وكعادتنا مع سائر الأحداث والقامات، وفي لحظات "الرجة"، في أشكالها المختلفة، فإننا لا نملك من غير وسيلة الكتابة، ومن حيث هي وسيلة مثلى، لـ"الرد" ولـ"القياس". ولم يكن غريبا أن يحظى المفكر الأبرز والأشهر محمد عابد الجابري، ولمناسبة وفاته، صباح يوم الاثنين الثالث من شهر ماي 2010، بسيل من الكتابات جاءت في شكل ردود وتعليقات وشهادات وحوارات... وأجمعت على أهمية مشروع الرجل على الرغم من "الغمز" الذي طال بعض هذه الكتابات، ودون التغافل عن البعض ممن خلد لـ"الصمت" بخصوص الحدث. وتلك "حكاية" أخرى وذات صلة بـ"مرض الطمس" الذي يكشف عنه المثقف في سياق السعي إلى محاولة "الإطاحة" بأخيه المثقف. وفي جميع الأحوال فقد "تكلم" أغلب المفكرين والمحللين والمثقفين بخصوص "الحدث" باستثناء مفكر أو مفكرين ومن الذين كان ينتظر منهم أن "يكتبوا" أو أن "يكلموا" على أقل تقدير.
ولذلك فإن مقالنا يحرص على الانتساب لسيل الكتابات سالفة الذكر، مثلما يحرص على الانخراط في المقالات الأخرى التي كنا قد كتبناها، وعلى مدار يزيد على عقد من الزمن، بخصوص المشروع نفسه. المشروع الذي ظل صاحبه حريصا على إثرائه بواسطة الدراسات المتواصلة والمقالات المتكاثرة وإلى ذلك الحد الذي جعل البعض يقول ــ وساخرا ــ "ما مر عام دون أن يصدر فيه الجابري مؤلفا أو كتابا". غير أنه تتوجب الإشارة إلى أن عنوانا في حجم عنوان "مع محمد عابد الجابري" يحتم علينا ضرورة التنبيه إلى بعده المجازي الغالب مقارنة مع بعده الحرفي الذي نعده محدودا جدا. فـ"المعية"، هنا، قرينة نوع من"المصاحبة الفكرية" التي لا تخلو من "لقاءات عابرة". وقد بدا لنا أن نلح على رجحان "المصاحبة الفكرية"، لأن الجابري لم يكن من النوع الذي يمكن اختراقه وبالتالي ادعاء صحبته. كان من الصنف الذي أحاط نفسه، وحماية لمشروعه، بـ"مسافة" لم يكن يخرقها إلا في لحظات محددة وعيا منه بتعدد المشاريع وقصر العمر (البيولوجي والأكاديمي).
غير أن المفكر، ومهما كانت الهالة التي يحيط بها ذاته ويحيط بها مشروعه، ومهما كانت المسافة التي يتخذها تجاه الأشياء وذاته، فإنه لا يمكنه أن يكون بدون "مريدين" أو بدون "تلامذة". وعندما نشترط هذا الشرط فإن ذلك لا يعني أن نجعل من هؤلاء مجرد "مرايا" تنحصر مهمتها في النقل والاستنساخ، دون أن تتجاوز ذلك نحو النقد والإبداع. وكما لا يعني تجنيد هؤلاء لإضاءة مشروع "الشيخ" ومواصلة تعميق مفاهيمه وتصوراته فقط... وهذا وارد بشدة وإلحاح، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بمشروع يسمح، ومن خلال أفقه الفكري المفتوح، بتوسيع دوائره في ضوء المشكلات المستجدة. دور التلامذة لا ينحصر في دور "التكميل" فقط، وإنما يتجاوز ذلك نحو "الاستفزاز المعرفي" المتحدّر من فورة الشباب وحماسة التلمذة. وهو ما كان قد أكد عليه باحثون وفلاسفة ومفكرون كبار مثل إمبرطو إيكو الذي أعرب عن أنه ليس هناك من يزعجه، أكثر، من "طلبته". وهو ما كان قد عبّر عنه، ومن قبل، فرديناند ديسوسير (1957 ــ 1913) الذي كان أول من مهَّـد للدرس اللساني الحديث والذي رحل قبل أن ينشر اثنان من أنجب تلامذته كتابه "دروس في اللسانيات العامة" (1916) الذي سيغيّر، فيما بعد، مجاري الدرس اللساني والفلسفي بعامة. وهذا لكي لا نشير إلى جان بول سارتر الذي كان يعتدي عليه تلامذته، وهي حالة لا تصمد كثيرا.
