انطلقت في بناء هذه الورقة(1)، من معاينتي المتواصلة لمسار اتحاد كتاب المغرب. وقد كان ارتباطي بالاتحاد قد عرف صورا من التواصل والعمل، مكنتني من الإحاطة بكثير من جوانبه المؤسسية، ونوعية حضوره الثقافي. كما أتاحت لي التعرف على طبيعة العوائق التي تعطل اليوم أداءه المؤسسي، بحكم جملة من العوامل ليس هنا مجال تسطيرها والخوض فيها.
ظل اتحاد كتاب المغرب منذ تأسيسه، سجين تقاليد ترتبت عن حيثيات لها صلة ببدايات تكونه وتطوره. ولم يجد خلال عمره الذي يستكمل الآن خمسة عقود من الزمن، الإرادة الكافية للقطع مع هذه التقاليد، وخاصة بعد تناسل هيئات ثقافية موازية له في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وهي هيئات حملت في قلبها جزءا من أعماله وبرامجه، كما قام بتشكيلها أعضاء منتمون إليه. "أظن أنه علينا أن نكون أكثر صراحة، وأكثر وضوحا، أكثر صراحة وأكثر وضوحا، أمران قد لا يجتمعان دائما". موريس بلانشو
زاوجت في علاقتي بالاتحاد، بين العمل في إطار تظاهراته وأنشطته الثقافية، وبين المساهمة في إطاره المؤسسي، حيث كنت ومازلت عضوا فاعلا في التحضير لمؤتمراته المتعاقبة، كما ساهمت في تركيب بعض أوراق العمل داخل هذه المؤتمرات. وقد أهلني ما سبق ذكره، للإحاطة بالأوجه والعلامات الفاصلة في تاريخ الاتحاد. وتبينت قدرته على مواصلة عطائه وإنجازاته، رغم التحولات الكبرى التي كانت تقع في بنية الثقافة المغربية، وبنية القيم داخل المجتمع المغربي ككل. وإذا كنا نعرف الحساسية الكبرى للمبدعين والكتاب، وقدرتهم الفائقة على استكناه خبايا الزمن، بحكم احتفائهم بمكاسب التخييل، وقدرتهم على التوغل بعيدا في الاستماع الى الأصوات والإشارات القادمة من ثنايا الزمن، حق لنا أن نتساءل عن أسباب هذا الذي حصل اليوم في الاتحاد؟ لقد كانت المسألة واضحة تماما، وما حصل في نظرنا بسيط وقابل للفهم والتجاوز. و خارج الذوات المتضخمة، نستطيع أن نتبين بساطة ما حدث، بل نستطيع أن ندرك ملامحه العامة في صور عديدة، منذ عقدين من الزمن على الأقل، أي منذ الولاية الثانية للأخ محمد الأشعري سنة 1991، حيث يمكن أن يتذكر أعضاء الاتحاد الأسئلة المطروحة اليوم، طرحت إذ ذاك، إلا أن قيود الماضي الصانعة لاسمنت الاستمرارية، كانت تستبعد تطاير الشظايا واشتعال الفتن، دون أن ننسى تأثير أفعال التداوي بالتواطؤ، بالتوافق وبالوعود المطمئنة، ذلك أن أساليب العمل الجارية، ونوعية الأعضاء الفاعلين في المؤسسة، تسمح بهذا النوع من الأفعال، بناء على عهود ومواثيق أغلبها غير معلن بين الأعضاء.
مأزق الاتحاد برواية أعضائه
تابعت حماية المأزق الذي عرفه الاتحاد بعد المؤتمر السابع عشر، وكان الرواة من أعضاء الاتحاد يركبون آراء وانطباعات متنوعة. وقد مكنني الإخوة في المكتب التنفيذي من ملف كامل(2)، حول ردود الفعل التي عبر عنها الكتاب طيلة السنة الماضية. فوجدت نفسي أمام ما يقرب من مئة مقال في موضوع حال الاتحاد اليوم، وقد قمت بمراجعة مواد هذا الملف بعناية، محاولا بناء تصور واضح للأزمة وسياقاتها، وكذا تداعياتها في الراهن الثقافي المغربي. كما حاولت في نهاية هذه الورقة بناء مقترحات تسعف في تخطي المأزق الراهن.
