في الشعرية المغربية: الناجز و المرجأ
(1) لعل الخوض في الشأن الشعري المغربي الراهن هو بمثابة ضلوع، قرائي و تقييمي، في واحد من أكثر الفاعليات الثقافية المغربية استثارة للجدل و الخلاف. و من الطبيعي، و الحالة هذه، أن تتعدد زوايا الاقتراب من قضاياه و معضلاته، تبعا لتباين قناعات النظر و خلفيات التأويل، إلا ما كان من الاتفاق الصريح أو الضمني، شبه التام، بين فرقاء هذا الشأن حول حقيقة أساسية لازمت ولادة الشعرية المغربية المعاصرة، في إطار تجاربها و خبراتها المتنوعة،و سيرورتها القائمة منذ أربعة عقود و نيّف، نقصد تعالقها القدري، الإيجابي ما في ذلك ريب، بالشعرية العربية المعاصرة، لكن المشوب بجملة من السلبيات و الحساسيات و المسبقات لدى هذا الطرف أو ذاك، و ما أثمره هذا الوضع و لا يزال، و إن خف احتداده نسبيا، من تداعيات على صواعد الكتابة و النقد و القراءة، و من هواجس تكاد تأخذ صفة مركب مزمن يشل، بكيفية أو بأخرى، تحرر المكتوب الشعري و طلاقته و تقدمه، و يؤجل، أو يقصي بالمرة، المطارحة الصحية و المنتجة سواء لكبريات أمورها أو لمستدق أسئلتها، و يصرف الاهتمام عن مقايسة منجزها المتحصل خلال قرابة أربعين عاما و، بالتالي، ضبط موقعها الفعلي، أو الممكن، في جغرافيا شعرية إنسانية قيد التبدل تجري إعادة تشكيلها على أرضية ما أصبح يعرف بالقرية الكونية الصغيرة. فمهما كانت درجة سعي الوعي الشعري المغربي الحالي، على الأقل في إبان ستينيات و سبعينيات القرن المنصرم، إلى التغاضي عن جملة من الشواغل، التي تتربص بلاوعي الممارسة الكتابية للفاعلين الشعريين، و ذلك من قبيل ثبوت الشرعية التاريخية و الثقافية، أصلا، للقصيدة المغربية أو انتفائها، ضمن نسق تاريخي و ثقافي على جانب من الخصوصية، و في حالة توافر قصيدة مغربية معاصرة فما مدى كفايتها الأدائية و التخييلية و الرؤياوية و ما هي حدود أهليتها التداولية ؟ و بتعبير مواز هل اقتدرت الثقافة المغربية، طوال تاريخها، على إنتاج متخيل شعري مقنع و جاذب، مهيأ، تلقاء نضوجه المحتمل، لبلورة نص شعري مغربي معاصر لا يقل شاعرية عن نظيره المشرقي ؟ فإنه بقي، و بكل موضوعية، رهين هذه الشواغل التي يا ما انهدرت معها جهود فكرية، ارتدت لبوس مرافعات و دفوعات حجاجية إثباتا للذات، و إبداعية كذلك اتخذت لها منحى الاستظلال بالنموذج الشعري المشرقي و التبعية الطيعة لإملاءاته، توكيدا لنجابة التلمذة و إجادة الاستيعاب، و ذلك على حساب الدفع بالمشروع الشعري المغربي المعاصر إلى أفق تماسكه و تطوره و استحقاقه الثقافي المترسم. و نحن ننوه إلى الخفة النسبية لاحتداد هذا الوضع كنا مستحضرين الكلفة الزمنية، و الفكرية و الإبداعية، التي أدتها الشعرية المغربية كيما يتسنى لها، مع مطالع التسعينيات، بفضل مواظبة مجموعة من الفاعلين الشعريين النابهين، المنتسبين إلى مختلف الأجيال، الحسم مع هذا المترسب و توجيه التصور و الانجاز الشعريين وجهة طموحة، بمقتضاها سيستعاض عن العلاقة الشعرية بالمشرق بعلاقة واسعة و مفتوحة مع مختلف بقاع الجغرافيا الشعرية الإنسانية التي تنتسج على ظهرها، الآن، بقعة شعرية واحدة لا غير. و إذن فإن تململ الوعي الشعري، و إن متأخرا، و إشاحة بعض رموزه النظر عن المشرق الشعري و استقصاؤهم لمناطق شعرية أخرى، متوسطية و غربية و آسيوية لهو، رغم كل شيء، دليل معافاة هذا الوعي و تكييفه، تصورا، مع مبدأ الكتابة من موقف الوثوق و ليس من موقف الدفاع، مع داعي تصويب الاهتمام نحو المحيط الشعري الإنساني بدل الانحصار في النطاق الشعري العربي الضيق، أو، بالأولى، تربيته على تصريف كتابة شعرية لا تعاني من أيّما نقص أو ارتباك و تعويده على النهوض بأعباء الانتماء إلى المحيط الأليق للنص الشعري المغربي، أي إلى مدرج الكونية الملبي لانتظارات هذا النص من حيث التعبير و التخييل، لكن القائم، في نفس الآونة، مقام محك حقيقي لشعريته من جهة، و من جهة ثانية لطاقة تحمله، بما هو مآل الشعريات المتطلبة و المجازفة، لهموم ساكنة عالم أمسى، على تراحبه، محض قرية كونية صغيرة كما قلنا. من المحقق أن هناك مسافة، فعلية و رمزية، لا يستهان بها كان على الشعرية المغربية المعاصرة تخطيها حتى تتخلص من ذيليتها اللامشروطة لمشرق شعري متمركز حول ذاته، لا يعترف بالشعريات العربية المحيطية، و تعرض دور نشره عن احتضان دواوين شعرية مغربية، و حسبنا أن نشير هنا إلى العدد الضئيل من الأسماء الشعرية المغربية التي تغلبت على حاجز النشر في بيروت أو دمشق أو بغداد أو القاهرة، و انتزعت مقبولية ما في المركز الشعري، و بحسب ما نعلم فاستثناء الشاعرين الستينيين عبد الرفيع جواهري و عبد السلام الزيتوني اللذين تمكنا من طبع باكورتيهما الشعريتين، "وشم في الكف" (بيروت 1980) بالنسبة للأول و "نسيت دمي عندهم" (عمّان 1994) بالنسبة للثاني، و لنلاحظ دلالة تأخر تاريخ الطبع عن فترة بروزهما الشعري، و شعراء من أجيال لاحقة كمالكة العاصمي و محمد الأشعري و محمد بنيس و محمد بنطلحة و المهدي أخريف و محمد عزيز الحصيني و وفاء العمراني.. ظلت الأبواب مسدودة في وجه ذيوع القصيدة المغربية المعاصرة عربيا، بل و أكثر من هذا أن تنقلب الآية فيغدو المغرب ليس فقط محط استقطاب لأسماء شعرية عربية وازنة، في إطار الملتقيات الشعرية التي ينظمها "اتحاد كتاب المغرب" و "بيت الشعر في المغرب" و جمعيات ثقافية و إبداعية أخرى، و عالمية حتّى يستضيفها، دوريا، المهرجان العالمي للشعر الذي يؤطره بيت الشعر في المغرب، و إنما أيضا، و يا للمفارقة، مكان إصدار عناوين شعرية مختلفة لشعراء عرب من العيار الثقيل.. ناهينا عن اطراد نقل الشعر المغربي المعاصر إلى لغات عالمية و إنجاز دراسات نوعية عن بعض تجاربه و الحضور المواظب لشعراء مغاربة في المنتديات الشعرية الدولية. و على ذكر المهرجان العالمي للشعر لا يجب تناسي خطوة مقدامة أخرى، موازية، أمكن "بيت الشعر في المغرب" تحقيقها و هو يوفق إلى كسب تبني منظمة اليونيسكو لفكرة اليوم العالمي للشعر و إدراجها في أجندة الأيام الثقافية العالمية. و إذ تضع الشعرية المغربية المعاصرة رجلها، في غضون سنوات محدودة، على عتبة الكونية يتحتم أن يدرك القائمون عليها أن هذه الأخيرة ليست مجرد نياشين اعتبارية توهب كيفما اتفق بقدر ما هي محك حقيقي، مثلما نصصنا على ذلك، لاشتداد العود الشعري و تصالبه، و أيضا لفطنة التقاط نبض عالم أفرط في تعقده و التباسه ضمن مساق كوني بقدر ما قرّب الشقة بين أطراف المعمورة فاقم من حدة مشاكل العيش و التعايش، دفعة واحدة، إذ لا يني يعمق فقر الأغلبية و ينعش، على واحديته المفترضة، الهويات و الثقافات الإقليمية و الوطنية التي كانت، و إلى عهد قريب، خاملة أو منطمرة.. عالم يعفي، غير متقاعس، على منظومته العلاماتية المألوفة من تقاطب إيديولوجي و حرب باردة و وضوح سياسي و حدّية قيمية و كفاف اقتصادي و طمأنينة روحية، و يؤثث فضاءه المعولم الذي تستحكم فيه شريعة التّبضع و الاستهلاك، و تتناوب عليه ثوراته المعلوماتية و الرقمية و الوسائطية المتسارعة الوتيرة.. عالم يداري تخرمه البيئي المروع و يلتف، ليس إلاّ، على حربه الإلكترونية المدمرة، الآتية لا محالة.. عالم لا يتوانى عن محو ذكرى رموزه السابقين من مفكرين جهابذة، متنورين، كمارتن هيدغر وبرتراند راسل و جان بول سارتر، و مناضلين طهرانيين، ارتفعوا إلى صعيد الأسطورة، كهوشي منه و إرنستو تشي غيفارا و نيلسون مانديلا، من الوجدان الإنساني العام و استزراع خلف رمزي براق من سلالة بيل غيتس و طوم كروز و سيرغي بوبكا و كلوديا شيفر.. ممّن أحلتهم إمبراطوريات الاتصال و السينما و الرياضة و الموضة في صدارة المشهد العالمي الراهن.. عالم على هذا الاعتناف المغلف بديمقراطية المعرفة و بهرج الوفرة، عالم على هذا الاختلاط و التشوش لا يزال للقصيدة ما تقوله عنه لأن المسألة، بصرف النظر عن الزمن و المكان، مسألة توكيد إنسانية الإنسان و خفره في طريقه إلى حيث يتملك كينونته الحرة و المتجوهرة.. عالم على هذا المنوال يستأهل انضواء منتجي الخيال الشعري في المغرب إلى حلبته المغرية و قول كلمتهم فيه و ذلك بما يعود على الشعرية المغربية المعاصرة بالجدوى، توسلا، و التطور، موضوعا و رؤيا. (2) إن مناولة ركن اللغة في الشعرية المغربية المعاصرة لهي اختبار لأحد أوكد عناصر التحقق الشعري في بنيتها الكتابية إن لم تكن اختبارا لصميم هويتها الإبداعية. و في هذا الباب يجب عدم الاعتراض على تلك المرادفة المفاهيمية، بله المطابقة ، المعمول بها في كثير من الأحيان، بين مفهوم اللغة الشعرية و بين مفهوم الشعر، أصلا، كجنس تعبيري له خواصه و محدداته، الشيء الذي يدل على حيوية الركن اللغوي في التشييد و التخييل الشعريين. و لأن المعجم ليس من قبيل الكينونة اللسنية / الإشارية التجريدية، المتعالية على اعتبارات المكان و التاريخ و المجتمع و الثقافة، أي على مشترطاتها التداولية النافذة فسيكون من الإجحاف، في ما نرى، ضمّ كامل التحققات التلفظية التي راكمتها هذه الشعرية في خانة معجمية واحدة قد يرجح سريانها على المتن الشعري المغربي الراهن برمته. فاللغة، الشعرية منها بوجه خاص، بقدر ما تعبر، كما نعلم، عن الجمعي و المشترك، و تترجم عن محمول الذهن و الوجدان العامين تندمغ كذلك بالبصمة الشخصية لمنتجها و تؤشر على اختلاف تلفظي يصدر، بدوره، عن اختلاف أعمق يتصل بالتموقف الشعري من العالم و بنوعية الرؤيا الناظمة للملفوظ و المنتسجة في فضائه. من هذا الضوء قد يكون صائبا الحديث عن حساسيات لغوية متباينة تتعايش / تتصارع في المجال الشعري المغربي لكنها و هي تقتاد، منفردة، القراءة إلى الصميم من خبرات تلفظية بعينها و، بالتالي، إلى القلب من تموقفات شعرية من العالم و رؤيات مائزة، تنصب، كافتها، في متخيل شعري، مغربي السمة، لا يني ينفرز عن غيره من المتخيلات الشعرية الوطنية، إذ (لا يمكن أن يوجد "معنى في ذاته "، فهو لا يوجد إلاّ بالنسبة لمعنى آخر، أي يوجد فقط إلى جانب غيره)(1) من المعاني الجغرافية و التاريخية و السياسية و الثقافية. و كما هي الحال في جل التجارب الشعرية الإنسانية فإنه بالإمكان اقتراح نوع من صنافة، إجرائية ليس أكثر، للمعاجم اللغوية المتنفذة في الوعي الشعري المغربي و المحايثة في النصوص سواء كإبدالات مفرداتية أو بنيات صرفية أو توليفات أسلوبية أو منسقيات تخييلية (مجازية و رمزية). وعليه فإن كان شاعران ستينيان، كأحمد