ولا أخفي أن إقامتي بالعاصمة الاقتصادية المغربية، الدار البيضاء، أو "المدينة النثرية" كما نعتها أحد أبنائها الكاتب الساخر إدريس الخوري، وعلى مدار الفترة الممتدة من 1993 إلى 1999، والتي كانت لا تزال تشهد على بعض "الجمر"، أتاح لي فرصة سانحة للجلوس بجوار الهرم الجابري في ندوة فكرية رفيعة، أقيمت يوم الأربعاء 19 أكتوبر 1997 بقاعة المسرح البلدي الكبرى التي امتلأت عن آخرها برجال الفكر والأدب والصحافة. وأظن أن الكثيرين يتذكرونها. وقبل ذلك كنت قد شاهدت الرجل، ولأول مرة، في محاضرة بالدار البيضاء نفسها، ولمناسبة انعقاد مؤتمر لاتحاد كتاب العرب. ووقتذاك كان اتحاد كتاب المغرب لا يزال في أوج عطائه، وكان على رأسه رئيس منخرط في الحزب الذي انتسب له الجابري، الحزب الذي كان لا يزال يحظى بحضوره الوازن وسواء في مجال الأثير المتمثل بالنشاطية السياسية أو في المجالات أو الجبهات الأخرى وضمنها الجبهة الثقافية. وقد أصاب اتحاد كتاب المغرب في اختياره للجابري لكي يلقي محاضرة على الحضور الحاشد، وكان الإعلان عن اسم الجابري بمفرده كافيا لجعل قاعة المركب الثقافي لـ"المعاريف" (وهي منطقة راقية بالدار البيضاء) تملأ عن آخرها بكتاب وأدباء ومفكرين عرب ومغاربة لفت الأنظار بينهم القائد الاتحادي الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي (الذي بدا متألما لرحيل الجابري كما التقطت ذلك عدسات بعض الكاميرات) والزعيم النقابي الأبرز، وقتذاك، نوبير الأموي. وحصل ذلك يوم كان للحزب، الذي انبنى على أكتاف البعض وفي مقدمهم الأخ محمد عابد الجابري نفسه، شأن داخل المشهد السياسي بالمغرب.
ولا أزال أذكر أن الجابري طرح في المحاضرة الخطوط العريضة لكتابه "العقل الأخلاقي العربي" الذي لم يكن المهتمون بمنجزه يتصورون أنه سيكون الجزء الرابع من مشروع "نقد العقل العربي" الذي كان الجابري نفسه قد أعلن أنه قد أنهاه بالجزء الثالث المعنون بـ"العقل السياسي العربي". وقد حرص على تقديم الخطوط العريضة للكتاب حتى يتسنى له الإنصات لبعض الردود التي تم انتقاؤها بشكل مسبق. وكان الجابري ذكيا وبارعا في إدارة أفكاره ومداخله التي تفضي إلى نتائجها واعتمادا على لغة تذهب فيها الكلمات إلى الأشياء مباشرة. والأهم أن الموضوع (الأخلاق) كان، حتى تلك الفترة، ولا يزال، ومن وجوه عديدة، غير مطروق، وعلى نطاق معمق ومقنع في الفكر الفلسفي العربي المعاصر. كان الموضوع لا يزال حديثا وسواء في المغرب أو العالم العربي... هذا مع أن الأخلاق ضرورية ولا في الفلسفة فقط، وإنما في العمل الثقافي والسياسي أيضا. ووقتذاك ترسخ في ذهني أن المغرب يحق له أن يفخر بقامة فكرية أو بهرم إبستيمولوجي يصعب التطاول عليه أو حتى محاورته. ولعل هذا الشعور ما سيراودني حين سيقترح عليّ الصديق الأعز الشاعر والأكاديمي