كم هو دافئ هذا الحضن المسمى "كتابة"

إكرام عبدي

قادمة من تخوم القلق والسؤال، ولا أبغي سوى أن أكثف من نعومة العالم وأعيد الماء والرونق لواقع عقيم طافح بكل معاني اليباس واليباب والقتامة. فساعدني يا إيروس ويا أدونيس ويا كل الآلهة على معاندة هذا القدر البيولوجي الذي يحاصرني، فأنا أنثى أمارس بوحي كأنثى ولا أستحيي من جسدي، ولي خصوصيتي، ولي بهائي ومقوماتي الجمالية، ولي لغة قد تشبهني أحيانا وقد تخالفني. فما تطمح إليه المرأة العربية الكاتبة هو كتابة متميزة مختلفة بعيدة عن كل تنقيص أو تحقير أو تهجين مقابل الآخر الرجل، بعيدا عن كل تصنيف أو تجزيء: "فالعقل العظيم لا يحمل نوعا، فإذا تم هذا الانصهار النوعي يغدو العقل في ذروة خصوبته ويشحد كافة طاقاته" (كوليدرج)؛ كتابة تحمل ملامح من أنوثتها ووهج وتوقد روحها وجذوة فكرها، وحين ينجلي لكم بعض من هذا التفوق احذروا أن تسحبوا من تحت أقدامها سجادة الأنوثة ودسها في صف الرجال، أو الزعم بأن في كواليسها رجلا يملي وينقح (قضية سنية صالح وزوجها محمد الماغوط).
أقلام جعلت من أعمالها الإبداعية ناطحات سحاب تتقب غشاء أوزون هذا العالم المترهل البطريركي، وتحطم كل تلك الخيام التي تسكن عقل المجتمع العربي: أحلام مستغانمي، غادة السمان، نوال السعداوي، ليلى العثمان..؛ أقلام جعلت الرجل الناقد أو المتلقي يذعن لها بكل احترام واعتراف، يعترف أمام الملأ بجدارتها وتميزها، ولا يكتفي بالمرور مرور البخلاء على نصوص عله يجد ما يسعفه في بناء عبارة جميلة أو إطراء طريف يليق بجمال الكاتبة، بل يعاشر هذه النصوص معاشرة كاملة، ينصت بعمق لنبضها، يكشف عن مقوماتها الجمالية بكل جدية وموضوعية وحيادية. فتتكسر أحلام المرأة الكاتبة على عتبة هذا الواقع الثقافي الموبوء، وتتكسر على عتبة بيتها كأم وزوجة، تسترق النظر خلسة وعن بعد لمكتبة زوجها بحسرة وألم، فنادرا ما تلج هذا الباب السحري، فقد تنازلت منذ زمن عن "غرفتها الخاصة"، تلك التي ناضلت من أجلها فرجينيا وولف: "إن النساء لكي يكتبن بحاجة إلى دخل مادي خاص بهن وإلى غرفة مستقلة ينعزلن فيها للكتابة"، لتعود بسرعة إلى المطبخ خوفا من احتراق الأكل ولا أحد سيلمس لها العذر. كلما حاولت الإمساك بفكرة شاردة أو صورة شعرية جميلة، يجول بفكرها موعد العشاء وماذا ستطبخ للأولاد. عليها توزيع الابتسامة على الضيوف حتى لو كانت منهكة كي تكون تلك المرأة المضيافة؛ عليها توفير الهدوء للزوج الكاتب، فالكتابة بالنسبة له أساسية لكن بالنسبة لها ثانوية، للأسف ضاعت تلك الصورة التي ظلت طيلة اليوم ترصصها وتنقحها بمجرد تذكرها لموعد اجتماع في مدرسة ابنتها، فوضى في البيت لا أحد سيلمس لها العذر إن تركتها كما هي، لكن هل هناك من يشعر بفوضاها الداخلية؟