لا ينبغي أن نغفل هنا الإشارة الى أن المقالات التي نشرت، كانت تتضمن أيضا ملاحظات هامة لبعض الأعضاء الذين سبق لهم أن كانوا على رأس الاتحاد، أو كانوا ضمن الهياكل التي تستوعبها تنظيماته. وقبل أن نكشف نتائج قراءتنا لآراء أعضاء الاتحاد، في طبيعة الأزمة الحالية وكيفيات تجاوزها، نشير الى أن أغلب هذه الكتابات اتسمت بما يلي:
هناك نوع من المبالغة في وصف مظاهر الأزمة، وهي مبالغة وصلت أحيانا إلى درجة إعلان النعي المسبق للاتحاد، دون انتباه إلى أن التوصيفات الواردة في تعيين الأزمة لم تعد أمرا مستجدا في تاريخ المؤسسات المماثلة للاتحاد، وهناك اليوم من يكتب في تبجيل الأزمات، بحكم أنها تتيح متنفسا لإعادة بناء الفضاء المأزوم.
لم يستطع بعض المواقف والآراء، التخلص من هيمنة الذاتي والعرضي، ويتم فيها تغييب الأبعاد البنيوية الموصولة بالفضاء الثقافي المغربي، والمرتبطة في الوقت نفسه بمسار الاتحاد، وأشكال انخراطه في المشهد الثقافي المغربي، وكذا علاقاته المتعددة بالتحولات السياسية الجارية في بلادنا.
وضعت بعض الكتابات يدها على الأوهام التي ترسم للاتحاد ولهويته خطوطا معينة ومغلقة، مغفلة أن الزمن تغير، وأن القيم بدورها تعرف أشكالا من التوتر الانتقالي، الذي يدعو إلى ضرورة الانتباه إلى أن التغيرات القائمة في بلادنا، تستدعي مؤسسة قادرة على استيعاب التحولات المذكورة، وقادرة في الآن نفسه، على إيجاد نوع من المواءمة بين مشاريعها في العمل وبنيتها المؤسسية، وطبيعة التحولات الجارية.
ومقابل النظرة العدمية التي عكستها بعض الآراء، كانت هناك آراء تتجه لبلورة تدابير انتقالية واجراءات قابلة لجعل الاتحاد مؤسسة قادرة على استئناف مسيرتها. ونكتشف في هذا الموقف، محاولة لتجاوز مظاهر العطب الحالي، وبناء مخارج تمكن الاتحاد من مواصلة حضوره وإشعاعه داخل المجتمع. حصل في رواية أعضاء الاتحاد إجماع على كلمة الأزمة، وقد وردت هذه المفردة بمرادفات لا حصر لها، جمعت بين الاشارة إلى المعطى الاجتماعي والاستعارة، وتشخيص التناقضات، وكذا التلويح لبعض الانتقادات إلخ.. نذكر من هذه المرادفات مايلي:
الأزمة، المأزق عنق الزجاجة، صراع الأجيال، انفجار منظومة القيم التقليدية، تكسير سطوة السياسي على الثقافي، الاستجابة لمنظومة الحداثة، أوهام المنظمة ذات المنفعة العامة، المقر الجديد والمقر القديم والمقر المرغوب فيه، العلاقة مع الآخرين، انتهاء زمن القصور، التطلع لمؤسسة قائمة الذات، التخلي عن بيانات المثقفين الذيلية والتابعة، توسيع وتوسع دائرة الكتاب ثم دائرة العضوية، عودة اتحاد الكتاب أم اتحاد المبدعين؟ كل هذا صنع ملامح هذا الذي يقع أمامنا ونؤطره اليوم، لعلنا نساهم في حله برفعه، أو المساهمة في رتقه للتمكن من التدابير التي تؤدي إلى تجاوزه.
