قصيدة النثر بالمغرب: التشكل والامتداد
قِيل إن النقاش الذي أثارته قصيدة النثر، في النقد الأدبي، أو الثقافة العربية ككل، أكثر من النقاش الذي أثارته قضية في غاية من التعقيد القومي والتشابك الإنساني؛ وليس من شك في أننا نقصد، هنا، إلى "القضية الفلسطينية" قبل أن تنتهي، إلى ما انتهت إليه، خلال السنوات الأخيرة، من "تبعثر" على مستوى "الموقف" الناظم للخطاب السياسي، السائد، في العالم العربي. ويهمنا أن نشير إلى أن هذا القول لا يخلو، وبدءا من مستواه الظاهري، من "سخرية" هي ذات السخرية التي تقع في الأساس الوجودي/ المعرفي لهذه القصيدة، وعلى الرغم من تشكيك الكثيرين في أن يكون لهذه الأخيرة "أساس" من هذا النوع. وحتى إن كنا، بدورنا، لا نسلم، ونسلم في الوقت ذاته، بهذا التصور، وعلى ما في هذا "الحكم" من تناقض ظاهري، فإن الحديث عن هذه القصيدة لا يخلو في أحيان، وأحيان كثيرة، من أحكام مسبقة وتصورات منمطة لا تستجيب، أبدا، لـ"الأفق" الذي اختطته هذه القصيدة في دنيا الشعر الحديثة. ولعل ما سلف ما لا يجعل الحديث عنها لا يحيد عن موقفين حديين، هما: "موقف القبول المطلق" وغالبا ما يكون متحدرا من المدمنين عليها من شعرائها الأوفياء ومن الدارسين لها من المؤمنين بقيم "التجريب" وعلى ما قد يعتوره، في أحيان، من "تخريب". و"موقف الرفض المتشنج" الذي يتحدر من نوع من "الأصولية" (الثقافية) التي لا تملك، في النظر الأخير، "رؤية نقدية" بإمكانها الاستجابة لمجمل التبدلات التي مست أشكال الإدراك ومقولات التفكير في العالم ككل. هذا بالإضافة إلى ما يمكن نعته بـ"الموقف الوسطي" لنقاد مترسخين في خريطة النقد العربي موزاة مع ردود شعراء مكرسين في شعر التفعيلة، وهو موقف كثيرا ما يتكشف عنه، وعلى مستوى الأذهان لا الأسماع إذا جازت عبارة الفقهاء والمناطقة، نوع من التحيز لغير هذه القصيدة. والظاهر أن الاستجابة، "المتصدعة"، وللمناسبة، لقصيدة النثر، ناجمة عن "الرجة" التي أحدثتها هذه الأخيرة، وما تزال، وبوتائر متسارعة، وإن من خلال نماذج معدودة، في بنيان الشعر العربي، ومنذ أواخر الخمسينيات وبشكل أكثر حدية بعد هزيمة العام السابع والستين وما رافقها من "خرائب تاريخية" في مقدمها "انكسار المشروع القومي"، وعلى النحو الذي يمكن الحديث معه، الآن، عن "أجيال متتالية"، و"حلزونيا" لا "كرونولوجيا"، لازمت هذه القصيدة في تاريخها أو، بالأحرى، "لاــ تاريخها" المتصدع. هذا بالإضافة إلى المكانة التي حازتها هذه القصيدة في الشعر العربي المعاصر إذ صارت في "متنه" لا في "هامشه"، هذا إذا ما لم نقل بأنها صارت تمثل "متن" هذا الشعر كما يذهب إلى ذلك البعض. وحتى إن كان البعض يتصور أنها "شعر ناقص"... فإنها تمكنت من أن تنسج لذاتها "حضورها المستقل"، وأن تسهم ــ بالتالي ــ وبطريقتها ــ في الإسهام في "ترهين" الشعر في "حاضر" الثقافة العربية الحديثة. وكما أن "النقد" سالف الذكر هو