المجاطي و بنسالم الدمناتي، مثلا، قد انشدا، بأثر من تربيتهما الشعرية القديمة، الرصينة ما في ذلك جدال، إلى معجم لغوي سوف يسبغ على لغتهما الشعرية أو، على الأصح، جملتهما الشعرية، رونقا تراثيا لافتا يجعلنا نستحضر، من فورنا، الروح التراثية المستحكمة في شطر فائق من قصائد بدر شاكر السياب و شاذل طاقة و عبد الرزاق عبد الواحد.. حيث قوة المفردة الشعرية و صفاؤها الدلالي و رنتها الموسيقية الصائتة، و هو ما نستطيع معاينته في ديوانيهما، بالتتالي، "الفروسية " و "واحة النسيان"، فالظاهر أن المعرفة الفلسفية و الصوفية لمجايلهما، محمد السرغيني، مضافا إليها ما اكتسبه مثلهما من رصيد لغوي، شعري و نثري، موسوم بالقدامة سينحو بمعجمه الشعري منحى التقعر و الإعظال الدلاليين و يغلف عبارته بنصيب من الوعورة، إن توليفيا أو تخييليا، ممّا يمكن الوقوف عليه في جماع أعماله الشعرية و بخاصة في إصداره الأخير "احتياطي العاج". مقابل هذا الاختيار اللغوي تواجهنا نصوص شاعرين آخرين، من نفس الجيل، هما عبد الكريم الطبال و عبد الرفيع جواهري بمواظفة لغوية من طراز تلفظي مخالف قد يجوز نعته، بغاية إيضاحه، ب "السهل الممتنع"، و ذلك على النحو الذي كان يستعمل به في الأدبيات النقدية العربية الكلاسيكية، و لنأخذ بغاية التثبت من هذا الطراز مجموعتيهما الشعريتين، بالتتابع، "بعد الجلبة " و "وشم في الكف". فكونهما يكتبان جملة شعرية تؤول إلى ما يمكن الاصطلاح عليه ب "الواقعية الرومنتيكية "، تشبها بالواقعيات التسجيلية و الاشتراكية و السحرية.. تتمثل الواقع تمثلا يسخر جملة من الموارد الإيهامية، غير المتكلفة، لصالح زاوية نظر ابتداعية للواقع موضوع المعالجة الشعرية التي يتوخى منها، في المقام الأول، تقريب هذا الواقع، قرائيا، و جعله على مرمى أي تفاعل استيهامي منتج، كان لابد و أن تتوسل معجما قريب المنال، تأويليا، أميل، لشفوفه و إسلاسه، إلى ما يمكن عده لغة وسطى، لكن من غير ما تفريط في مقتضاه الشعري الصارم. و انسجاما مع السيرورة اللغوية التي خضعت لها معجمية القصيدة المغربية المعاصرة حصل أن اقترن مقدم أسماء جديدة، بدءا من العقد السبعيني، إلى المجال الشعري بمتغيرات ستمس تقنية الانتقاء المعجمي و المواظفة الإبدالية مسها لطريقة صياغة الجملة الشعرية و توضيبها، أمّا مرد هذه المتغيرات فإلى انبثاق وعي تحديثي أكثر راديكالية إذا ما قيس بالحذر الذي وسم المشروع الشعري الريادي في الثقافة المغربية، مثل أي مشروع إبداعي ريادي، بضاغط، طبعا، من الأهمية التي كانت، وقتها، لفكرة استنبات قصيدة مغربية معاصرة في ثقافة يطبعها التقليد و المحافظة. وهكذا فإن كان في المستطاع إطلاق وصف الماورائية على اللغة المشتعلة في عملي محمد بنيس الشعريين الأخيرين، نقصد "المكان الوثني" و "نهر بين جنازتين"، نظرا لما يميزها من توغل دلالي و ترميزي في ما وراء قشرة الأرض، المشعرنة في رحابهما، ترمي من ورائه إلى استخلاص الجوهر المخفي للعالم، جوهر المجهولية و اللانهائية و العدمية، فإن أعمال محمد بنطلحة الشعرية، و تحديدا ديوانه الأخير "بعكس الماء"، تعرب عن حذق فائق في التعامل مع معجمية سريالية يعتقدها أقدر من غيرها على التقاط شتى أوجه الغرابة و المفارقية التي يحفل بها عالم يفتت مجازيا ثم يعاد تشييده وفقا لمشيئة حلمية خالصة. ففي لغة محمد بنيس الشعرية يستقيم العالم مكانا للقلق و الارتعاب و الذهول أما في لغة محمد بنطلحة فيستهام، جراء لامعقوليته و قرفه، موضوعا للتقريع و الهزء المأساويين و في نفس الآن مسقطا لضوء حلمي يغسله من أدرانه و تعفناته اللاتطاق. و بالموازاة من اللغة الشعرية العقدية، ذات المسوح التعبدي، التهجدي، التي يسهل تلمسها في ديوان حسن الأمراني، الموسوم ب "القس و اليمامة "، مثلا، تتدثر لغة عبد الله راجع، في ديوان "سلاما و ليشربوا البحار" بكيفية خاصة، بإهاب استبطاني تتخذ معه الأشياء و الذوات و المحكيات صفة الستر أو الانحجاب الذي لا تكل المخيلة عن مراودته تبديدا منها لما يلف باطنها من غموض و انبهام. من جهة أخرى، و استهداء بما قلناه عن معاجم الشعراء الستينيين، قد لا يتعذر على القراءة، من داخل المناخ التجريبي الذي ران على المجال الشعري المغربي في إبان السبعينيات، وضع اليد على مجموعة من القرائن الفارقة، معجميا، بين مجموعة من الممارسات الكتابية الحاملة لتوقيع هذا الشاعر أو ذاك، لكن الجامعة، في المقابل، بين شعراء ينتمون إلى هذا العقد، أو آخرين أعلنوا عن أنفسهم عند متم العقد الستيني، و بين بعض سابقيهم، ممّا يفند فكرة الانقطاع الجذري بين الأجيال الشعرية المغربية. في هذا المضمار يمكن استحصال قدر من التواشج، القوي أو الفاتر، بين المعجم الشعري لعلال الحجام و محمد الشيخي و محمد بودويك، الذي يتمظهر في أعمالهم، تباعا، "من توقعات العاشق" و "حينما يتحول الحزن جمرا" و "جراح دلمون"، و بين ذاك الذي يمثل في نصوص كل من أحمد المجاطي و بنسالم الدمناتي، أو بين معجم إدريس الملياني الشعري، و لنأخذ ديوانه "في ضيافة الحريق" كنموذج، و بين المعجم الشعري القائم في نصوص كل من عبد الكريم الطبال و عبد الرفيع جواهري، و ذلك على سبيل التمثيل. و مع حلول الثمانينيات ستشرع في الالتئام أو التكرّس قسمات بعض السجلات اللغوية التي تكاد تكون وقفا على تجارب شعرية صمّم أصحابها على تشغيلها إمّا في عمل شعري مفرد أو في جملة من الأعمال المتعاقبة، و في هذا الاتجاه، و على شاكلة ما قلناه عن التقاطع المعجمي بين تجارب شعرية ستينية و أخرى سبعينية، في الإمكان تصنيف لغة شاعر كمحمد الصابر، الماثلة سيان في ديوان "زهرة البراري" أو في ديوان "ولع بالأرض"، ضمن السجل اللغوي الاستبطاني، المواظف في شعر عبد الله راجع، و لغة شاعر كمحمد عزيز الحصيني، المسخرة بوجه خاص في ديوانه الثاني "الكلب الأندلسي"، ضمن السجل اللغوي السريالي، الحلمي، الذي تصدر عنه تجربة محمد بنطلحة الشعرية. من زاوية أخرى، و على تضاؤل الشاغل الميثولوجي، إن لم نقل انعدامه، في الذهنية الثقافية و الإبداعية المغربية تتبدى في ديوان "عاريا أحضنك أيها الطين" لمحمد بوجبيري بعض المشخصات الدالة على تصالح تخييلي مع المكون الأسطوري، لا كمضامين أو استرجاعات أو إشاريات و إنما كمعجم يرخي في الفضاء النصي ما لا يحصى من التداعيات التعبيرية و الترميزية التي يرتفع معها الواقع من درك الأرضي إلى علياء الأسطورة و تكتسب بفضلها عناصر الطفولة و الذاكرة و الطين و الماء طزاجة غير معهودة. أمّا وفاء العمراني فلا تكف، منذ ديوانها الأول "الأنخاب" و حتى ديوانها الأخير "هيأت لك"، عن توثيق عرى تعالق رمزي بين الأنا الشعرية و الآخر و العالم ضمن مثلث رؤياوي تسيجه لغة شعرية جسدية / مجسدنة، يتجسدن في تضاعيفها الملموس و المرئي، الاستذكاري و الحلمي، و ذلك توسطا بانفعال صوفي مكين، بهذه الحدود الثلاثة، يجلوه محفل تلفظي لا مراء في نبرته الجوانية. انطلاقا من التسعينيات سيأخذ معجم شعري إضافي في التبلور و ذلك في تواقت مع حصول قصيدة النثر على شرعية أدائية في الشعرية المغربية المعاصرة. و بما أن معجم هذه القصيدة يعتاش، قبل كل شيء، على الجزئي و المتشذر، المتقطّع و العرضي، بمعنى أنه يستمد مؤونته الدلالية و الترميزية من متفتت المعيوشات و المرئيات و الاستذكارات و التماهيات، فإنه، أي المعجم، سيركب تقنية مزدوجة عمادها التكثيف و الإلماع، أو الإضمار و التكنية، خدمة لمقصدية جمالية تعمل قصيدة النثر على تحقيقها ألا و هي الإدلاء بالجزء الذي يستفاد منه الكل. و بالرجوع إلى دواوين "حياة صغيرة " لحسن نجمي و "هدنة ما" لحسن الوزاني و "شهادة عزوبة "لجلال الحكماوي و "مانكان" لعدنان ياسين.. نقوى على تقرّي ثوابت هذا المعجم، مع مراعاة تغايرات عوالمها و تباينات طرائق الكتابة و التخييل فيها، الذي ما فتئ يهيمن على قسم وافر من الدواوين و القصائد الآيلة إلى أسماء شعرية تسعينية. و على هامش هذه الصنافة الإجرائية المقترحة نرى لزاما التوكيد على أن اللغة ليست وحدات لفظية صماء بقدر ما هي حياة صوتية و دلالية مركبة و لامتناهية تثمر منها القصيدة أو، بالحري، الجملة الشعرية مكاسب إيقاعية متأصلة في الأحرف و المقاطع و المفردات إثمارها لتعالقات توليفية منتجة لا نحويا و لا دلاليا و كذلك لتمظهرات تخييلية متنوعة. بهذا المعنى إذن تباشر المدونات اللغوية الموصوفة عامليتها في سياق تجارب شعرية مخصوصة و كذلك في السياق العام للشعرية المغربية المعاصرة، إذ تتعايش في ما بينها رغما من فروقاتها، متفاعلة و متصادية ضدا على شرطها الإبدالي الذي تبدو معه أقرب إلى المتواليات اللغوية الناسخة لبعضها البعض، مانحة، هكذا، قدرا من التنوع و الدينامية لنشاطية لغوية جمعية حثيثة ترمي إلى اجتراح معجم شعري كفء لقصيدة كفؤة. على أن هذا المطمح يجب ألاّ يغيّب الفوائد التي جنتها الشعرية المغربية، بدءا من لحظة قيامها، ممّا لا علاقة له بأمور الهوية و الجدارة و الاستقلالية التي عرضنا لها في مفتتح هذه المقاربة، من مؤثرات لغوية عربية و أخرى غربية تندرج في إطار التناص الذي لا يمكن لأية كتابة شعرية التنصل، مهما كان، سواء من مفاعيله الإيجابية أو من تبعاته الكتابية المختلفة. و في هذا النطاق يجوز الحديث عن موجات لغوية تعاورت على المجال الشعري، واحدة تلو الأخرى، في تلاؤم عضوي مع التمرحلات التاريخية التي عاشتها القصيدة المغربية و أيضا مع انتظاراتها، الإبداعية و الثقافية و الإيديولوجية، المتحولة. و إذا كان المقام لا يسمح بالتوقف المخبري المدقق على نماذج من الاسترجاع اللغوي في بنيتها حسبنا أن نشير إلى أبرز ممثلي هذه الموجات، إن عربيا كموجة بدر شاكر السياب و عبد الوهاب البياتي و أدونيس و خليل حاوي و صلاح عبد الصبور.. التي تلتها موجة سعدي يوسف و حميد سعيد و سامي مهدي و حسب الشيخ جعفر و محمود درويش و فايز خضور و محمد عفيفي مطر و محمد علي شمس الدين.. فموجة أنسي الحاج و عبد القادر الجنابي و قاسم حداد و سركون بولص و عباس بيضون.. ثم موجة سليم بركات و سيف الرحبي و أمجد ناصر و عبد المنعم رمضان و نوري الجراح.. أو غربيا كموجة اللغات اللوركوية و الماياكوفكسية و الناظمية (نسبة إلى ناظم حكمت) و النيرودية و الإيلوارية.. و موجة آرثور رامبو و ستيفان مالارميه و غيوم أبولينير و سان جون بيرس.. و موجة عزرا باوند و أوكثافيو باث و يانيس ريتسوس و يفغيني يفتشنكو