التفكير في الأزمة وسياقاتها غالبا ما يطلق مفهوم الأزمة في التداول العام، بصورة لا تساهم في ضبط وتحديد المجال المأزوم والمتأزم، بل إن مفهوم الأزمة يراد منه، في الأغلب الأعم، أن يكون مرادفا للكارثة، أي للوضعية غير المرغوب فيها. وفي هذه الحالة تختلط العناصر الذاتية في التحليل بالمعطيات الموضوعية، مما يؤدي إلى البلبلة الفكرية، ويحول المفاهيم من أدوات للفهم والتواصل، إلى أدوات للتشويش الفكري، الذي لا يسعف في تشخيص الظواهر، واستيعاب المعطيات.
لتجنب مثل هذه الاستعمالات، نشير إلى أننا حاولنا التفكير في تجليات ما يسمى بأزمة اتحاد المغرب، انطلاقا من وعينا بالدلالة المركبة لمفهوم الأزمة، حيث تصبح الأزمة مناسبة لتشخيص الخلل المؤسسي، بالصورة التي تسمح بتداركه. وإذا اقتضى الأمر إعادة بناء المؤسسة، بالوسائل التي تسمح بوضع مسارها في الإطار المناسب.
ونستطيع القول، إن مظاهر الأزمة في الاتحاد تحددها ظاهريا، ملامح التوتر التي نشأت بين أعضاء المكتب التنفيذي، وأدت إلى توقفه عن العمل. إلا أن عمقها يتحدد في الخلل العام الذي لحق نظام العمل داخل المؤسسة. وهو في تصورنا خلل مؤقت وعارض، تتولد عنه في سياق التطور والتحول، ممكنات قادرة على إعادة صياغة نظام العلاقات، ضمن زمانية مفتوح على التحول المتواصل.
يشكل المفهوم أداة من أدوات مقاربة الظواهر، بهدف تشخيص مختلف أبعادها. إنه أداة لا ترى في علامات الأزمة أعراضا مرضية، بل تنظر إليها كمسألة حيوية داخل النسق المؤسسي أو المجتمعي الذي نصفها به. إنها مسألة موضوعية ويلزمنا التعايش معها. وتقضي المنهجية التي تنتج عن هذا المنظور، أن نعمل على تشخيص معطيات الأزمة وتحليل أبعادها، للتمكن من الوصول إلى ما يمكن أن يساعد على حسن إدارتها، وتدبير النتائج المترتبة عنها، أو المحتملة الوقوع من جراء استمرارها، واستمرار توالدها.
ولاشك أن التدبير الذي عرفته الأزمة داخل الاتحاد، قد أدى إلى هذا اللقاء الذي نجتمع اليوم في إطاره، بهدف بناء الخطوات التي تقلص من تداعيات الأزمة الحاصلة، وتنقل الاتحاد إلى فضاء العمل، الذي يتم في إطاره التهييء للمؤتمر الانتقالي النوعي، الذي نفترض أنه سيعيد التوازن إلى الاتحاد وإلى آلياته في العمل.
لقد تخلص مفهوم الأزمة المعاصرة، من الشحنة التي كانت تمنحه دلالة تفوق حجمه الفعلي وأصبح يشير إلى المظاهر التي توقف أو تعطل آليات العمل، كما يستوعب مبدأ التفكير في الاجراءات الكفيلة ببناء العتبات المؤدية إلى تجاوز ما كان يشكل عوائق في طريق مواصلة العمل.
ولابد من الاشارة هنا، إلى أن المحتوى الجديد لمفهوم الأزمة ودلالاتها، يرتبط بتصور للمجتمع ومؤسساته، قائم على انفتاحه وقابليته للتغير والتطور. كما يرتبط بتصور نقدي للمعرفة، والتصوران معا يعتمدا الأوليات الفلسفية الناظمة للحداثة.