ما لا يسلم منه، وإن بتفاوت، شعر التفعيلة ذاته الذي يتم الاتكاء عليه في "التنقيص" من قصيدة النثر. وهو ما عبر عنه شاعر كبير يتنفس قيم "التجريب" وهو الشاعر محمود درويش حين ذهب إلى القول في شهادة حول أحد أعمدة المرحلة الأولى في قصيدة النثر محمد الماغوط (1934 ــ 2006): "وإذا كانت [أي قصيدة النثر] تعاني من شيوع الفوضى والركاكة وتشابه الرمال، على أيدي الكثيرين من كتابها، فإن قصيدة الوزن تعاني أيضاً من هذه الأعراض، الأزمة إذاً ليست أزمة الخيار الشعري، بل هي أزمة الموهبة، أزمة الذات الكاتبة". وكثيرا ما تم استخلاص الرجة سالفة الذكر من فعل التقويض الذي مارسته قصيدة النثر على الأساس الذي يتقوم عليه الشعر، وهو أساس "الإيقاع الكمي" المرتبط بـ"النظم" أو "الوزن العروضي". ودون التفات إلى أن هذه القصيدة تمكنت من أن تنسج "إيقاعها المخصوص" أو "المضاد" وبسبب من تقويضها للإيقاع سالف الذكر. ولا يبدو غريبا أن تقود مثل هذه النظرة، وهي "نظرة جزئية"، أو "بعضية"، طالما أنها تركز على عنصر "الوزن" بمفرده ودون الالتفات إلى باقي العناصر المشَكلة للشعر إلى المقارنة بين "الشعر" و"النثر"، ودون أي نوع من الإشارة إلى أن التضاد، وفي هذه الحال، تعيينا، لا يكمن بين النثر والشعر ، وإنما بين "الجيد من هذا الأخير و"رديئه" إذا جاز أن نستخدم القاموس النقدي العربي القديم في منحاه "الأخلاقي"... ودون أي استحضار، كذلك، لـ"الجامع" بين النثر والشعر المتمثل بـ"الأدب" (ذاته) كما قال تزفتان تودوروف، في كتابه "شعرية النثر" (1971)، وفي سياق نقد جان كوهن الذي ميز، في "بنية اللغة الشعرية" (1966)، وفي سياق النظرية النقدية الغربية، بين الشعر والنثر وعلى أساس من "الإيحاء" كـ"خاصية" للشعر و"المطابقة" كـ"خاصية" للنثر. فالأهم أن تكون قصيدة النثر "قصيدة حقاً لا قطعة نثر فنية، أو محملة بالشعر" كما قال أنسي الحاج منذ زمان، وقد اشترط لذلك شروط ثلاثة: الايجاز والتوهج والمجانية (أو "اللاغرضية" كما يترجمها عبد القادر الجنابي)... وحتى إن كنا، ومع آخرين، نتصور أن هذه الشروط لم تعد "معبرة" عن نصوص أنسي الحاج نفسها ونصوص الأجيال التالية. يظهر أن قصيدة النثر تقع خارج تلك النظرة التصنيفية الطِلائية المبتسرة التي لا تستند إلى نوع من "التأثر المتبادل" الذي يصل ما بين "الكتابة النقدية" و"العمل الأدبي". ثم إن البحث عن "جمالها"، وهو، وللمناسبة، "جمال مخصوص" كما تقول منظرتها الرائدة سوزان برنار، يقع، في تصورنا، في "نصوصها" التي كثيرا ما يتهرب النقاد من "قراءتها" وبالمعنى "الفلسفي الاصطلاحي" للقراءة؛ تلك "النصوص" التي تؤكد "شرف الانتساب" للشعر في "خرائطيته" التي تتأبى على "المناظير العشوائية" أو "القراءات الأحادية". ودون أن نتغافل، هنا، عن أنه كثيرا ما تم العثور على "الكلام" وقليلا ما تم العثور على "النصوص" كما يقول ميشال فوكو في إشارة، وفي حال كلامنا، إلى