حسن نجمي، ووقتذاك كان كاتبا لفرع اتحاد كتاب المغرب بالدار البيضاء، ولمناسبة افتتاح أنشطة الفرع لموسم 1997/ 1998، أن أتواجد بالمنصة إلى جانب الجامعي مصطفي المسناوي، والمحلل السياسي محمد الطوزي (الذي غاب عن المنصة)، حتى نعمل على توجيه "أسئلة" في ضوئها ينطلق الجابري في المحاضرة والتعليق. وكان ذلك، وللحق، أول نشاط وازن أشعر بالمساهمة فيه، ذلك أن جميع الأنشطة والعروض التي كنت قد قدمتها من قبل كانت لا تحيد عن دائرة "الشعر والشعراء"، أغلب المداخلات كانت حول الشعر الثمانيني وتقديم هذا الشاعر أو ذاك في بعض المدن المغربية. أما مسألة الفكر فلم أكن قد اقتربت منها حتى وإن كنت قد نشرت من قبل مقالات في الموضوع وعدد منها كان حول الجابري، مما جعل الصديق حسن نجمي، وغير الجاحد، يلتفت ويدعوني للمنصة حتى ينصت الجابري لباحث كان وقتذاك لم يتجاوز بعد عقده الثالث.
وبالنظر للذكاء الذي عكسه المسناوي، وهو الذي يكبرني سنا وتجربة، وعلى مستوى التركيز على أفكار محددة بدلا من الضياع في "نهر الأسئلة"، ارتأيت بدوري أن أعدل عن بعض الأفكار والأسئلة التي كنت قد أنفقت وقتا في إعدادها. وبالنظر إلى كون أني كنت منهمكا في إعداد دبلوم الدراسات العليا، وحول "قراءة التراث النقدي"، وفي فترة كنت قد قرأت فيها جميع ما كتبه الجابري حول التراث، بدا لي أن أطرح فكرة وجيهة حول موقع "النقد الأدبي" في مشروع "نقد العقل العربي" وبما بدا لي وثيق الصلة بـ"النظم المعرفية" ذاتها التي سعى الجابري إلى استخلاصها في عمله النقدي الباذخ. ومن ثم، وكما عبّرت، وبوثوقية الشباب، فإن مشكلة "الاعتزال" لا تتجسد في "علم الكلام" فقط، وإنما ألقت بظلالها في النقد وفي الأدب وبما في ذلك على صعيد الشعر الذي تأسست عليه مصنفات نقدية وبلاغية تراثية، والذي كان مهيمنا داخل الثقافة العربية الكلاسيكية. وفصّلت القول، وبعض الشيء، في الشاعر الأبرز أبي تمام (806 ــ 845م) واتجاهه الشعري المتعقل الذي جلب له "سخط المؤسسة النقدية" السائدة وقتذاك التي كانت تتغذى من "التوجهات السنية السائدة"، وواصلت، وإلى ذلك الحد الذي جعل ناقدا في حجم أبو القاسم الحسن البشر الآمدي (... ــ 987) يصر على تسمية أبي تمام بـ"الفيلسوف" أو "الحكيم" بدلا من "الشاعر" أو "البليغ" بدليل أن "طريقته ليست على طريقة العرب ولا مذاهبهم". واستخلصت أن أغلب الأنماط المشكلة لوحدة التراث السياقية الكبرى حاضرة في مشروع نقد العقل العربي عدا نمط النقد الأدبي الذي لم يكن يخلو من صلات مع هذه الأنماط التي أسهمتْ في "تشكيل" أو، بلغة الجابري، "تكوين العقل العربي". وكما أشرت إلى أن انفتاح الجابري على هذا لنمط الأخير كان لن يجعله يفارق "النقد" أو "التحليل الإبستيمولوجي" نحو "التحليل الأنثروبولوجي" الذي ظل يحتاط منه بل ويتحفظ عليه.