وإذا أردنا أن نفهم ما جرى وما يجري في الاتحاد بصورة جيدة، فإن الأمر يستدعي في تصورنا التذكير ببعض المعطيات، ثم العمل بعد ذلك، لبحث سبل الانتقال إلى بداية التأسيس لما يمكن اعتباره تحولا نوعيا مطلوبا للتجاوب بصورة أفضل مع مقتضيات التغيير، التي تعرفها الثقافة والمجتمع والمؤسسات في بلادنا، كما تعرفها تحولات القيم في عالم متغير.
لم يكن أمر استمرار الاتحاد طيلة خمسة عقود من الزمن في تاريخ الممارسة الثقافية المغربية، وفي انحياز لمشروعها المستقبلي في التقدم والإبداع والتحرر، أمرا هينا ولا بسيطا، وفي كفاح أولئك الذين تحملوا مسؤولية مكاتب الاتحاد، ومسؤولية تدبير أنشطته الثقافية، ورسائله السياسية المتواصلة ما يعكس وبدون مبالغة حيوية واحد من أبرز وأهم مؤسسات المجتمع المدني الثقافية في بلادنا، وخاصة في الزمن الذي كان يعاني من ندرة هذه المؤسسات، أو افتقارها متى وجدت للأهداف الفكرية والسياسية التي التزم بها.
حرص اتحاد كتاب المغرب، أن يظل فضاء للحوار الثقافي الأكثر حداثة والأكثر تاريخية، معززا ومدعما جبهة الفكر النقدي، وعاملا على ترسيخ فعل التجريب المبدع في مجال التخييل، وإنشاء فنون القول الجميل إبداعا ونقدا وتشكيلا. كما عمل على تأطير كل هذه الأشكال من النشاط الثقافي والفني، رغم شح الموارد المالية، وانعدام الوسائل والأدوات المساعدة والمشجعة. وظلت المنح الصغيرة التي كان يتلقاها من الوزارة الوصية على الشؤون الثقافية، وكذا المساعدات التي كانت تقدمها بعض الهيئات الداعمة للعمل الثقافي الملتزم، اضافة إلى اشتراكات الاعضاء التي تقدم قبل انعقاد المؤتمرات، ظلت هذه الموارد المحدودة والبسيطة هي الوسائل التي تمنحه إمكانية الاستمرار ومواصلة العمل.
عاد سؤال الاتحاد إلى الظهور في نهاية العقد المنصرم، وساهم في عودته بصورة جديدة، مجموعة من المتغيرات التي لحقت المشهد السياسي والمشهد الثقافي في بلادنا. اضافة إلى المتغيرات العالمية التي دفعت ولاتزال تدفع في اتجاه إعادة النظر في التاريخ، وفي أدوات المثقفين والكتاب داخل المجتمع، في زمن يتسم بملامح وسمات تختلف كلية عن ملامح الأزمنة التي نشأ فيها الاتحاد وتطور، وذلك دون أن نغفل النتائج الذاتية الخاصة والمرتبطة بتطور تجربة الاتحاد بالذات، حيث يمكن الحديث عن نتائج تجربته في عمليات التحول السياسي والثقافي، القائمة والمحتملة الحصول في المستقبل المنظور. أقصد بذلك الدعوة إلى تقييم تجربة الاتحاد من الداخل، والعمل على كتابة تاريخه، وكذا التفكير في مستقبله، ويمكن أن ندرج هذا ضمن جداول اعمال الاتحاد في المستقبل القريب.
ولأننا نؤمن بضرورة الاتحاد، وضروة استثمار مكاسب تجربته في الفعل الثقافي الجماعي، فإننا نؤمن في الوقت نفسه بضرورة تطويره على ضوء المخاضات والاسئلة الجديدة، التي تدور اليوم في مجتمعنا وفي افقنا الثقافي.