و إيف بونفوا و رونيه شار و هنري ميشو و فرانسيس بّونج.. ثم موجة فريدريش هولدرلين و جورج تراكل و راينر ماريا ريلكه و فيليب جاكوتي و جيوسيبي أونغاريتي.. و ما جاء بعدها من موجات لغوية غربية ما بعد حداثية، أضف إلى هذا التأثير الذي أخذت تمارسه لغة قصيدة الهايكو اليابانية خلال السنوات الأخيرة على جانب من المكتوب الشعري المغربي. (3) من ناحية إجرائية، دائما، قد يليق بنا إفراد المستوى الجمالي عن المستوى اللغوي في القصيدة أمّا الأنسب، في الحقيقة، فهو استدخال محدد الجمالية الشعرية في النطاق الأوسع للغة الشعرية لكون هذه الأخيرة هي المصهرة التي تتلاشى / تتماسك في أتونها كافة المستويات و المكونات البنائية. و وفقا للمعنى الذي تأخذه الجمالية في الحقل الشعري باعتبارها فاعلية شكلية أو صيغية يراد بها البرهنة، أولا، على المعيارية الأنواعية للقصيدة، التي هي جنس تعبيري محكوم بمقولية مخالفة لمقولية الرواية مثلا، و ثانيا على تفاوت لا مقدرات الشعراء على الاستزادة الأسلوبية بما تعنيه من اجتهاد تأنيقي، تزيني، يعود شأنه، من حيث المبدأ، إلى اختيار الشاعر، و تباين كفاءاتهم في استدماج جملة من الأبنية، النصية و اللانصية، في اللغة الشعرية، التي يجب أن تظل رغم ذلك هي النواة الصلبة للقصيدة، و تخويلها درجة من الوظيفية تغدو معها جزءا لا يتجزأ منها، بل و قد تتعذر قراءتها و يصعب تأوّلها إن حدث و أن غيّبت هذه الأبنية أو تم تلافي محايثتها. فطوال المدة التي استغرقتها نشأة القصيدة المغربية المعاصرة كان هناك تلازم، بكيفية أو بأخرى، بين المرتبتين الكتابيتين، الاقتضائية و التجميلية، لكننا نسجل طغيان المرتبة الأولى، خلال فترة شعرية ما، أو الثانية، في أثناء أخرى و ذلك في ارتباط مع طبيعة الأولويات التعبيرية المترسم تلبيتها ضمن الخصوصية التاريخية للفترة، و نوعية المستجدات الثقافية التي تحفل بها. لكن عموما يمكننا الإلماع إلى أن تنامي الإحساس بجدوى التغطية الجمالية للنصوص سيتقوى اطرادا مع انتقال هذه القصيدة من طور التأسيس الشعري إلى أفق التجريب الشعري. و إذا ما استحضرنا ألوان الإغراء التي بدأت تمارسها منذ سنوات خلت، على مخيلات بعض الشعراء المغاربة، فنون تعبيرية أخرى كانت قد فطعت أشواطا محسوسة في تطوير توسلاتها الجمالية، و أيضا ما كان من توفّق نماذج شعرية، غربية و عربية في آن معا، إلى استيفاء شرطها الشعري الجمالي، بله ترقيته، بالانفتاح الواعي و الفطن على هذه الفنون و اقتراض المناسب من أدواتها و تقنياتها فسندرك مدى الأهمية التي ستصبح للجانب الجمالي في تفكير هذا البعض و في إنجازه الكتابي كذلك. بالإضافة إلى هذا، و إذا ما أردنا الذهاب بالمسألة الجمالية في الشعر المغربي، و الشعر بوجه عام، إلى عمقها فسنلفي أنفسنا، بكامل البساطة، في صميم الماهية الحداثية للكتابة الشعرية ما دام يعتد بالمتحصل الجمالي في الحكم بثبات هذه الأخيرة أو حركيتها، أليست الحداثة فعلا للتجاوز و الابتكار و التقدم ؟ و بتعبير رديف سنجدنا بصدد التحقق من لزوم الفعل التحديثي و محدوديته أو تعديه و انطلاقه، و في كلمة واحدة بصدد نجاح القصيدة في موالاة مسيرها، الذي لا مفر لها عنه، في السبل المضنية و اللانهائية للحداثة أو إخفاقها في ذلك و قعودها عن الكد و التجديد الكتابيين. على أيّ فمن ضفاف القصيدة الغنائية، المقطعية أو الكتلوية أو الحلزونية المبنى، التي يتكلم فيها صوت واحد، هو صوت الأنا الشعرية التي تنوب مناب الذات الشاعرة في الفضاء النصي، و تقتات، تلفظيا، على اصطراعها المستهام مع عالم موضوعي جاهز إلى ضفاف القصيدة المركبية، المتعددة الأصوات، و ضمنيا اللغات الشعرية، و الأبنية و المنسقيات و المقامات المتجاذبة لكن المندغمة في بؤرة نصية واحدة قد يتوزعها الحوار و المونولوغ و التداعي و الاستذكار و الحلم و الحكي و الانبناء المشهدي و التظليل و التبقيع و التلطيخ و التبييض.. أي إلى ضفاف الكتابة كممارسة مفتوحة، متحررة من إكراهات الجنس الشعري، و متجاسرة على الرقابات القرائية و الكوابح النقدية.. من حدود قصيدة التفعيلة، المتحرجة في العديد من نماذجها من تفعيليتها التي يتيسر تصريفها، إيقاعيا، في خطاطات وزنية تقليدية إلى حدود قصيدة النثر في مراهنتها على ممكناتها الإيقاعية الضمنية و تعلقها بتمرير السرود و المحكيات الشعرية المنضغطة مع الزج بالزمن الشعري في انتظامية الأزمنة الفيزيائية من أجل مغالبتها و تطويعها.. من أفق البناء الشعري السطري، المقيد، إلى أفق البناء الشعري التدويري، المرن مرونة جملة شعرية لم تعد خاضعة سوى للوازع التعبيري لمنشئها.. من مدار التصييغات التشبيهية الكسولة و المهادنة إلى مدار المجازات و الترميزات الكبرى التي قد تكتسح، تخييليا، قصيدة برمتها، إن لم يكن ديوانا أو مجموعة دواوين. و بالمناسبة حريّ بنا أن ننص على الدور الفاعل الذي كان لائتلاف مجلة "الثقافة الجديدة "، انطلاقا من منتصف السبعينيات، في زحزحة الوعي الشعري المغربي المعاصر و إطلاق العنان لمغامرة تجريبية، تفكيرا و إنجازا، تقوم على المجازفة التصورية و الإبداعية و اقتحام مناطق وعرة في التخييل و جعل جماع من العناصر الموازاتية، كنوعية الخط و الإخراج التدويني و التفضية الطباعية.. محل اعتناء و حدب، قد يختزل خطوطها الأساسية "بيان الكتابة " الذي حرره محمد بنيس و نشر بأحد أعدادها. و إذا كان لنا أن نمثل بأعمال شعرية، صدرت بالأمس القريب، اتجهت وجهة تجريبية إيجابية فلنقترح ديوان "كيمياء" لأحمد محمد حافظ و "الكلب الأندلسي" لمحمد عزيز الحصيني، إذ لا يتورع الشاعران الثمانينيان عن الإلقاء، في هذين الديوانين، بعدّة تجريبية وازنة يجانبان بها رصيدهما الكتابي، الغنائي، السابق و يتجاوزانه دفعة واحدة، تتمظهر آثارها النصية الفاعلة، رغم اختلاف تجربتي الديوانين، على أصعدة التشغيل اللغوي و تمفصلات الجملة الشعرية.. التنويع الإيقاعي و الإسقاط التخييلي المبتدع.. التزمينات الشعرية المسترسلة و التلوينات المكانية المتوالية.. سردنة الملفوظ الشعري أو تكثيفه بحسب ما تتطلبه القصيدة.. هذا مع إجادة استثمار جملة من الاسترجاعات الإبداعية (شعرية و روائية) و الثقافية (دينية و فلسفية و فنية..) و التحكم في منسوب مؤازرتها النصية و التخييلية للقصيدة. إجمالا نقول إن المتتبع لمسار الشعرية المغربية المعاصرة لابد و أن يسجل عدم تراخي أو تقاعس الفاعلين الشعريين المجدين عن إنضاج جملتهم الشعرية و مدها بما يضمن لها صفتها المثناة التي تجعل منها قولا يقول، أول ما يقول، نفسه، قائلا معه محمولا برانيا لا يتحرج بتاتا في وضعه تحت إمرته الشعرية. (4) هل بمقدورنا الحديث عن حقيقة خارج - نصية تثوي داخل القصيدة، قابلة للتعيين و التشخيص قابليتها للاستخراج من بين فكي الكماشة النصية ؟ نجيب، مبدئيا، فنقول بكل بساطة (.. بالنسبة لنص يحاول أن يكون حديثا فالمسألة أكثر صعوبة، و ذلك بسبب عدم التّحدد الذي تعيشه عناصر الواقع المتحرك من اجتماعية و ثقافية في نص يحاول أن يحيا إشكاليتها) . يبدو، إن نحن تحلينا بشيء من الموضوعية، ألاّ حاجة، أصلا، إلى مطارحة أمر واقع ما مفترض، أو ما يشبهه، في السياقات التخييلية، الإيهامية، المشبعة على نحو كاف و مقنع كالقصيدة الشعرية، و ذلك بسبب من انعدام الصلة بين الجانبين إلاّ ما كان من مواظفة الواقع، مثله مثل سائر المكونات الشعرية الأخرى، في فضاء القصيدة و وضعه عامليته النصية الطارئة على عامليته و معموليته القبليتين في نطاق الزمن و المكان تحت تصرف المخيلة الشعرية ما دامت (المرجعية تتيح، فوق كل شيء، امتياز توريط ما هو براني) في مستلزمات هذا الفضاء و اقتضاءاته. و إذن فإن منتهى ما في مكنتنا التطرق إليه، في حقيقة الأمر، هو المنحى الذي قد يسلكه شاعر ما في تمثل الواقع أو ما يدعى واقعا أو، بالأولى، حقيقة قائمة و مسبقة في الوعي الجمعي، بناء على انفعال و خبرة مخصوصين، و منحها خلقة تخيّلية توازي بها هيئتها المستتبة خارج حدود القصيدة، بل و تماديها و تتفوق عليها إن لم نقل و تنازعها رمزيا. أمّا في مستوى لاحق فيغدو متاحا التطرق إلى محض الحقيقة الكتابية و هي في حالة تجسّم في بياض الصفحة و، جوهريا، في بياض العالم المتمثل، الموسوم بواقعيته، أي بحقيقته التي تتموضع في الطرف النقيض لبهتان الشعر و زيفه ! إن مكمن الحقيقة، كما يرى مارتن هيدغر، في صلب العمل الإبداعي و داخل حدوده التخييلية التي يرسمها هو تلقاء مقاصده الجمالية و غاياته الرؤياوية، و من ثم فإن الحقيقة لا تعدو كونها الوجود في أقصى درجات صفائه، أي انكشافه و جدته و غرابته بما هي مواصفات امتياز العمل الإبداعي على واقع معاد، مشوش، و مغبر عن الآخر و تعاليه الرمزي عليه. و من هنا فعن أية حقيقة / حقائق يمكننا الكلام و نحن نتداول قضايا الشعرية المغربية المعاصرة ؟ أمّا من حيث التدقيق أية حقيقة نستطيع تبيّنها و رصدها، مثلا، في دواوين "رماد هسبريس" لمحمد الخمار الكنوني "هديل الروح" للحسين القمري و "شيء له أسماء" لمالكة العاصمي و "حكايات صخرية / سرير لعزلة السنبلة " لمحمد الأشعري و "سلالم الميتافيزيقا" لعبد الله زريقة و "حجرة وراء الأرض" لمحمود عبد الغني و "أحفر بئرا في سمائي" لمحمد الصالحي و "لا أحد في النافذة " لعبد العزيز أزغاي و "قصائد للمعشوقة و الوطن" لحسن مرصو.. من غير الحقيقة الشعرية الخالصة التي تستضمر، ما في هذا شك، حقيقة برانية، أو ما يخمّن أنها كذلك، في آليتها البنائية المتشابكة و المتمفصلة، حقيقة / حقائق أوثق بطبيعة الشعر تتلفظها أنا شعرية تعاود تشييد العالم ؟ هل يغرب عن بالنا بأن ( ما يتوخاه الشعر الحديث هو أن يخلق ضربا من معنى تصعيدي معتنف، مأساوي أحيانا، من رحم اللامعنى)(4) أصلا. و إلى جوار هذه البديهية لربما يصير من حقنا، في المساق الشعري المغربي خصيصا، مقاربة الحقيقة البرانية المستدرجة، بطبيعة الحال، إلى دائرة النص الشعري بما يتوافق مع سيرورة الشعرية المغربية المعاصرة و يتعاضد مع انتقالاتها التصورية و تغايراتها الكتابية الدورية. كذا يحق لنا الكلام، مثلا، عن التحول، على المستوى الرؤياوي، من حقيقة الوطن، نقصد من رؤيا السقوط و الانتظار للعالم، التي سادت خلال الستينيات، إلى الرؤيا البروميثيوسية، التي خيمت على نصوص السبعينيين، فالرؤيا النهلستية التي أخذ يكتب في كنفها، ابتداء من العقد الثمانيني، كمّ لا يستهان به من النصوص الشعرية. و بعبارة موازية يحق لنا الكلام عن التحول من موقف ترقب الحقيقة التاريخية، التي قد تحل أو لا تحل، إلى موقف تصطبغ معه الحقيقة، هذه المرة، بلونية تهويلية، مجريات و أمكنة، انتهاء إلى موقف يميزه نفض اليد من كبريات المعضلات / الحقائق التاريخية، الوطنية و القومية و الإنسانية، و العكوف، في المقابل، على الحقائق اليومية الذرية، المتقطعة، و شعرنة الجاري من الوقائع و التوضّعات و إنزال العياني و الملموس منزلة استعارّية و ترميز، و باختصار من وضعية الترقب إلى وضعية النضالية و الالتزام الشعريين فوضعية الاستقالة من إلزامات الواقع و موجباته، و، بالتالي، تحولها، أي الشعرية، من الحقيقة الغيرية إلى حقيقة الذات / الأنا الشعرية و استعاضتها عن بلاغة الإيثار الرؤياوي ببلاغة التذويت الرؤياوي. أمّا من حيث الاسترجاع النصي فقد يحق الحديث عن الانزياح الدال عن حقيقة التبعية للمشرق الشعري و الاستظلال بمثاله الكتابي، على مدى سنوات، إلى حقيقة الأهلية و الاختلاف، أي من حقيقة مطلقية المرجع الشعري المشرقي إلى حقيقة نسبيته بعد إشاحة النظر و الهوى الشعريين عن جهة المشرق العربي و استكشاف مرجعيات شعرية أخرى ستمد هذه الشعرية بوثوق تصوري و كتابي كانت في أمس الحاجة إليه. بيد أن هذا التصنيف لا يلغي تشارك أغلبية من الأصوات الشعرية المغربية في الأفق الكوني المتأبد و المشاع، و الذي يأوي روزنامة الحقائق المطلقة و غير القابلة للاستنفاد أو النضوب، للتقادم أو الابتذال، شكلت، برأي رولان بارت، على الدوام إمكانية موضوعاتية فضلى، لكن شاقة و مكلفة، للحداثة الشعرية الحقيقية كيما تقول حقيقتها هي قبل إفضائها بحقيقة الإنسان أو التاريخ، كالأرض و الزمن و المكان و الجسد و الاسم و الذاكرة و الطفولة و اللعب و الحب و الرغبة و الشهوة و المسرة و الألم و الضجر و الجنون و الحلم و السفر و العنف و السقوط و المصير و الموت و المجهول.. التي يتم إخضاعها لترهينات شعرية متفاوتة القيمة و المردود. و توكيدا منا على ما قلناه، قبل حين، نكرر أن ليس هناك من حقيقة سوى حقيقة الكتابة ذاتها، قد تسهو الكتابة مرارا عن قول حقيقتها أو قد تحجم عن الإدلاء بها لدواعي ملتبسة و متداخلة تجد تفسيرها في ما يعرف بمنسي الكتابة، إذ الجوهر، في الكتابة كما في الوجود، هو النسيان، الخلاق بما أنه ينبه إلى ما يعتري جسدها من بياضات و ثقوب، يشي بنيّتها التأجيلية المزمنة، و يحث، في ذات الوقت، القراءة / القراءات المتعددة و المتضافرة، الفاعلة و المنتجة، على ترميم تخرماتها و تدارك مؤجلها ممّا يجعل منها، أي الكتابة، مجرد لحظة من لحظات ديمومة نصية مفتوحة لا نهاية لتمعنيها و لا انجزام في حقيقتها. إن (لانهائية النص لا يجب التعامل معها بناء على نظرة تفترض إتمام موضوع ما (لم يعد ينقص سوى قول شيء يسير و يصبح كل شيء مقولا) و إنما من منظور "الكتابة " المزدوجة، أي المتخذة، باستمرار،ككتابة و قراءة في نفس الوقت). (5) إلى هنا نكون قد قمنا بمسح أوّلي لمناحي تشغيل اللغة و الجمالية و الحقيقة في الشعرية المغربية المعاصرة ممثلين ببعض التجارب الشعرية المنتمية إلى مختلف الأجيال و الفترات، لكن و مع أهمية النقلة التي عرفتها هذه الشعرية خلال عمرها القصير نسبيا و تحقيقها لمكاسب إيجابية، بناء و تخييلا و رؤيا، يتبقى عليها، فيما يتعلق باللغة، أن تنتج ذلك الصنف من اللغة الشعرية الذي عمّده جان كوهين، في مصنفه "اللغة المتسامية "، بالشمولي أو الكليّاني الذي تنقلب فيه التوتاليتارية من محمولها الإيديولوجي و السياسي القدحي إلى طاقة تكثيفية رهيبة تبلغ اللغة الشعرية بواسطتها سدة المجازية، إنتاجها، جماليا، لطرائق جمالية متطورة تستدرك عبرها الكتابة ممكنها الأدائي المستجد و المتأنق بناء و تخييلا و رؤيا. على أن الذي يلزم استيعابه جيدا من طرف جميع فرقائها هو أن أمّ الحاجات، إن جاز التعبير، و التي يتوجب تعظيمها و استحضارها بكيفية مداومة، دوام استحضار عنصر الحقيقة، هي أن الشعر، أيّ شعر جدير بهويته الشعرية المفحمة، ليس فقط مطية لاختراق تخييلي لأديم المستقبل بقصد تبديد مجهوليته الفادحة، بل إنه كذلك مطية لارتكاس مبدع و خلاق صوب البدايات. و إذ يؤوب الشعر إلى الرحم البدئية للأجساد و الأشكال و الماهيات و القيم فإن أوبته الدالة تلك هي أوبة، من حيث العمق، إلى المنطقة الزمنية / المكانية المثلى لتجوهر الوجود، كونا و بسيطة و بشرا، و امتلائه بالمعنى. و في التجارب الشعرية المتعالية لا يعدو الذهاب صوب المستقبل كونه تغورا رمزيا لجيولوجيا الفائت، القديم، و المتصرّم، و تقليبا مأساويا / عاشقا لطبقاتها الصلدة، قد ينحدّ هذا الذهاب، كما في تجربة شاعر كفريدريش هولدرلين، عند النقطة المتأبية التي صنعتها اللحظة الحضارية الإغريقية التي كان المقدس يسري خلالها في شرايين المعيش الإنساني الواطئ، أو عند تخوم الخطيئة الأولى التي انهوى فيها الإنسان، و القصيدة بمعيته، إلى الحضيض الأرضي البائس، مثلما ما هو قائم في تجربة شاعر آخر هو شارل بودلير، أو عند قعر / قمة الهاوية السحيقة و العمياء التي هي برزخ مرور الإنسان، برفقة القصيدة، إلى اللب من شرطه الإنساني، بمعنى أن (ما كان يشغل هؤلاء هو العمق الذي لا يني يلح عليهم و ينتظر استكشافهم له، طيّ أمدائه، و ترويضه) . (5) أخيرا لا بأس في أن نعبر عن بعض الأفكار، المنصبة على ما يمكن اعتباره مرجأ في هذه الشعرية، و التي عنت لنا و نحن نتابع، في حدود الإمكان، إنجازاتها الأساسية و انعطافاتها الكبرى متابعتنا لمآزقها و لحظات انحباسها كذلك، أي لسيرورتها الذاتية المنصاعة، بقوة الأشياء، لنفس السنن الموجه للشعريات الإنسانية بكاملها. وهكذا فرغما من خصوبة الحقل الشعري الذي لا يكف عن بلورة أسماء و تجارب لا تخيّب، في معظم الأحيان، التوقعات، و اطراد محصول الإصدارات الشعرية المغربية في السنوات الأخيرة و انتعاش سوق التداول الشعري، قراءة و نقدا و تناظرا و تناديا، و تنامي معدل نقولات الشعر المغربي إلى لغات عالمية، و تولّي جمعيات ثقافية و إبداعية ك "اتحاد كتاب المغرب" و "بيت الشعر في المغرب" و "الشعلة " و "الغارة الشعرية ".. المسألة الشعرية في المغرب بروح مجددة، ابتكارية، بله اقتحامية، ممّا تشهد عليه أنشطتها و فعالياتها في هذا النطاق، مع ذلك، و في الوقت الذي لم تعد فيه الجامعة المغربية، كما كانت عليه الحال في عهودها السالفة، مشتلا لإنجاب القرائح و الكفاءات الشعرية، هناك، في ظننا، حاجة ملحة إلى نهوض الجمعيات المذكورة، المؤهلة مؤسسيا و تنظيميا لهذه الغاية، بمأمورية استكشاف العديد من المواهب الشعرية المهدورة في الحرم الجامعي و الأخذ بيدها و إعدادها، نظريا و مختبريا، للالتحاق بالنادي الشعري المغربي العام، نفس حاجة المجال الشعري إلى شيء من التخليق و التمنيع سيان ضد آفات الاستسهال الكتابي و النمطية و الاجترار و الكسل المعرفي و الروحي، دفعة واحدة، أو ضد أخلاقيات التمركز الشعري و إقصاء الآخر و معاداة الاختلاف. خارج هذا الملحظ، و من حيث التعاطي الإبداعي مع المحلية، بما هي البوابة الشرعية للكونية، التي تحدثنا عنها آنفا، فلا محيد لنا عن الإقرار بأن المغرب لم ينكتب بعد شعريا بكيفية جذرية و مقنعة، سواء كجغرافيا أو كتاريخ، كرموز و توضّعات، كمتخيل و مرويات، إذ تم الاقتصار على مناوشته شعريا في تجارب معينة بينما لجأت أخرى إلى الصدود عنه بالمرة. أمّا بخصوص التعاطي الاسترجاعي مع الشعر الإنساني، و بغض الطرف عن الجهد الملموس الذي بذل، عبر أجيال مختلفة، للتعرف على جغرافيات شعرية عالمية، ذات قيمة أكيدة، و استرفاد إبداعيتها بما يسند النص الشعري المغربي و يغنيه، ما انفكت مرجأة، إلى حين، جهود أخرى مضاعفة لا من أجل التعرف على بقاع شعرية تكاد تكون غير مطروقة من قبل هذا النص، مثل الشعرية الاسكندنافية و السلافية و الغجرية و الأمريكية اللاتينية و الصينية و البنغالية و الأوقيانوسية.. و إنما أيضا بغاية مد الجسور نحو أسماء شعرية عالمية لامعة إمّا لم تستثمر كشوفاتها و إنجازاتها، أصلا، في هذا النص، دائما، أو أنها لم تستثمر بشكل أمثل في أضعف الأحوال، و منها البرتغالي فرناندو بّيسوا و الإيرلندي شيموس هيني و السويدي طوماس ترانسترومر و الروسي بوريس باسترناك و الإنجليزي تيد هيوز و الأمريكية سيلفيا بلاث و البيروفي سيزار فاييخو و الأنتيلي إدوار غليسان و اللبناني صلاح ستتيه.. 1 - سيرغي فاسيلييف: مستويات فهم النص، ترجمة: عاطف أبو جمرة، مجلة (المعرفة)، السنة 23، ع 270، غشت 1984، ص 163. 2 - محمد الأسعد: الهوية كنص ممكن، مجلة (الفكر العربي المعاصر)، ع 17، دجنبر 1981-يناير 1982، ص 102. 3 - Michael Riffaterre: L'illusion référentielle, in Littérature et réalité, collec, coll. Points, Ed. Seuil, paris, 1982, p. 92 4 - Jean-Pierre Richard: Onze études sur la poésie moderne, coll. Points, Ed. Seuil, paris, 1964, p. 9 5 - Jean-Pierre Richard: Poésie et profondeur, coll. Points, Ed. Seuil, paris, 1955, p. 10
(1) لعل الخوض في الشأن الشعري المغربي الراهن هو بمثابة ضلوع، قرائي و تقييمي، في واحد من أكثر الفاعليات الثقافية المغربية استثارة للجدل و الخلاف. و من الطبيعي، و الحالة هذه، أن تتعدد زوايا الاقتراب من قضاياه و معضلاته، تبعا لتباين قناعات النظر و خلفيات التأويل، إلا ما كان من الاتفاق الصريح أو الضمني، شبه التام، بين فرقاء هذا الشأن حول حقيقة أساسية لازمت ولادة الشعرية المغربية المعاصرة، في إطار تجاربها و خبراتها المتنوعة،و سيرورتها القائمة منذ أربعة عقود و نيّف، نقصد تعالقها القدري، الإيجابي ما في ذلك ريب، بالشعرية العربية المعاصرة، لكن المشوب بجملة من السلبيات و الحساسيات و المسبقات لدى هذا الطرف أو ذاك، و ما أثمره هذا الوضع و لا يزال، و إن خف احتداده نسبيا، من تداعيات على صواعد الكتابة و النقد و القراءة، و من هواجس تكاد تأخذ صفة مركب مزمن يشل، بكيفية أو بأخرى، تحرر المكتوب الشعري و طلاقته و تقدمه، و يؤجل، أو يقصي بالمرة، المطارحة الصحية و المنتجة سواء لكبريات أمورها أو لمستدق أسئلتها، و يصرف الاهتمام عن مقايسة منجزها المتحصل خلال قرابة أربعين عاما و، بالتالي، ضبط موقعها الفعلي، أو الممكن، في جغرافيا شعرية إنسانية قيد التبدل تجري إعادة تشكيلها على أرضية ما أصبح يعرف بالقرية الكونية الصغيرة.