وبعد ذلك انتقلت إلى موضوع ثان، وبعيد عن التراث، وهو موضوع "المثقف" الذي بدا لي غائبا ولا من ناحية التنظير وإنما من ناحية "التمظهر" أو "التمثل الميداني". ومعنى ذلك أن الجابري آثر، وربما بعد فترة طويلة من الحضور، ومن خلال العدسة الحزبية، أن يتوارى عن "الفضاء العام"، وكل ذلك في المنظور الذي يجعل المهتم بخطابه يرى في ذلك نوعا من "الصمت" أو "الإضراب" عن "قول الحق قي زوجه السلطة" تبعا لعبارة إدوارد سعيد الشهيرة. وفي الصدد بدا لي أن أستفسر الجابر عن تصوره لعلاقة المثقف بالدولة؟ ومدى أهمية "العمل السياسي المباشر"؟ وما إذا كان بالإمكان للمثقف أن يتعيش على هذا العمل الذي صار في شكل "فتات"؟ وما موقف أستاذنا الجابري من "المغرب الراهن"؟ وإلى أي حد يمكن أن نصدق أطروحة "موت المثقف" التي كان قد أخذ البعض يروّج لها ومن داخل الفضاء العربي. وبما أن المحاضرة قد تمّت تغطيتها في أكثر من جريدة، وخصوصا جريدة "الاتحاد الاشتراكي" (السبت: 25 أكتوبر 1997)، وتابعتها (وقتذاك) "النشرة"، بل وتم بثها كاملة في قناة فضائية عربية، فإنه يهمني أن أشير إلى أن رد الجابري بخصوص المغرب لم يكن يخلو من "مراوغة". وفي هذا الصدد شدّد على كتابه "المغرب المعاصر" (1988) وقال إنه "كتاب مظلوم" وعادة ما يتم الالتفات إليه. والحق أن الكتاب لا يتجاوز مرحلة ما بعد الإعلان عن الاستقلال إلا بفترة وجيزة. وفيما يخص موقفه من "الأدب"، وقد يكون مقبولا، أنه لا يمكن أن نطالب ديكارت أو كانط بالاشتغال على الشعر، لكن دون أن تفوته الإشارة إلى مشكلات "الجمال" التي تفرض ذاتها في اهتمامات الفلاسفة.
أما اللحظة الثانية في "الصحبة"، و"من بعيد" دائما، فتتمثل في الرسالة التي بعثت بها إليه عبر زوجته التي كنت أعمل بجوارها في "ثانوية لارميطاج" الشهيرة بالدار البيضاء والتي كان الزعيم علال الفاسي قد أشار إليها في كتابه "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي" (1948). وكانت الرسالة قصيرة، وكان نصها:
"الدكتور المحترم محمد عابد الجابري
تحية ثقافة واحترام
وبعد
نخبركم أننا نشتغل، وضمن أطرحة دبلوم الدراسات العليا، على موضوع "قراءة التراث عند الناقد جابر عصفور". وقد لاحظت تقاطعه الكبير مع قراءتكم للتراث. وهو يشير إلى ذلك أكثر من مرة في كتابه "قراءة التراث النقدي".
لكن ما هو ملحوظ أن الدكتور الجابري يغيب النص النقدي في مشروع "نقد العقل العربي". وأرجو منكم أن توضحوا لنا هذه النقطة.
ومع كامل تحياتي واحترامي العميقة لكم"
ولم يتأخر في الرد إلا بيومين (12/ 04/ 1994)، وكتب:
"نقد العقل العربي نقد لنظم المعرفة في الثقافة العربية وليس نقدا لنوع معين من الخطاب. على أن الخطاب النقدي البلاغي قد تم التعرض له في "بنية العقل العربي". قسم البيان في فصل "اللفظ والمعنى". في "نظام الخطاب ونظام العقل"، ولكن ليس من منظور نقدي أدبي، بل من منظور تحليل بنية العقل الثاوي وراء النص
رهن إشارتكم
الجابري".