إننا نربط حاجتنا الى الاتحاد بمبدأ اساسي، يتمثل في ضرورة تطوير أشكال حضوره الثقافي، وأدائه المؤسسي في المجال الجمعوي. فأمام المنافسة المتزايدة في المجال الثقافي المغربي، ينبغي التفكير في كيفيات تفعيل ادوات العمل الثقافي في الاتحاد، بالصورة التي تمنحه حضورا يناسب نوعية التحول التي يعرفها الفضاء الثقافي ومجال المعرفة والفن في بلادنا في مطلع الالفية الثالثة.
لم يتمكن الاتحاد في نظرنا من اداء هذا الدور، الا بفتح نقاش جدي اولا حول تجربته التي صنعها الجميع، وتوافق حولها الجميع، ومن حق اعضائه الجدد والقدامى، ان يصوغوا اليوم في تجاوب مع الاحداث الجارية في بلادنا، ابرز خلاصاتها وبكثير من الشفافية، مع الحرص على استعمال المبضع النقدي، من اجل الاستفادة من تجارب الماضي، و العمل على رسم الخيارات الجديدة للاتحاد.
الازمة واجراءات التجاوز
بناء على ما استعرضنا من توضيحات حول ازمة الاتحاد وسياقاتها المختلفة، كما وردت في روايات اعضائه، وانطلاقا من توضيحنا لدلالة مفهوم الازمة في التحليل الاجتماعي والمؤسسي في الفكر المعاصر،نقول، ان الواقع الحالي للاتحاد يستدعي محاولة للتخلص مما فات رغم صعوبة ذلك.
إن التخلص المقصود هنا، ارادة وفعل، ينطلقان من مبدأ تجاوز اشكال التعثر الطارئة. وقبل تقديم التدابير والإجراءات اللازمة لذلك، نشير الى أن هناك متغيرات اساسية ينبغي العناية بها، بحكم اهميتها، ونتيجة للادوار التي اصبحت تمارسها في الحياة الثقافية داخل كل المجتمعات.
لقد اصبحنا نعيش اليوم، امام مشهد ثقافي يزداد اتساعا وتنوعا، الأمر الذي يتطلب ابتكار ادوات مناسبة، وقادرة على الإحاطة بمختلف الوان المشهد الثقافي. كما ان التطور الذي تعرفه بلادنا، في مسلسل الصراع من أجل اتمام عمليات الانتقال الديمقراطي، تدعونا الى المساهمة في جعل الثقافة وسيلة من وسائل التنوير، الملائمة لاسئلة التغير في مجتمعنا
هناك متغير آخر، يتعلق بالخلخلة الحاصلة في منظومة القيم في مجتمع يتعولم، مجتمع لم يعد محكوما باواصر وقيود التقليد وحدها، بل اصبحت تتجاذبه اقطاب اخرى، افرزتها عمليات التعولم الثقافي والاقتصادي التي تكتسح العالم، وهنا لا ينبغي ان يستمر الاتحاد في العمل بالمثاليات والطوباويات، التي كانت تمنح الكتاب والمثقفين ادوارا تفوق حجم فعلهم وافعالهم التاريخية.
إن النظرة التي كانت للكتاب في زمن الستينيات والسبعينيات، وهو زمن بدايات الاتحاد، لم تعد تناسب الأحوال،والمتغيرات الجارية.
فالفاعل الثقافي اليوم، يقف بجوار فاعلين آخرين، والمجتمع لا يتحرك بمفعول فعل فاعلين من فئة اجتماعية بعينها، بل ان تعاضد افعال مختلف الفاعلين بتنوع مشاربهم، يعد المنظور الانسب في فهم وضعية الكاتب الفعلية، ويساهم في تقليص الرؤية الروحانية للمثقف.