فمهما كانت درجة سعي الوعي الشعري المغربي الحالي، على الأقل في إبان ستينيات و سبعينيات القرن المنصرم، إلى التغاضي عن جملة من الشواغل، التي تتربص بلاوعي الممارسة الكتابية للفاعلين الشعريين، و ذلك من قبيل ثبوت الشرعية التاريخية و الثقافية، أصلا، للقصيدة المغربية أو انتفائها، ضمن نسق تاريخي و ثقافي على جانب من الخصوصية، و في حالة توافر قصيدة مغربية معاصرة فما مدى كفايتها الأدائية و التخييلية و الرؤياوية و ما هي حدود أهليتها التداولية ؟ و بتعبير مواز هل اقتدرت الثقافة المغربية، طوال تاريخها، على إنتاج متخيل شعري مقنع و جاذب، مهيأ، تلقاء نضوجه المحتمل، لبلورة نص شعري مغربي معاصر لا يقل شاعرية عن نظيره المشرقي ؟ فإنه بقي، و بكل موضوعية، رهين هذه الشواغل التي يا ما انهدرت معها جهود فكرية، ارتدت لبوس مرافعات و دفوعات حجاجية إثباتا للذات، و إبداعية كذلك اتخذت لها منحى الاستظلال بالنموذج الشعري المشرقي و التبعية الطيعة لإملاءاته، توكيدا لنجابة التلمذة و إجادة الاستيعاب، و ذلك على حساب الدفع بالمشروع الشعري المغربي المعاصر إلى أفق تماسكه و تطوره و استحقاقه الثقافي المترسم.
و نحن ننوه إلى الخفة النسبية لاحتداد هذا الوضع كنا مستحضرين الكلفة الزمنية، و الفكرية و الإبداعية، التي أدتها الشعرية المغربية كيما يتسنى لها، مع مطالع التسعينيات، بفضل مواظبة مجموعة من الفاعلين الشعريين النابهين، المنتسبين إلى مختلف الأجيال، الحسم مع هذا المترسب و توجيه التصور و الانجاز الشعريين وجهة طموحة، بمقتضاها سيستعاض عن العلاقة الشعرية بالمشرق بعلاقة واسعة و مفتوحة مع مختلف بقاع الجغرافيا الشعرية الإنسانية التي تنتسج على ظهرها، الآن، بقعة شعرية واحدة لا غير. و إذن فإن تململ الوعي الشعري، و إن متأخرا، و إشاحة بعض رموزه النظر عن المشرق الشعري و استقصاؤهم لمناطق شعرية أخرى، متوسطية و غربية و آسيوية لهو، رغم كل شيء، دليل معافاة هذا الوعي و تكييفه، تصورا، مع مبدأ الكتابة من موقف الوثوق و ليس من موقف الدفاع، مع داعي تصويب الاهتمام نحو المحيط الشعري الإنساني بدل الانحصار في النطاق الشعري العربي الضيق، أو، بالأولى، تربيته على تصريف كتابة شعرية لا تعاني من أيّما نقص أو ارتباك و تعويده على النهوض بأعباء الانتماء إلى المحيط الأليق للنص الشعري المغربي، أي إلى مدرج الكونية الملبي لانتظارات هذا النص من حيث التعبير و التخييل، لكن القائم، في نفس الآونة، مقام محك حقيقي لشعريته من جهة، و من جهة ثانية لطاقة تحمله، بما هو مآل الشعريات المتطلبة و المجازفة، لهموم ساكنة عالم أمسى، على تراحبه، محض قرية كونية صغيرة كما قلنا.
من المحقق أن هناك مسافة، فعلية و رمزية، لا يستهان بها كان على الشعرية المغربية المعاصرة تخطيها حتى تتخلص من ذيليتها اللامشروطة لمشرق شعري متمركز حول ذاته، لا يعترف بالشعريات العربية المحيطية، و تعرض دور نشره عن احتضان دواوين شعرية مغربية، و حسبنا أن نشير هنا إلى العدد الضئيل من الأسماء الشعرية المغربية التي تغلبت على حاجز النشر في بيروت أو دمشق أو بغداد أو القاهرة، و انتزعت مقبولية ما في المركز الشعري، و بحسب ما نعلم فاستثناء الشاعرين الستينيين عبد الرفيع جواهري و عبد السلام الزيتوني اللذين تمكنا من طبع باكورتيهما الشعريتين، "وشم في الكف" (بيروت 1980) بالنسبة للأول و "نسيت دمي عندهم" (عمّان 1994) بالنسبة للثاني، و لنلاحظ دلالة تأخر تاريخ الطبع عن فترة بروزهما الشعري، و شعراء من أجيال لاحقة كمالكة العاصمي و محمد الأشعري و محمد بنيس و محمد بنطلحة و المهدي أخريف و محمد عزيز الحصيني و وفاء العمراني.. ظلت الأبواب مسدودة في وجه ذيوع القصيدة المغربية المعاصرة عربيا، بل و أكثر من هذا أن تنقلب الآية فيغدو المغرب ليس فقط محط استقطاب لأسماء شعرية عربية وازنة، في إطار الملتقيات الشعرية التي ينظمها "اتحاد كتاب المغرب" و "بيت الشعر في المغرب" و جمعيات ثقافية و إبداعية أخرى، و عالمية حتّى يستضيفها، دوريا، المهرجان العالمي للشعر الذي يؤطره بيت الشعر في المغرب، و إنما أيضا، و يا للمفارقة، مكان إصدار عناوين شعرية مختلفة لشعراء عرب من العيار الثقيل.. ناهينا عن اطراد نقل الشعر المغربي المعاصر إلى لغات عالمية و إنجاز دراسات نوعية عن بعض تجاربه و الحضور المواظب لشعراء مغاربة في المنتديات الشعرية الدولية.
و على ذكر المهرجان العالمي للشعر لا يجب تناسي خطوة مقدامة أخرى، موازية، أمكن "بيت الشعر في المغرب" تحقيقها و هو يوفق إلى كسب تبني منظمة اليونيسكو لفكرة اليوم العالمي للشعر و إدراجها في أجندة الأيام الثقافية العالمية. و إذ تضع الشعرية المغربية المعاصرة رجلها، في غضون سنوات محدودة، على عتبة الكونية يتحتم أن يدرك القائمون عليها أن هذه الأخيرة ليست مجرد نياشين اعتبارية توهب كيفما اتفق بقدر ما هي محك حقيقي، مثلما نصصنا على ذلك، لاشتداد العود الشعري و تصالبه، و أيضا لفطنة التقاط نبض عالم أفرط في تعقده و التباسه ضمن مساق كوني بقدر ما قرّب الشقة بين أطراف المعمورة فاقم من حدة مشاكل العيش و التعايش، دفعة واحدة، إذ لا يني يعمق فقر الأغلبية و ينعش، على واحديته المفترضة، الهويات و الثقافات الإقليمية و الوطنية التي كانت، و إلى عهد قريب، خاملة أو منطمرة.. عالم يعفي، غير متقاعس، على منظومته العلاماتية المألوفة من تقاطب إيديولوجي و حرب باردة و وضوح سياسي و حدّية قيمية و كفاف اقتصادي و طمأنينة روحية، و يؤثث فضاءه المعولم الذي تستحكم فيه شريعة التّبضع و الاستهلاك، و تتناوب عليه ثوراته المعلوماتية و الرقمية و الوسائطية المتسارعة الوتيرة.. عالم يداري تخرمه البيئي المروع و يلتف، ليس إلاّ، على حربه الإلكترونية المدمرة، الآتية لا محالة.. عالم لا يتوانى عن محو ذكرى رموزه السابقين من مفكرين جهابذة، متنورين، كمارتن هيدغر وبرتراند راسل و جان بول سارتر، و مناضلين طهرانيين، ارتفعوا إلى صعيد الأسطورة، كهوشي منه و إرنستو تشي غيفارا و نيلسون مانديلا، من الوجدان الإنساني العام و استزراع خلف رمزي براق من سلالة بيل غيتس و طوم كروز و سيرغي بوبكا و كلوديا شيفر.. ممّن أحلتهم إمبراطوريات الاتصال و السينما و الرياضة و الموضة في صدارة المشهد العالمي الراهن..
عالم على هذا الاعتناف المغلف بديمقراطية المعرفة و بهرج الوفرة، عالم على هذا الاختلاط و التشوش لا يزال للقصيدة ما تقوله عنه لأن المسألة، بصرف النظر عن الزمن و المكان، مسألة توكيد إنسانية الإنسان و خفره في طريقه إلى حيث يتملك كينونته الحرة و المتجوهرة.. عالم على هذا المنوال يستأهل انضواء منتجي الخيال الشعري في المغرب إلى حلبته المغرية و قول كلمتهم فيه و ذلك بما يعود على الشعرية المغربية المعاصرة بالجدوى، توسلا، و التطور، موضوعا و رؤيا.
(2) إن مناولة ركن اللغة في الشعرية المغربية المعاصرة لهي اختبار لأحد أوكد عناصر التحقق الشعري في بنيتها الكتابية إن لم تكن اختبارا لصميم هويتها الإبداعية. و في هذا الباب يجب عدم الاعتراض على تلك المرادفة المفاهيمية، بله المطابقة ، المعمول بها في كثير من الأحيان، بين مفهوم اللغة الشعرية و بين مفهوم الشعر، أصلا، كجنس تعبيري له خواصه و محدداته، الشيء الذي يدل على حيوية الركن اللغوي في التشييد و التخييل الشعريين.
و لأن المعجم ليس من قبيل الكينونة اللسنية / الإشارية التجريدية، المتعالية على اعتبارات المكان و التاريخ و المجتمع و الثقافة، أي على مشترطاتها التداولية النافذة فسيكون من الإجحاف، في ما نرى، ضمّ كامل التحققات التلفظية التي راكمتها هذه الشعرية في خانة معجمية واحدة قد يرجح سريانها على المتن الشعري المغربي الراهن برمته. فاللغة، الشعرية منها بوجه خاص، بقدر ما تعبر، كما نعلم، عن الجمعي و المشترك، و تترجم عن محمول الذهن و الوجدان العامين تندمغ كذلك بالبصمة الشخصية لمنتجها و تؤشر على اختلاف تلفظي يصدر، بدوره، عن اختلاف أعمق يتصل بالتموقف الشعري من العالم و بنوعية الرؤيا الناظمة للملفوظ و المنتسجة في فضائه.
من هذا الضوء قد يكون صائبا الحديث عن حساسيات لغوية متباينة تتعايش / تتصارع في المجال الشعري المغربي لكنها و هي تقتاد، منفردة، القراءة إلى الصميم من خبرات تلفظية بعينها و، بالتالي، إلى القلب من تموقفات شعرية من العالم و رؤيات مائزة، تنصب، كافتها، في متخيل شعري، مغربي السمة، لا يني ينفرز عن غيره من المتخيلات الشعرية الوطنية، إذ (لا يمكن أن يوجد "معنى في ذاته "، فهو لا يوجد إلاّ بالنسبة لمعنى آخر، أي يوجد فقط إلى جانب غيره)(1) من المعاني الجغرافية و التاريخية و السياسية و الثقافية. و كما هي الحال في جل التجارب الشعرية الإنسانية فإنه بالإمكان اقتراح نوع من صنافة، إجرائية ليس أكثر، للمعاجم اللغوية المتنفذة في الوعي الشعري المغربي و المحايثة في النصوص سواء كإبدالات مفرداتية أو بنيات صرفية أو توليفات أسلوبية أو منسقيات تخييلية (مجازية و رمزية).