نذرة النصوص الدالة، ومن باب "النقد المصاحب"، على قصيدة النثر وسواء في التجربة المغربية التي ستعنينا في ما تبقى من هذه المقاربة أو في التجربة العربية ككل التي لا نتصور أننا نحيد عنها. و"لكي يقع تغير لا بد من شروط" كما يقول ميشال فوكو الذي سلفت الإشارة إليه قبل قليل. ومن هذه الناحية ثمة "شروط"، وبالمعنى المبلور للمفهوم في "حفريات المعرفة"، جديرة بأن تشرح جانبا مهما من "الانقطاع المعرفي" الذي تعكسه قصيدة النثر في انغرسها في الخطاب الشعري. وفي هذا المنظور فهي، وفي التجربة المغربية، وقبل ذلك العربية، "بنت عصرها" أو "روح العصر" إذا جازت تسمية هيجل وعلى الرغم من "التشييء" و"التسليع" اللذين يطالان العصر تحت تأثير عمليات العولمة الكاسحة في محوها لـ"الهويات" الفردية والجماعية. وتكمن أهمية قصيدة النثر التاريخية، وبالمعنى السوسيولوجي للتاريخ، في كون أنها استطاعت، وبعلائقها اللغوية المتفجرة ونظرتها المتشظية، أو بمغايرتها الجذرية، أن تواكب "الأنمط الثقافية الجديدة" التي أربكت المفاهيم العضوية والأنساق المغلقة. ومن ثم فقصيدة النثر ليست نبتا غريبا في حقل الأدب العربي، وإنما هي نتاج "سياق ثقافي" أثبت "عجز" التفعيلة، وبعد فترة وجيزة من ظهورنها مقارنة مع القرون التي صمدت خلالها القصيدة العمودية، عن استيعاب الوقائع في نطاق الصلة المخصوصة التي تصل، وفي التاريخ وبالتاريخ وللتاريخ، ما بين الشعر والثقافة. وإشكالية قصيدة النثر، كما قال الشاعر العراقي الراحل والمتسكع جان دمو في حوار (مستعاد) معه، "ليست إشكالية نثر بقدر ما هي إشكالية ثقافة" (القدس العربي/ 17 ــ 18 مايو 2003). ولذلك فهي ليست مجرد تنويع فقط داخل الشعر، مما يقود إلى تلك النظرة التي لا تحيد عن ثنائية القبول والرفض. إنها تنطوي على تصورات للشعر من ناحية وللثقافة من ناحية موازية، هذا وإن كانت لا تقحم "المفاهيم" في نطاق "تشابكها" مع نص "الواقع" وفي إطار من ما يعرف بـ"اللغة الشارحة" أو "القصيدة المثقفة". ويظهر أن هذا السند الثقافي لقصيدة النثر، ومن حيث هو سند مندغم في "النصية"، هو ما يقصد إليه أحد رموز الجيل الثاني في قصيدة النثر عباس بيضون حين يقول (ونستحضر نصه على طوله لأهميته): "قصيدة النثر شاءت من البداية أن تكون تحدياً، ليس لأوزان الخليل فحسب، ولكن في الدرجة الأولى لعمود الثقافة العربية. الفصاحة هي النظام اللغوي العربي. لكن أيضاً البناء الفوقي للثقافة العربية. هذا النظام اللغوي المتعالي هو تقريباً الأسطورة المؤسسة للعروبة القومية... لم يُخفَ هذا على مؤسسي قصيدة النثر، لم يغب عنهم أن الدعوة الى تفكيك الفصاحة العربية هي أيضاً دعوة الى تفكيك البناء الفوقي للأسطورة القومية. دعوة كهذه لا تمسُّ الصعيد الشعري وحده بل تمسُّ معه الصعيد الأيديولوجي والسياسي بعامته. تفكيك الفصاحة باختصار ضرب للتوحّد في اللغة واتخاذها ديناً قومياً واعتمادها