هناك متغير، ثالث، ينبغي ان يحضر عند تفكيرنا في تدابير الانتقال نحو اتحاد الكتاب المغرب قادر على مواكبة متغيرات عصرنا. ونقصد بذلك متغير الثورة المعرفية، المتمثل في التحولات التي حصلت بفعل تقنية المعلومات، وما تولد عنها من نظرة جديدة لدور المعرفة في التنمية الانسانية الشاملة.
يمكننا هذا المتغير من الاعداد لمؤسسة ثقافية،قادرة على حمل تبعات افق مؤسسي، لم يعرفه الاتحاد عندما كان يمارس نشاطه في الماضي بوسائل محدودة، وباساليب لا علاقة لها بها اصبح اليوم مطلوبا، في زمن تنوعت فيه اساليب وطرق الفعل الثقافي الفاعل في بنية المجتمع.
تدفعنا هذه المتغيرات الى تجاوز ومغادرة النمطية السائدة في عمل الاتحاد، وذلك من أجل بناء قواعد جديدة في اشكال المقاربة، وفي بناء الأنشطة الاكثر قربا من رياح ازمتنا. و لكي نتقدم اكثر، أقترح القيام باجراءين اثنين: اجراء مرحلي أول في تدبير الحال، ثم إجراء مرحلي ثان في تدبير المآل، وهو اجراء يؤشر على أفق التجاوز.
لنبدأ بالاقتراح الاولي الاول، وهو اقتراح يسلم بان الوضع الحالي للمكتب التنفيذي، يتيح امكانية الانخراط في انجاز برنامج عمل مكثف، يتجه لتدارك بعض فراغ الزمن الفائت، خاصة وان المجال الثقافي المغربي، يعرض اليوم امام المؤسسات الثقافية، فضاء لابتكار الانشطة القادرة على تعميم النتائج العديدة، التي يتيحها الانتاج الثقافي المغربي في مختلف تجلياته واشكاله.
لا مجال اذن، لتضييع الوقت في المهاترات وخلق التموقعات، بل ان افعالا ثقافية منفتحة على قضايا ذات اهمية في الواقع المغربي، تمكن الاتحاد من التحول الى قطب في الفعل الثقافي، القادر على تحريك المياه الراكدة، وتحويل مجاري الثقافة الى روافد متدفقة، وصانعة لمزيد من ترسيخ الوعي بالمكونات الدافعة لاخصاب المشهد الثقافي.
وفي قلب هذا الفعل، يشكل المكتب التنفيذي لجنة لصوغ افاق تطوير مؤسسة الاتحاد بصورة جديدة، حيث تتمكن هذه اللجنة خلال هذه السنة، من رسم الخطوط الكبرى للملامح المؤسسية الجديدة، التي توضع امام المؤتمر القادم للبت فيها، بالشكل الذي يمنح الاتحاد القدرة على مواصلة افعاله في تفعيل الثقافة المغربية، والدفع بها نحو مزيد من التفاعل المنتج مع مختلف بنيات المجتمع المغربي.
أما المقترح المرحلي الثاني، فإنه من تصورنا يبني الترجمة الفعلية للتحول الاول المرتقب، وهو يتأسس انطلاقا من المؤتمر القادم، الذي يهيء له المكتب التنفيذي الحالي بجرأة وشجاعة، ليرفع كل اشكال التشوه، التي يمكن ان تكون قد لحقت مؤسسة الاتحاد في اعين البعض
لكن كيف نهيء للمؤتمر؟
يتيح لنا المقترح المرحلي الاول، وخاصة عندما تغطي منجزاته المشهد الثقافي بكثافة وحسن اختيار، امكانية بناء جسور صانعة لمؤتمر انتقالي، نوعي، ولا نقول استثنائي ولا عادي، بل نلح على أن يكون المؤتمر القادم مؤتمرا انتقاليا نوعيا.