وعليه فإن كان شاعران ستينيان، كأحمد المجاطي و بنسالم الدمناتي، مثلا، قد انشدا، بأثر من تربيتهما الشعرية القديمة، الرصينة ما في ذلك جدال، إلى معجم لغوي سوف يسبغ على لغتهما الشعرية أو، على الأصح، جملتهما الشعرية، رونقا تراثيا لافتا يجعلنا نستحضر، من فورنا، الروح التراثية المستحكمة في شطر فائق من قصائد بدر شاكر السياب و شاذل طاقة و عبد الرزاق عبد الواحد.. حيث قوة المفردة الشعرية و صفاؤها الدلالي و رنتها الموسيقية الصائتة، و هو ما نستطيع معاينته في ديوانيهما، بالتتالي، "الفروسية " و "واحة النسيان"، فالظاهر أن المعرفة الفلسفية و الصوفية لمجايلهما، محمد السرغيني، مضافا إليها ما اكتسبه مثلهما من رصيد لغوي، شعري و نثري، موسوم بالقدامة سينحو بمعجمه الشعري منحى التقعر و الإعظال الدلاليين و يغلف عبارته بنصيب من الوعورة، إن توليفيا أو تخييليا، ممّا يمكن الوقوف عليه في جماع أعماله الشعرية و بخاصة في إصداره الأخير "احتياطي العاج".
مقابل هذا الاختيار اللغوي تواجهنا نصوص شاعرين آخرين، من نفس الجيل، هما عبد الكريم الطبال و عبد الرفيع جواهري بمواظفة لغوية من طراز تلفظي مخالف قد يجوز نعته، بغاية إيضاحه، ب "السهل الممتنع"، و ذلك على النحو الذي كان يستعمل به في الأدبيات النقدية العربية الكلاسيكية، و لنأخذ بغاية التثبت من هذا الطراز مجموعتيهما الشعريتين، بالتتابع، "بعد الجلبة " و "وشم في الكف". فكونهما يكتبان جملة شعرية تؤول إلى ما يمكن الاصطلاح عليه ب "الواقعية الرومنتيكية "، تشبها بالواقعيات التسجيلية و الاشتراكية و السحرية.. تتمثل الواقع تمثلا يسخر جملة من الموارد الإيهامية، غير المتكلفة، لصالح زاوية نظر ابتداعية للواقع موضوع المعالجة الشعرية التي يتوخى منها، في المقام الأول، تقريب هذا الواقع، قرائيا، و جعله على مرمى أي تفاعل استيهامي منتج، كان لابد و أن تتوسل معجما قريب المنال، تأويليا، أميل، لشفوفه و إسلاسه، إلى ما يمكن عده لغة وسطى، لكن من غير ما تفريط في مقتضاه الشعري الصارم.
و انسجاما مع السيرورة اللغوية التي خضعت لها معجمية القصيدة المغربية المعاصرة حصل أن اقترن مقدم أسماء جديدة، بدءا من العقد السبعيني، إلى المجال الشعري بمتغيرات ستمس تقنية الانتقاء المعجمي و المواظفة الإبدالية مسها لطريقة صياغة الجملة الشعرية و توضيبها، أمّا مرد هذه المتغيرات فإلى انبثاق وعي تحديثي أكثر راديكالية إذا ما قيس بالحذر الذي وسم المشروع الشعري الريادي في الثقافة المغربية، مثل أي مشروع إبداعي ريادي، بضاغط، طبعا، من الأهمية التي كانت، وقتها، لفكرة استنبات قصيدة مغربية معاصرة في ثقافة يطبعها التقليد و المحافظة. وهكذا فإن كان في المستطاع إطلاق وصف الماورائية على اللغة المشتعلة في عملي محمد بنيس الشعريين الأخيرين، نقصد "المكان الوثني" و "نهر بين جنازتين"، نظرا لما يميزها من توغل دلالي و ترميزي في ما وراء قشرة الأرض، المشعرنة في رحابهما، ترمي من ورائه إلى استخلاص الجوهر المخفي للعالم، جوهر المجهولية و اللانهائية و العدمية، فإن أعمال محمد بنطلحة الشعرية، و تحديدا ديوانه الأخير "بعكس الماء"، تعرب عن حذق فائق في التعامل مع معجمية سريالية يعتقدها أقدر من غيرها على التقاط شتى أوجه الغرابة و المفارقية التي يحفل بها عالم يفتت مجازيا ثم يعاد تشييده وفقا لمشيئة حلمية خالصة. ففي لغة محمد بنيس الشعرية يستقيم العالم مكانا للقلق و الارتعاب و الذهول أما في لغة محمد بنطلحة فيستهام، جراء لامعقوليته و قرفه، موضوعا للتقريع و الهزء المأساويين و في نفس الآن مسقطا لضوء حلمي يغسله من أدرانه و تعفناته اللاتطاق. و بالموازاة من اللغة الشعرية العقدية، ذات المسوح التعبدي، التهجدي، التي يسهل تلمسها في ديوان حسن الأمراني، الموسوم ب "القس و اليمامة "، مثلا، تتدثر لغة عبد الله راجع، في ديوان "سلاما و ليشربوا البحار" بكيفية خاصة، بإهاب استبطاني تتخذ معه الأشياء و الذوات و المحكيات صفة الستر أو الانحجاب الذي لا تكل المخيلة عن مراودته تبديدا منها لما يلف باطنها من غموض و انبهام.
من جهة أخرى، و استهداء بما قلناه عن معاجم الشعراء الستينيين، قد لا يتعذر على القراءة، من داخل المناخ التجريبي الذي ران على المجال الشعري المغربي في إبان السبعينيات، وضع اليد على مجموعة من القرائن الفارقة، معجميا، بين مجموعة من الممارسات الكتابية الحاملة لتوقيع هذا الشاعر أو ذاك، لكن الجامعة، في المقابل، بين شعراء ينتمون إلى هذا العقد، أو آخرين أعلنوا عن أنفسهم عند متم العقد الستيني، و بين بعض سابقيهم، ممّا يفند فكرة الانقطاع الجذري بين الأجيال الشعرية المغربية. في هذا المضمار يمكن استحصال قدر من التواشج، القوي أو الفاتر، بين المعجم الشعري لعلال الحجام و محمد الشيخي و محمد بودويك، الذي يتمظهر في أعمالهم، تباعا، "من توقعات العاشق" و "حينما يتحول الحزن جمرا" و "جراح دلمون"، و بين ذاك الذي يمثل في نصوص كل من أحمد المجاطي و بنسالم الدمناتي، أو بين معجم إدريس الملياني الشعري، و لنأخذ ديوانه "في ضيافة الحريق" كنموذج، و بين المعجم الشعري القائم في نصوص كل من عبد الكريم الطبال و عبد الرفيع جواهري، و ذلك على سبيل التمثيل.
و مع حلول الثمانينيات ستشرع في الالتئام أو التكرّس قسمات بعض السجلات اللغوية التي تكاد تكون وقفا على تجارب شعرية صمّم أصحابها على تشغيلها إمّا في عمل شعري مفرد أو في جملة من الأعمال المتعاقبة، و في هذا الاتجاه، و على شاكلة ما قلناه عن التقاطع المعجمي بين تجارب شعرية ستينية و أخرى سبعينية، في الإمكان تصنيف لغة شاعر كمحمد الصابر، الماثلة سيان في ديوان "زهرة البراري" أو في ديوان "ولع بالأرض"، ضمن السجل اللغوي الاستبطاني، المواظف في شعر عبد الله راجع، و لغة شاعر كمحمد عزيز الحصيني، المسخرة بوجه خاص في ديوانه الثاني "الكلب الأندلسي"، ضمن السجل اللغوي السريالي، الحلمي، الذي تصدر عنه تجربة محمد بنطلحة الشعرية. من زاوية أخرى، و على تضاؤل الشاغل الميثولوجي، إن لم نقل انعدامه، في الذهنية الثقافية و الإبداعية المغربية تتبدى في ديوان "عاريا أحضنك أيها الطين" لمحمد بوجبيري بعض المشخصات الدالة على تصالح تخييلي مع المكون الأسطوري، لا كمضامين أو استرجاعات أو إشاريات و إنما كمعجم يرخي في الفضاء النصي ما لا يحصى من التداعيات التعبيرية و الترميزية التي يرتفع معها الواقع من درك الأرضي إلى علياء الأسطورة و تكتسب بفضلها عناصر الطفولة و الذاكرة و الطين و الماء طزاجة غير معهودة. أمّا وفاء العمراني فلا تكف، منذ ديوانها الأول "الأنخاب" و حتى ديوانها الأخير "هيأت لك"، عن توثيق عرى تعالق رمزي بين الأنا الشعرية و الآخر و العالم ضمن مثلث رؤياوي تسيجه لغة شعرية جسدية / مجسدنة، يتجسدن في تضاعيفها الملموس و المرئي، الاستذكاري و الحلمي، و ذلك توسطا بانفعال صوفي مكين، بهذه الحدود الثلاثة، يجلوه محفل تلفظي لا مراء في نبرته الجوانية.
انطلاقا من التسعينيات سيأخذ معجم شعري إضافي في التبلور و ذلك في تواقت مع حصول قصيدة النثر على شرعية أدائية في الشعرية المغربية المعاصرة. و بما أن معجم هذه القصيدة يعتاش، قبل كل شيء، على الجزئي و المتشذر، المتقطّع و العرضي، بمعنى أنه يستمد مؤونته الدلالية و الترميزية من متفتت المعيوشات و المرئيات و الاستذكارات و التماهيات، فإنه، أي المعجم، سيركب تقنية مزدوجة عمادها التكثيف و الإلماع، أو الإضمار و التكنية، خدمة لمقصدية جمالية تعمل قصيدة النثر على تحقيقها ألا و هي الإدلاء بالجزء الذي يستفاد منه الكل. و بالرجوع إلى دواوين "حياة صغيرة " لحسن نجمي و "هدنة ما" لحسن الوزاني و "شهادة عزوبة "لجلال الحكماوي و "مانكان" لعدنان ياسين.. نقوى على تقرّي ثوابت هذا المعجم، مع مراعاة تغايرات عوالمها و تباينات طرائق الكتابة و التخييل فيها، الذي ما فتئ يهيمن على قسم وافر من الدواوين و القصائد الآيلة إلى أسماء شعرية تسعينية.
و على هامش هذه الصنافة الإجرائية المقترحة نرى لزاما التوكيد على أن اللغة ليست وحدات لفظية صماء بقدر ما هي حياة صوتية و دلالية مركبة و لامتناهية تثمر منها القصيدة أو، بالحري، الجملة الشعرية مكاسب إيقاعية متأصلة في الأحرف و المقاطع و المفردات إثمارها لتعالقات توليفية منتجة لا نحويا و لا دلاليا و كذلك لتمظهرات تخييلية متنوعة. بهذا المعنى إذن تباشر المدونات اللغوية الموصوفة عامليتها في سياق تجارب شعرية مخصوصة و كذلك في السياق العام للشعرية المغربية المعاصرة، إذ تتعايش في ما بينها رغما من فروقاتها، متفاعلة و متصادية ضدا على شرطها الإبدالي الذي تبدو معه أقرب إلى المتواليات اللغوية الناسخة لبعضها البعض، مانحة، هكذا، قدرا من التنوع و الدينامية لنشاطية لغوية جمعية حثيثة ترمي إلى اجتراح معجم شعري كفء لقصيدة كفؤة.