ولا أخفي أنه لو كان قد أتيح لي، وبعد عقد من الزمن، أن أحاور الجابري لما طرحت عليه مثل هذا السؤال؛ ذلك أن الجواب متضمن في أعماله أو بالأحرى في عمله الذي أحال عليه حتى أطلع عليه، وهو ما كنت قد فعلته من قبل . هذا بالإضافة إلى ما كنت قد اطلعت عليه، وقتذاك، في كتاب "التراث والهوية" الذي قال فيه صاحبه عبد السلام بنعبد العالي، وبدقة فائقة، بأن "الضحية في كتاب "تكوين العقل العربي"، ليست، في نظرنا، نظاما بعينه من تلك الأنظمة، ولا تيارا من تلك التيارات، ولا هي ما يمكن أن نطلق عليه ثقافة شعبية، وإنما هي الخيال الرمزي الذي نما على أرض الإسلام وأشبعت به حتى الثقافة العالمية ذاتها، والذي كان، في معظم الحالات، المتنفس الوحيد ضد تحجر العقل وتصلبه" (ص33 ــ 34). ولكن الرغبة في الرسالة كانت أكبر من محتواها، ولذلك أعتز بهذه الرسالة وأعدها من بين الوثائق الثمينة والنفيسة في مكتبتي.
أما الحدث الثالث فيتمثل في استفساره، وعبر زوجته، عما إذا كان قد اطلع على نبأ كتاب جديد حول مشروعه. وكنت قد حدست بإمكان أن تفوته فرصة اقتناء الكتاب الذي كانت نسخه قليلة جدا ولا تتعدى النسختين وفي أهم "كشك" بالدار البيضاء. وكان عنوان الكتاب "الرؤية المختلفة قراءة نقدية في منهج محمد عابد الجابري (أجوبة الخطاب على أسئلة التاريخ)"، وهو لصاحبه أستاذ التاريخ الحديث والفكر المعاصر سيار الجميل. وبعد يومين أخبرتني زوجته بأنه لم يطلع عن العنوان، وأنه سيبحث عنه. وبعد ثلاثة أيام طلبت مني أن أسلمه إياه، لأنه تعذر عليه الحصول عليه. وقد أرغمتني على قبول ثمنه مع أنها كانت من حين لآخر تزودني ببعض آخر إصدارات الجابري. وكنت قد أصبت ببعض الحرج لتزويدها بالكتاب، وهو ما أبلغته إياه، ذلك أنني من الصنف الذي يسجل الملاحظات والتعليقات في الهوامش والحواشي، ويسجلها بالقلم الحبر وليس بالقلم الرصاص فقط، بل أبدي في أحيان موافقتي أو عدم موافقتي على الفكرة. وهي عادة لا بد من أن تشوش على قراءة الكتاب من قبل الآخر كيفما كان، وما بالك بهرم خلق لكي يغطس في أمهات الكتب والمصنفات. الأهم أن الكتاب طار لمكتبة الجابري وعلى حاله التي هي حال "رغبة الخربشة" كما ينعتها الأرجنتيني ـ الكندي ألبرتو مانغويل: أحد أهم المهتمين بمفهوم "القراءة".
حدث آخر يتمثل في الحوار الصحفي الذي كنا قد طرحناه في جريدة "النشرة" التي كانت لسان "الشبيبة الاتحادية" في النصف النازل من تسعينيات القرن الماضي والتي كنت من المتعاونين مع طاقم تحريرها. وقد كان الحوار هو الأهم في العدد. وقد تم الاتفاق على أن أجري الحوار لا مع الجابري وإنما مع زوجته لكي تحدثنا عن زوجها المفكر؟ كيف يعمل؟ كيف يكتب؟ الطريقة التي يكتب بها؟ سفرياته؟ أصحابه؟ بيته؟ ولِمَ لا بعض "أسراره" كما طمعت؟ غير أن رئيس التحرير حسن نجمي، العارف بالرجل أكثر منا، اعترض بدليل أن الجابري ليس من الصنف الذي يسمح بمثل هذه الحوارات والأفضل أن لا نحرجه. ومن ثم ماتت الفكرة.