ونقصد بالنوعي هنا، البعد المؤسسي الجديد الذي سيرتب الملامح المقترحة لهوية الاتحاد، وافاق عمله في
المستقبل. كما نقصد بالانتقالي، الطابع الفاصل بين الاتحاد، وقد استمر الى حدود الراهن يحمل لغة وهوية واهدافا، اغلبها موصول بفضاء الزمن انطلق فيه المشروع وتأسس ثم تقعد، وبين المؤسسة الجديدة الصانعة لافاق جديدة في زمن مغاير.
اننا لا نتصور ان يشبه اتحاد كتاب المغرب في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين الصورة التي اتخذها في ستينيات القرن الماضي، والصورة التي اتخذها في سنة 1976، عند اصدار مؤتمرها الخامس لميثاق الشرف. وكان يرأسه اذاك الاستاذ محمد برادة، فهناك اختلافات عديدة تمنع حصول تطابق بين مختلف هذه الصور، فالاسم واحد، والفعل متنوع، والتوجه توجهان ان لم يكن اكثر، ومن هنا اقتناعنا باهمية تطوير العمل في المؤسسات، التي تحرص على التفاعل الايجابي مع مجتمعها ومع المتغيرات التي تلحقه.
إن اللجنة التي اقترحنا في المقترح المرحلي الاول، ستبني هيكلا من التصورات المساعدة على بناء قواعد انطلاق جديدة، من قلب كل ما فات،ومن اجل تجاوز كل ما كان يشكل كوابح امام تجديد الفعل المؤسسي، وهنا يمكنا أن نتصور ان مواصلة الاتحاد لمسيرته، تقوم على وعي اعضائه بأن الزمن لم يعد هو الزمن، وان المعرفة لم تعد هي المعرفة، وان مساحة الابداع اتسعت، وكم الانتاج تضاعف، وادوات الثقافة اصبحت تصنع في المشهد الاعلامي، وفي اطار ما توفره تقنيات المعلومات من فضاءات افتراضية جديدة، تشي ببداية تشكل عوالم تستدعي مؤسسات بأجنحة، اي مؤسسات قادرة على الطيران. كما ان القيم تستدعي اليوم شكلا اخر من الوعي بمضامينها.
إن الوعي بالمضامين الجديدة لما ذكرنا، يضع الاتحاد في قلب التغيرات، فيكون جزءا منها ويكون قادرا على استيعابها، والعمل في اطارها والفعل فيها، وذلك بتوليد الطرق المساعدة على تكييف ادوات النشاط الثقافي معها. وان اقتضى الامر ابداع الوسائل المطابقة لمقتضيات الازمة الجديدة والفاعلين الجدد.
سنشخص ما جاءمجردا وعاما في الفقرة السابقة ونقول ان الصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية في مغرب العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين تزداد وضوحا الامر الذي يتطلب ان يكون للفعل الثقافي والمؤسسات التي تحتضنه وتدبره قدرة على صناعة الافعال الملائمة لروح ما يجري في قلبه. إننا نعيش اليوم في منعطف تاريخي، يدعونا بكل محمولاته في القيم وفي التاريخ، الى أن نتخلص من كل التقاليد المؤسسية والتصورات الفكرية، التي نعتقد ان زمانها قد انتهى. فهل يمكن ان يسعفنا المؤتمر القادم، بوضع اللبنة الأولى،في مسار نقف اليوم على عتباته،و نتهيب من ولوج ابوابه...
مفكر من المغرب
هامش:
-1نص التقرير التركيبي الذي قدمه الأستاذ كمال عبد اللطيف في دورة المجلس الاداري لاتحاد كتاب المغرب المنعقدة يوم السبت 16 يناير 2010.
2 ـ يضم الملف 97 مقالة، وقد صدرت في أغلب الصحف المغربية بالعربية والفرنسية،إضافة إلى بعض الندوات التي صدرت في صحف من خارج المغرب،وحلقة تلفيزيونية قدمت في القناة الثانية.