على أن هذا المطمح يجب ألاّ يغيّب الفوائد التي جنتها الشعرية المغربية، بدءا من لحظة قيامها، ممّا لا علاقة له بأمور الهوية و الجدارة و الاستقلالية التي عرضنا لها في مفتتح هذه المقاربة، من مؤثرات لغوية عربية و أخرى غربية تندرج في إطار التناص الذي لا يمكن لأية كتابة شعرية التنصل، مهما كان، سواء من مفاعيله الإيجابية أو من تبعاته الكتابية المختلفة. و في هذا النطاق يجوز الحديث عن موجات لغوية تعاورت على المجال الشعري، واحدة تلو الأخرى، في تلاؤم عضوي مع التمرحلات التاريخية التي عاشتها القصيدة المغربية و أيضا مع انتظاراتها، الإبداعية و الثقافية و الإيديولوجية، المتحولة. و إذا كان المقام لا يسمح بالتوقف المخبري المدقق على نماذج من الاسترجاع اللغوي في بنيتها حسبنا أن نشير إلى أبرز ممثلي هذه الموجات، إن عربيا كموجة بدر شاكر السياب و عبد الوهاب البياتي و أدونيس و خليل حاوي و صلاح عبد الصبور.. التي تلتها موجة سعدي يوسف و حميد سعيد و سامي مهدي و حسب الشيخ جعفر و محمود درويش و فايز خضور و محمد عفيفي مطر و محمد علي شمس الدين.. فموجة أنسي الحاج و عبد القادر الجنابي و قاسم حداد و سركون بولص و عباس بيضون.. ثم موجة سليم بركات و سيف الرحبي و أمجد ناصر و عبد المنعم رمضان و نوري الجراح.. أو غربيا كموجة اللغات اللوركوية و الماياكوفكسية و الناظمية (نسبة إلى ناظم حكمت) و النيرودية و الإيلوارية.. و موجة آرثور رامبو و ستيفان مالارميه و غيوم أبولينير و سان جون بيرس.. و موجة عزرا باوند و أوكثافيو باث و يانيس ريتسوس و يفغيني يفتشنكو و إيف بونفوا و رونيه شار و هنري ميشو و فرانسيس بّونج.. ثم موجة فريدريش هولدرلين و جورج تراكل و راينر ماريا ريلكه و فيليب جاكوتي و جيوسيبي أونغاريتي.. و ما جاء بعدها من موجات لغوية غربية ما بعد حداثية، أضف إلى هذا التأثير الذي أخذت تمارسه لغة قصيدة الهايكو اليابانية خلال السنوات الأخيرة على جانب من المكتوب الشعري المغربي.
(3) من ناحية إجرائية، دائما، قد يليق بنا إفراد المستوى الجمالي عن المستوى اللغوي في القصيدة أمّا الأنسب، في الحقيقة، فهو استدخال محدد الجمالية الشعرية في النطاق الأوسع للغة الشعرية لكون هذه الأخيرة هي المصهرة التي تتلاشى / تتماسك في أتونها كافة المستويات و المكونات البنائية.
و وفقا للمعنى الذي تأخذه الجمالية في الحقل الشعري باعتبارها فاعلية شكلية أو صيغية يراد بها البرهنة، أولا، على المعيارية الأنواعية للقصيدة، التي هي جنس تعبيري محكوم بمقولية مخالفة لمقولية الرواية مثلا، و ثانيا على تفاوت لا مقدرات الشعراء على الاستزادة الأسلوبية بما تعنيه من اجتهاد تأنيقي، تزيني، يعود شأنه، من حيث المبدأ، إلى اختيار الشاعر، و تباين كفاءاتهم في استدماج جملة من الأبنية، النصية و اللانصية، في اللغة الشعرية، التي يجب أن تظل رغم ذلك هي النواة الصلبة للقصيدة، و تخويلها درجة من الوظيفية تغدو معها جزءا لا يتجزأ منها، بل و قد تتعذر قراءتها و يصعب تأوّلها إن حدث و أن غيّبت هذه الأبنية أو تم تلافي محايثتها.
فطوال المدة التي استغرقتها نشأة القصيدة المغربية المعاصرة كان هناك تلازم، بكيفية أو بأخرى، بين المرتبتين الكتابيتين، الاقتضائية و التجميلية، لكننا نسجل طغيان المرتبة الأولى، خلال فترة شعرية ما، أو الثانية، في أثناء أخرى و ذلك في ارتباط مع طبيعة الأولويات التعبيرية المترسم تلبيتها ضمن الخصوصية التاريخية للفترة، و نوعية المستجدات الثقافية التي تحفل بها. لكن عموما يمكننا الإلماع إلى أن تنامي الإحساس بجدوى التغطية الجمالية للنصوص سيتقوى اطرادا مع انتقال هذه القصيدة من طور التأسيس الشعري إلى أفق التجريب الشعري. و إذا ما استحضرنا ألوان الإغراء التي بدأت تمارسها منذ سنوات خلت، على مخيلات بعض الشعراء المغاربة، فنون تعبيرية أخرى كانت قد فطعت أشواطا محسوسة في تطوير توسلاتها الجمالية، و أيضا ما كان من توفّق نماذج شعرية، غربية و عربية في آن معا، إلى استيفاء شرطها الشعري الجمالي، بله ترقيته، بالانفتاح الواعي و الفطن على هذه الفنون و اقتراض المناسب من أدواتها و تقنياتها فسندرك مدى الأهمية التي ستصبح للجانب الجمالي في تفكير هذا البعض و في إنجازه الكتابي كذلك. بالإضافة إلى هذا، و إذا ما أردنا الذهاب بالمسألة الجمالية في الشعر المغربي، و الشعر بوجه عام، إلى عمقها فسنلفي أنفسنا، بكامل البساطة، في صميم الماهية الحداثية للكتابة الشعرية ما دام يعتد بالمتحصل الجمالي في الحكم بثبات هذه الأخيرة أو حركيتها، أليست الحداثة فعلا للتجاوز و الابتكار و التقدم ؟ و بتعبير رديف سنجدنا بصدد التحقق من لزوم الفعل التحديثي و محدوديته أو تعديه و انطلاقه، و في كلمة واحدة بصدد نجاح القصيدة في موالاة مسيرها، الذي لا مفر لها عنه، في السبل المضنية و اللانهائية للحداثة أو إخفاقها في ذلك و قعودها عن الكد و التجديد الكتابيين.
على أيّ فمن ضفاف القصيدة الغنائية، المقطعية أو الكتلوية أو الحلزونية المبنى، التي يتكلم فيها صوت واحد، هو صوت الأنا الشعرية التي تنوب مناب الذات الشاعرة في الفضاء النصي، و تقتات، تلفظيا، على اصطراعها المستهام مع عالم موضوعي جاهز إلى ضفاف القصيدة المركبية، المتعددة الأصوات، و ضمنيا اللغات الشعرية، و الأبنية و المنسقيات و المقامات المتجاذبة لكن المندغمة في بؤرة نصية واحدة قد يتوزعها الحوار و المونولوغ و التداعي و الاستذكار و الحلم و الحكي و الانبناء المشهدي و التظليل و التبقيع و التلطيخ و التبييض.. أي إلى ضفاف الكتابة كممارسة مفتوحة، متحررة من إكراهات الجنس الشعري، و متجاسرة على الرقابات القرائية و الكوابح النقدية.. من حدود قصيدة التفعيلة، المتحرجة في العديد من نماذجها من تفعيليتها التي يتيسر تصريفها، إيقاعيا، في خطاطات وزنية تقليدية إلى حدود قصيدة النثر في مراهنتها على ممكناتها الإيقاعية الضمنية و تعلقها بتمرير السرود و المحكيات الشعرية المنضغطة مع الزج بالزمن الشعري في انتظامية الأزمنة الفيزيائية من أجل مغالبتها و تطويعها.. من أفق البناء الشعري السطري، المقيد، إلى أفق البناء الشعري التدويري، المرن مرونة جملة شعرية لم تعد خاضعة سوى للوازع التعبيري لمنشئها.. من مدار التصييغات التشبيهية الكسولة و المهادنة إلى مدار المجازات و الترميزات الكبرى التي قد تكتسح، تخييليا، قصيدة برمتها، إن لم يكن ديوانا أو مجموعة دواوين.
و بالمناسبة حريّ بنا أن ننص على الدور الفاعل الذي كان لائتلاف مجلة "الثقافة الجديدة "، انطلاقا من منتصف السبعينيات، في زحزحة الوعي الشعري المغربي المعاصر و إطلاق العنان لمغامرة تجريبية، تفكيرا و إنجازا، تقوم على المجازفة التصورية و الإبداعية و اقتحام مناطق وعرة في التخييل و جعل جماع من العناصر الموازاتية، كنوعية الخط و الإخراج التدويني و التفضية الطباعية.. محل اعتناء و حدب، قد يختزل خطوطها الأساسية "بيان الكتابة " الذي حرره محمد بنيس و نشر بأحد أعدادها.
و إذا كان لنا أن نمثل بأعمال شعرية، صدرت بالأمس القريب، اتجهت وجهة تجريبية إيجابية فلنقترح ديوان "كيمياء" لأحمد محمد حافظ و "الكلب الأندلسي" لمحمد عزيز الحصيني، إذ لا يتورع الشاعران الثمانينيان عن الإلقاء، في هذين الديوانين، بعدّة تجريبية وازنة يجانبان بها رصيدهما الكتابي، الغنائي، السابق و يتجاوزانه دفعة واحدة، تتمظهر آثارها النصية الفاعلة، رغم اختلاف تجربتي الديوانين، على أصعدة التشغيل اللغوي و تمفصلات الجملة الشعرية.. التنويع الإيقاعي و الإسقاط التخييلي المبتدع.. التزمينات الشعرية المسترسلة و التلوينات المكانية المتوالية.. سردنة الملفوظ الشعري أو تكثيفه بحسب ما تتطلبه القصيدة.. هذا مع إجادة استثمار جملة من الاسترجاعات الإبداعية (شعرية و روائية) و الثقافية (دينية و فلسفية و فنية..) و التحكم في منسوب مؤازرتها النصية و التخييلية للقصيدة. إجمالا نقول إن المتتبع لمسار الشعرية المغربية المعاصرة لابد و أن يسجل عدم تراخي أو تقاعس الفاعلين الشعريين المجدين عن إنضاج جملتهم الشعرية و مدها بما يضمن لها صفتها المثناة التي تجعل منها قولا يقول، أول ما يقول، نفسه، قائلا معه محمولا برانيا لا يتحرج بتاتا في وضعه تحت إمرته الشعرية.
(4) هل بمقدورنا الحديث عن حقيقة خارج - نصية تثوي داخل القصيدة، قابلة للتعيين و التشخيص قابليتها للاستخراج من بين فكي الكماشة النصية ؟ نجيب، مبدئيا، فنقول بكل بساطة (.. بالنسبة لنص يحاول أن يكون حديثا فالمسألة أكثر صعوبة، و ذلك بسبب عدم التّحدد الذي تعيشه عناصر الواقع المتحرك من اجتماعية و ثقافية في نص يحاول أن يحيا إشكاليتها) . يبدو، إن نحن تحلينا بشيء من الموضوعية، ألاّ حاجة، أصلا، إلى مطارحة أمر واقع ما مفترض، أو ما يشبهه، في السياقات التخييلية، الإيهامية، المشبعة على نحو كاف و مقنع كالقصيدة الشعرية، و ذلك بسبب من انعدام الصلة بين الجانبين إلاّ ما كان من مواظفة الواقع، مثله مثل سائر المكونات الشعرية الأخرى، في فضاء القصيدة و وضعه عامليته النصية الطارئة على عامليته و معموليته القبليتين في نطاق الزمن و المكان تحت تصرف المخيلة الشعرية ما دامت (المرجعية تتيح، فوق كل شيء، امتياز توريط ما هو براني) في مستلزمات هذا الفضاء و اقتضاءاته.
و إذن فإن منتهى ما في مكنتنا التطرق إليه، في حقيقة الأمر، هو المنحى الذي قد يسلكه شاعر ما في تمثل الواقع أو ما يدعى واقعا أو، بالأولى، حقيقة قائمة و مسبقة في الوعي الجمعي، بناء على انفعال و خبرة مخصوصين، و منحها خلقة تخيّلية توازي بها هيئتها المستتبة خارج حدود القصيدة، بل و تماديها و تتفوق عليها إن لم نقل و تنازعها رمزيا. أمّا في مستوى لاحق فيغدو متاحا التطرق إلى محض الحقيقة الكتابية و هي في حالة تجسّم في بياض الصفحة و، جوهريا، في بياض العالم المتمثل، الموسوم بواقعيته، أي بحقيقته التي تتموضع في الطرف النقيض لبهتان الشعر و زيفه ! إن مكمن الحقيقة، كما يرى مارتن هيدغر، في صلب العمل الإبداعي و داخل حدوده التخييلية التي يرسمها هو تلقاء مقاصده الجمالية و غاياته الرؤياوية، و من ثم فإن الحقيقة لا تعدو كونها الوجود في أقصى درجات صفائه، أي انكشافه و جدته و غرابته بما هي مواصفات امتياز العمل الإبداعي على واقع معاد، مشوش، و مغبر عن الآخر و تعاليه الرمزي عليه.
و من هنا فعن أية حقيقة / حقائق يمكننا الكلام و نحن نتداول قضايا الشعرية المغربية المعاصرة ؟ أمّا من حيث التدقيق أية حقيقة نستطيع تبيّنها و رصدها، مثلا، في دواوين "رماد هسبريس" لمحمد الخمار الكنوني "هديل الروح" للحسين القمري و "شيء له أسماء" لمالكة العاصمي و "حكايات صخرية / سرير لعزلة السنبلة " لمحمد الأشعري و "سلالم الميتافيزيقا" لعبد الله زريقة و "حجرة وراء الأرض" لمحمود عبد الغني و "أحفر بئرا في سمائي" لمحمد الصالحي و "لا أحد في النافذة " لعبد العزيز أزغاي و "قصائد للمعشوقة و الوطن" لحسن مرصو.. من غير الحقيقة الشعرية الخالصة التي تستضمر، ما في هذا شك، حقيقة برانية، أو ما يخمّن أنها كذلك، في آليتها البنائية المتشابكة و المتمفصلة، حقيقة / حقائق أوثق بطبيعة الشعر تتلفظها أنا شعرية تعاود تشييد العالم ؟ هل يغرب عن بالنا بأن ( ما يتوخاه الشعر الحديث هو أن يخلق ضربا من معنى تصعيدي معتنف، مأساوي أحيانا، من رحم اللامعنى)(4) أصلا.