حدث آخر يكمن في تكليفي من قبل الزملاء في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء بمهاتفة الجابري من أجل الموافقة على إلقاء محاضرة في موضوع "العولمة" التي كانت، وقتذاك، قد أخذت تلوي بالثقافة والاقتصاد بعد أن كانت قد أمسكت بالإعلام. وقد نبهتني زوجته، وبعد أن سلمتني الهاتف، ويوم ذاك لم يكن للهاتف المحمول من أثر، أن أتحاشى الاتصال به ما بين الثانية عشرة والرابعة بعد الزوال، لأنه في هذه اللحظة يخلد للراحة. ووقت الاتصال به كان بجواري زميلين جامعيين، غير أنه رفض وبلباقة. فرصة أخرى غير أني ضيعتها، أو ضاعت مني، ولو كان للهاتف المحمول وجود وقتذاك لكنت قد تداركتها. وتتمثل في اللقاء الفكري الذي عقده الجابري مع "عصابة" هيئة تحرير "النشرة" وبعض أطر الشبيبة الاتحادية والتي كان من المفروض أن أعمل على تأطيرها. وكما أشرت فالصحبة الفكرية مع الجابري تظل هي الأرجح والأكثر تأثيرا، ذلك أن اللقاءات مع ناقد العقل العربي، وكما أسلفنا، كانت لا تتعدى لقاءا فكريا واحدا وزيارة لبيته للتعزية في وفاة أحد أفراد عائلته. وللحق فصحبتي الفكرية مع الجابري كانت مبكرة جدا، وتعود إلى صيف العام 1986 الذي سيقتني لي فيه أحد الأصدقاء كتاب "نحن والتراث" من العاصمة الرباط، ذلك أن مدينة أصيلا الصغيرة، التي كنت، ولا أزال، أقيم بها، لم تكن بها مكتبة تحوي كتب الجابري وسواه من المفكرين المكرسين، بل حتى في طنجة القريبة من أصيلا كان يتعذر فيها اقتناء كتاب "نحن والتراث". وكنت قد اقتنيت هذا الكتاب من المبلغ الذي حصلت عليه من العمل الصيفي الموسمي بمحطة البنزيل "شال" المتواجدة بجوار بيتنا والتي كانت في ملكية أب الشاعر إدريس علوش الذي كان بدوره يعمل بجواري.
ولا أخفي أن الكتاب كان لا يخلو من "تعقيد" و"تعذر"، وخاصة بالنسبة لتلميذ لم يكن قد تجاوز عقده الثاني بعد. الأهم لقد سعدت بالكتاب، بل وكان أول كتاب فكري أقتنيه وأضعه في ركن ضمن كتب أخرى أغلبها في شكل قصص وروايات مغربية. قرأت الكتاب، وسطرّت على أهم أفكاره المتمحورة حول ابن رشد والفارابي وابن خلدون... أما مقدمته/ الثقيلة، وبسجالها المبطن، فلم أتمكن من استيعاب أفكارها. وعلى إيقاع الملخص، وملخص كتاب آخر كان قد أقرضني إياه صديق، وهو "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط"، لطيب تيزيني، ولجت الفصل الدراسي الذي كنت ألخصه في مادة الفلسفة التي كنا نتبارى ونتنافس فيها وسواء من منظور "التطلع، وفي عز المراهقة، إلى الانتماء الماركسي" أو من منظور "التحصيل المعرفي المحض" الذي كنت أميل إليه. ولا أخفي أن أستاذا، وهو الآن متقاعد، ومن حين لآخر، يكتب في مجال القصة والمقال، كان له أبلغ الأثر في هذا التوجه، لأنه لقد كان يتوفر على بيداغوجيا تواصلية مهمة تجعله يقرب لنا الدرس كيفما كان نوعه. وعلى يد هذا الأستاذ، عبد السلام الجباري، أحببت الفلسفة واهتديت إلى أفكار عبد الله العروي ومحمد أرٍكون.