي كرس لمشروع «نقد العقل العربي» مؤلفا ضخما جاء تحت عنوان «نقد نقد العقل العربي» وقد اطلعنا على ثلاثة أجزاء منه هي «نظرية العقل» (1996)، و«إشكاليات العقل العربي» (1998)، و«وحدة العقل العربي الإسلامي» (2002).
وهناك أيضا كتاب «الرؤية العرفانية في العقلية العربية» لفاطمة سامي فرحات (2002)، و«الكتلة التاريخية من غرامشي إلى الجابري وملاءمتها للبحرين» لعبد الله جناحي (2004)، و«الفكر الإمامي في نقد الجابري» لأحمد محمد النمر (2005). وصولا إلى كتاب «التحليل والتأويل: قراءة في مشروع محمد عابد الجابري» لعلي المخلبي الذي هو من بين آخر الإصدارات حول الجابري(2010) ، هذا بالإضافة إلى الحضور المتميز للمشروع، والذي بلغ حد الهيمنة في أحيان، داخل كتب مثل «مداخلات» لعلي حرب (1985)، و«مذبحة التراث في العقل العربية المعاصرة» لجورج طرابيشي (1993)، و«تجديد المنهج في تقويم التراث» لطه عبد الرحمان (1994)، و«البنيوية وتجلياتها في الفكر العربي المعاصر» لإبراهيم محمود (1994)، و«قراءات نقدية في الفكر العربي المعاصر» لعلي حب الله(1998). . وكما حظي مشروع الجابري بمناقشات أخرى في كتب مثل «الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي» لمحمود أمين العالم (1986)، و«التراث والهوية» لعبد السلام بن عبد العالي (1987)، و«التراث بين السلطان والتاريخ» لعزيز العظمة (1987)، و«نقد العقلانية العربي» لإلياس مرقص (1987)، و«نقد النص» لعلي حرب (1993)، و«أسرى الوهم» لأحمد برقاوي (1996)، و«الفلسفة العلمية» لعبد القادر محمد علي (1997)، و«سلطة النص» لعبد الرحمان الهادي (1998)، و«قراءة نقدية في الفكر العربي المعاصر» و«دروس في الهرمينوطيقا التاريخية» لمحمود إسماعيل (1998) و«قراءات نقدية في الفكر العربي المعاصر» لعلي حب الله (1998)، و«ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر» للزواوي بغورة (2001). و«جاذبية الحداثة ومقاومة التقليد» لمحمد الشيخ (2005)... إلخ. هذا بالإضافة إلى من سعوا إلى «محاورة» الجابري مثل بنسالم حميش في «معهم حيث هم» (1988)، و أحمد برقاوي وأحمد ماضي وجمال مفرج..[وآخرون] في «التراث والنهضة: قراءات في أعمال محمد عابد الجابري» (2004).
وقد وجهت انتقادات كثيرة لمشروع صاحب «نحن والتراث» على رأسها مسألة «القطيعة» (أو «القطيعة المزعومة» كما ينعتها أحد منتقديه) التي يقيمها بين الفكر المغربي والفكر المشرقي بسبب من «عقلانية» الفكر الأول و»لاعقلانية» الفكر الثاني، و»تجاهل الشيعة» وإصراره على ربطها بـ»الهرمسية»، وكذلك «تقوقعه في إطار التحليل الإبستيمولوجي»... إلخ. هذا بالإضافة إلى اتهامه بـ»السرقة» من كتب عربية، وإحالته على كتب لم يقرأها و»سوء ترجمته بعض المفاهيم»... إلخ. من الجلي أننا أمام ركام هائل من الكتابات سعى بعضها إلى النظر في مجموع «العقل» الذي سعى الجابري إلى تتبع «تكوينه» ودراسة «نظمه المعرفية» و»مستوياته السياسية» و»الأخلاقية»، وسعى بعضها الآخر إلى الاكتفاء بموضوع واحد ضمن المواضيع أو الإشكاليات التي عالجها الجابري، وسعى بعضها إلى تتبع تأثير فلاسفة غربيين في المشروع أمثال فوكو وغرامشي ولالاند وبياجي. ومعنى ذلك أن المشروع فتح «أفقا» في الفكر العربي المعاصر، وسمح للبعض بأن يبرهن على أدواته المعرفية وعلى موقفه من التراث. وتلك هي عادة «النصوص القوية» أو «المشاريع الرائدة» التي لا يكف الجدل حولها.
والأهم أن الكتابات السالفة في حاجة إلى «مراجعة هرمينوطيقية» تسعفنا على التمييز داخلها بين «التحليل» و«التفسير» و«التقويم» ومدى تمايز هذه العناصر التكوينية ومدى تداخلها في «فعل القراءة»، وكل ذلك في المدار الذي لا يجعلنا نتغافل عن البحث في «المستندات المعرفية» التي تسند هذه القراءات طالما أن جانبا كبيرا منها لا يخلو من «تحامل» و»تآمر» لـ»الإطاحة» بمشروع الرجل. إن «أقوالا» من مثل «إن محمد عابد الجابري يمثل «عقبة إبستيمولوجية»، وإنه «من أبرز المفكرين المثاليين في الوطن العربي اليوم وأكثرهم خطورة أيضا لقدرته على النفاذ إلى عقل القارئ وإيقاعه بين شباكه السحرية المثالية»، و»إن مشروعه عبارة عن أحلام فكرية لا تمت إلى الواقع بصلة»، و»إنه يساير الاستشراق الاستعماري» بل «إنه أكثر استشراقا من بعض المستشرقين»، و»إنه يكتب عن العقل ولا يكتب به»... جميعها أقوال توجِّه الكتابة، بل وتعطّل «التحليل الصارم» لفائدة «التقويم النافر». وقبل ذلك تعكس نوعا من «التوتر» الذي يشوش على «التناص الموجب» الذي بموجبه تتضافر «تاريخية القارئ» مع «تاريخية المقروء»، مما يفضي إلى «تعطيل الحدث القرائي». غير أن ما سلف لا يفند البتة أهمية بعض الدراسات السابقة (كدراسة علي حرب ويحيى محمد...) التي أسهمت حقا في إثراء مشروع الجابري. هذا وإن كانت أغلب الكتابات قد ركزت على مشروع «نقد العقل العربي» دون أن تلتفت إلى ما سبقه من كتب غنية وقوية («العصبية والدولة» (1971( تعيينا بالنظر إلى النقاش الذي حظي به «نحن والتراث» (1980) والذي جعل الأنظار في المشرق تلتفت إلى صاحبه.
كان من الجلي أن يفتح الجابري مثل هذا النقاش ولا لأنه قدم «قراءة معاصرة» للتراث سعت إلى «القطيعة» مع القراءات السائدة فقط، وإنما لأنه قدم، وعلى أرض «معركة القراءة» ذاتها، «نقدا لاذعا» للفكر العربي المعاصر يمينه ويساره على حد سواء بل ونعته، وبجرأة نادرة، بـ»السلفية». وليس غريبا أن يتواصل الهجوم عليه حتى «في مماته»، ذلك أنه من الصنف المطلوب «حيا أو ميتا». غير أنه لا بأس من التمييز، هنا، بين «واجب التأويل» (والتعبير لإدوارد سعيد) الذي ينبغي أن نواجه به مشروعه وبما يخدمه ويؤسس بالتالي لنوع من «الفكر القرائي الاختلافي» وبين «مقصلة التأويل» (والتعبير لصبحي حديدي، هذه المرة) التي لا تفيد المشروع في شيء طالما أنها لا تتأسس، وابتداء، على أي «حس قرائي».