و إلى جوار هذه البديهية لربما يصير من حقنا، في المساق الشعري المغربي خصيصا، مقاربة الحقيقة البرانية المستدرجة، بطبيعة الحال، إلى دائرة النص الشعري بما يتوافق مع سيرورة الشعرية المغربية المعاصرة و يتعاضد مع انتقالاتها التصورية و تغايراتها الكتابية الدورية. كذا يحق لنا الكلام، مثلا، عن التحول، على المستوى الرؤياوي، من حقيقة الوطن، نقصد من رؤيا السقوط و الانتظار للعالم، التي سادت خلال الستينيات، إلى الرؤيا البروميثيوسية، التي خيمت على نصوص السبعينيين، فالرؤيا النهلستية التي أخذ يكتب في كنفها، ابتداء من العقد الثمانيني، كمّ لا يستهان به من النصوص الشعرية. و بعبارة موازية يحق لنا الكلام عن التحول من موقف ترقب الحقيقة التاريخية، التي قد تحل أو لا تحل، إلى موقف تصطبغ معه الحقيقة، هذه المرة، بلونية تهويلية، مجريات و أمكنة، انتهاء إلى موقف يميزه نفض اليد من كبريات المعضلات / الحقائق التاريخية، الوطنية و القومية و الإنسانية، و العكوف، في المقابل، على الحقائق اليومية الذرية، المتقطعة، و شعرنة الجاري من الوقائع و التوضّعات و إنزال العياني و الملموس منزلة استعارّية و ترميز، و باختصار من وضعية الترقب إلى وضعية النضالية و الالتزام الشعريين فوضعية الاستقالة من إلزامات الواقع و موجباته، و، بالتالي، تحولها، أي الشعرية، من الحقيقة الغيرية إلى حقيقة الذات / الأنا الشعرية و استعاضتها عن بلاغة الإيثار الرؤياوي ببلاغة التذويت الرؤياوي. أمّا من حيث الاسترجاع النصي فقد يحق الحديث عن الانزياح الدال عن حقيقة التبعية للمشرق الشعري و الاستظلال بمثاله الكتابي، على مدى سنوات، إلى حقيقة الأهلية و الاختلاف، أي من حقيقة مطلقية المرجع الشعري المشرقي إلى حقيقة نسبيته بعد إشاحة النظر و الهوى الشعريين عن جهة المشرق العربي و استكشاف مرجعيات شعرية أخرى ستمد هذه الشعرية بوثوق تصوري و كتابي كانت في أمس الحاجة إليه.
بيد أن هذا التصنيف لا يلغي تشارك أغلبية من الأصوات الشعرية المغربية في الأفق الكوني المتأبد و المشاع، و الذي يأوي روزنامة الحقائق المطلقة و غير القابلة للاستنفاد أو النضوب، للتقادم أو الابتذال، شكلت، برأي رولان بارت، على الدوام إمكانية موضوعاتية فضلى، لكن شاقة و مكلفة، للحداثة الشعرية الحقيقية كيما تقول حقيقتها هي قبل إفضائها بحقيقة الإنسان أو التاريخ، كالأرض و الزمن و المكان و الجسد و الاسم و الذاكرة و الطفولة و اللعب و الحب و الرغبة و الشهوة و المسرة و الألم و الضجر و الجنون و الحلم و السفر و العنف و السقوط و المصير و الموت و المجهول.. التي يتم إخضاعها لترهينات شعرية متفاوتة القيمة و المردود.
و توكيدا منا على ما قلناه، قبل حين، نكرر أن ليس هناك من حقيقة سوى حقيقة الكتابة ذاتها، قد تسهو الكتابة مرارا عن قول حقيقتها أو قد تحجم عن الإدلاء بها لدواعي ملتبسة و متداخلة تجد تفسيرها في ما يعرف بمنسي الكتابة، إذ الجوهر، في الكتابة كما في الوجود، هو النسيان، الخلاق بما أنه ينبه إلى ما يعتري جسدها من بياضات و ثقوب، يشي بنيّتها التأجيلية المزمنة، و يحث، في ذات الوقت، القراءة / القراءات المتعددة و المتضافرة، الفاعلة و المنتجة، على ترميم تخرماتها و تدارك مؤجلها ممّا يجعل منها، أي الكتابة، مجرد لحظة من لحظات ديمومة نصية مفتوحة لا نهاية لتمعنيها و لا انجزام في حقيقتها. إن (لانهائية النص لا يجب التعامل معها بناء على نظرة تفترض إتمام موضوع ما (لم يعد ينقص سوى قول شيء يسير و يصبح كل شيء مقولا) و إنما من منظور "الكتابة " المزدوجة، أي المتخذة، باستمرار،ككتابة و قراءة في نفس الوقت).
(5) إلى هنا نكون قد قمنا بمسح أوّلي لمناحي تشغيل اللغة و الجمالية و الحقيقة في الشعرية المغربية المعاصرة ممثلين ببعض التجارب الشعرية المنتمية إلى مختلف الأجيال و الفترات، لكن و مع أهمية النقلة التي عرفتها هذه الشعرية خلال عمرها القصير نسبيا و تحقيقها لمكاسب إيجابية، بناء و تخييلا و رؤيا، يتبقى عليها، فيما يتعلق باللغة، أن تنتج ذلك الصنف من اللغة الشعرية الذي عمّده جان كوهين، في مصنفه "اللغة المتسامية "، بالشمولي أو الكليّاني الذي تنقلب فيه التوتاليتارية من محمولها الإيديولوجي و السياسي القدحي إلى طاقة تكثيفية رهيبة تبلغ اللغة الشعرية بواسطتها سدة المجازية، إنتاجها، جماليا، لطرائق جمالية متطورة تستدرك عبرها الكتابة ممكنها الأدائي المستجد و المتأنق بناء و تخييلا و رؤيا.
على أن الذي يلزم استيعابه جيدا من طرف جميع فرقائها هو أن أمّ الحاجات، إن جاز التعبير، و التي يتوجب تعظيمها و استحضارها بكيفية مداومة، دوام استحضار عنصر الحقيقة، هي أن الشعر، أيّ شعر جدير بهويته الشعرية المفحمة، ليس فقط مطية لاختراق تخييلي لأديم المستقبل بقصد تبديد مجهوليته الفادحة، بل إنه كذلك مطية لارتكاس مبدع و خلاق صوب البدايات. و إذ يؤوب الشعر إلى الرحم البدئية للأجساد و الأشكال و الماهيات و القيم فإن أوبته الدالة تلك هي أوبة، من حيث العمق، إلى المنطقة الزمنية / المكانية المثلى لتجوهر الوجود، كونا و بسيطة و بشرا، و امتلائه بالمعنى. و في التجارب الشعرية المتعالية لا يعدو الذهاب صوب المستقبل كونه تغورا رمزيا لجيولوجيا الفائت، القديم، و المتصرّم، و تقليبا مأساويا / عاشقا لطبقاتها الصلدة، قد ينحدّ هذا الذهاب، كما في تجربة شاعر كفريدريش هولدرلين، عند النقطة المتأبية التي صنعتها اللحظة الحضارية الإغريقية التي كان المقدس يسري خلالها في شرايين المعيش الإنساني الواطئ، أو عند تخوم الخطيئة الأولى التي انهوى فيها الإنسان، و القصيدة بمعيته، إلى الحضيض الأرضي البائس، مثلما ما هو قائم في تجربة شاعر آخر هو شارل بودلير، أو عند قعر / قمة الهاوية السحيقة و العمياء التي هي برزخ مرور الإنسان، برفقة القصيدة، إلى اللب من شرطه الإنساني، بمعنى أن (ما كان يشغل هؤلاء هو العمق الذي لا يني يلح عليهم و ينتظر استكشافهم له، طيّ أمدائه، و ترويضه) . (5)
أخيرا لا بأس في أن نعبر عن بعض الأفكار، المنصبة على ما يمكن اعتباره مرجأ في هذه الشعرية، و التي عنت لنا و نحن نتابع، في حدود الإمكان، إنجازاتها الأساسية و انعطافاتها الكبرى متابعتنا لمآزقها و لحظات انحباسها كذلك، أي لسيرورتها الذاتية المنصاعة، بقوة الأشياء، لنفس السنن الموجه للشعريات الإنسانية بكاملها.
وهكذا فرغما من خصوبة الحقل الشعري الذي لا يكف عن بلورة أسماء و تجارب لا تخيّب، في معظم الأحيان، التوقعات، و اطراد محصول الإصدارات الشعرية المغربية في السنوات الأخيرة و انتعاش سوق التداول الشعري، قراءة و نقدا و تناظرا و تناديا، و تنامي معدل نقولات الشعر المغربي إلى لغات عالمية، و تولّي جمعيات ثقافية و إبداعية ك "اتحاد كتاب المغرب" و "بيت الشعر في المغرب" و "الشعلة " و "الغارة الشعرية ".. المسألة الشعرية في المغرب بروح مجددة، ابتكارية، بله اقتحامية، ممّا تشهد عليه أنشطتها و فعالياتها في هذا النطاق، مع ذلك، و في الوقت الذي لم تعد فيه الجامعة المغربية، كما كانت عليه الحال في عهودها السالفة، مشتلا لإنجاب القرائح و الكفاءات الشعرية، هناك، في ظننا، حاجة ملحة إلى نهوض الجمعيات المذكورة، المؤهلة مؤسسيا و تنظيميا لهذه الغاية، بمأمورية استكشاف العديد من المواهب الشعرية المهدورة في الحرم الجامعي و الأخذ بيدها و إعدادها، نظريا و مختبريا، للالتحاق بالنادي الشعري المغربي العام، نفس حاجة المجال الشعري إلى شيء من التخليق و التمنيع سيان ضد آفات الاستسهال الكتابي و النمطية و الاجترار و الكسل المعرفي و الروحي، دفعة واحدة، أو ضد أخلاقيات التمركز الشعري و إقصاء الآخر و معاداة الاختلاف.
خارج هذا الملحظ، و من حيث التعاطي الإبداعي مع المحلية، بما هي البوابة الشرعية للكونية، التي تحدثنا عنها آنفا، فلا محيد لنا عن الإقرار بأن المغرب لم ينكتب بعد شعريا بكيفية جذرية و مقنعة، سواء كجغرافيا أو كتاريخ، كرموز و توضّعات، كمتخيل و مرويات، إذ تم الاقتصار على مناوشته شعريا في تجارب معينة بينما لجأت أخرى إلى الصدود عنه بالمرة. أمّا بخصوص التعاطي الاسترجاعي مع الشعر الإنساني، و بغض الطرف عن الجهد الملموس الذي بذل، عبر أجيال مختلفة، للتعرف على جغرافيات شعرية عالمية، ذات قيمة أكيدة، و استرفاد إبداعيتها بما يسند النص الشعري المغربي و يغنيه، ما انفكت مرجأة، إلى حين، جهود أخرى مضاعفة لا من أجل التعرف على بقاع شعرية تكاد تكون غير مطروقة من قبل هذا النص، مثل الشعرية الاسكندنافية و السلافية و الغجرية و الأمريكية اللاتينية و الصينية و البنغالية و الأوقيانوسية.. و إنما أيضا بغاية مد الجسور نحو أسماء شعرية عالمية لامعة إمّا لم تستثمر كشوفاتها و إنجازاتها، أصلا، في هذا النص، دائما، أو أنها لم تستثمر بشكل أمثل في أضعف الأحوال، و منها البرتغالي فرناندو بّيسوا و الإيرلندي شيموس هيني و السويدي طوماس ترانسترومر و الروسي بوريس باسترناك و الإنجليزي تيد هيوز و الأمريكية سيلفيا بلاث و البيروفي سيزار فاييخو و الأنتيلي إدوار غليسان و اللبناني صلاح ستتيه..
1 - سيرغي فاسيلييف: مستويات فهم النص، ترجمة: عاطف أبو جمرة، مجلة (المعرفة)، السنة 23، ع 270، غشت 1984، ص 163. 2 - محمد الأسعد: الهوية كنص ممكن، مجلة (الفكر العربي المعاصر)، ع 17، دجنبر 1981-يناير 1982، ص 102. 3 - Michael Riffaterre: L'illusion référentielle, in Littérature et réalité, collec, coll. Points, Ed. Seuil, paris, 1982, p. 92 4 - Jean-Pierre Richard: Onze études sur la poésie moderne, coll. Points, Ed. Seuil, paris, 1964, p. 9 5 - Jean-Pierre Richard: Poésie et profondeur, coll. Points, Ed. Seuil, paris, 1955, p. 10