أيديولوجيا عليا وجامعة". ولهذا السبب ظهرت قصيدة النثر في لبنان (باريس العرب) دون سواها من المدن أو العواصم العربية، باريس المتهمة بـ"تصدير" هذه القصيدة للعالم العربي. وفي هذا السياق لا بأس من أن نشير إلى مفارقة "الجوار الجغرافي" بين المغرب وباريس وتأثير هذا الجوار الذي كان، وعلى الصعيد الشعري، "محدودا" مقارنة مع "الوفاء الثقافي" لكل ما كان "مشرقيا". هذا بالإضافة إلى "الحرية" التي كانت "شرطا" لقصيدة النثر في "واجبها التدميري المقدس"، ومن هذه الناحية كانت لبنان (ما قبل الحرب) "جزيرة الحرية وسط محيط بلا حرية" كما قال أنسي الحاج في حوار معه (الوطن العربي/ 15/01/1999). وعلى مستوى آخر يظهر أننا في حاجة إلى التحرر من "النظرة التسويقية" التي لا تزال تطبع التعامل مع قصيدة النثر، مما يجعل منها مجرد "موضة" أو "تقليعة" قابلة للتبدل، وبسرعة، في بورصة الأذواق. إنها في حاجة إلى تلك "القراءة" أو "القراءات" التي تبحث في تحقاقاتها النصية وتنويعاتها اللاحقة. وفي ضوء هذا المنظور يمكن لنا أن نهتدي إلى قصيدة النثر بالمغرب باعتبارها "جزيرة" ضمن جزر كثيرة تمتد في لبنان ومصر اليمن والبحرين... إلخ. وقولنا بـ"قصيدة نثر في المغرب" يستلزم بعض التحرزات في مقدمها تلافي "النظرة الإقليمية" التي لا تزال تنخر، وتحت تسميات "ذودية" مختلفة، بعض "المواقف" و"الكتابات" وعلى الرغم من دعاوى "العالمية" وتزايد الآليات التفكيكية لـ"العولمة" التي هي نتيجة عمليات تاريخية طويلة الأمد نادرا ما يلتفت إليها دعاة "العَوْرَبة المضادة". وفي هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى ما يعرف بحوار الحضارات والثقافات والشعوب، لكن بغير المعنى الذي يسعى المعجم الأمريكي الإمبريالي إلى فرضه في إطار من الإصرار على "استصال" البعد الثقافي للمجتمعات. ثمة شعر في العالم، أو أن "فن الشعر هو في جوهره واحد في جميع اللغات مهما اختلفت المظاهر السطحية" كما يقول الناقد والشاعر الأمريكي أرشيبالد مكليش في كتابه الشهير "الشعر والتجربة". وثمة أيضا تبادل للنصوص وليس للسلع فقط، وهو ما تسعى إليه "العولمة" في مظاهرها الموزيكية أو الفسيفسائية السالبة. غير أن ذلك لا يحول دون التشديد على نوع من "الخصوصيات المحلية" ذات الصلة بـ"الجغرافيا الثقافية" التي لا تسلم بدورها من "الهجنة" التي صارت إحدى العلامات الدالة على "العصر". وتقع قصيدة النثر في هذا التماس الكاشف عن تضافر الكوني والمحلي جنبا إلى جنب تشابك المعرفي والوجودي. فلا مجال لـ"الشعر المصفى"، ولا مجال لـ"نقاء اللغة" و"صفاء الهوية". وعلى مستوى آخر لا يمكن التغافل عن "المغرب الثقافي" فيما يتعلق بنقاش البدايات: بدايات قصيدة النثر في الشعر العربي. وبالنظر إلى "الجذور العربية" لقصيدة النثر كثيرا ما تم التشديد على ما يعرف بـ"الشعر المنثور" الذي صاحب سيادة الاتجاه الكلاسيكي (الكلاسيكية الجديدة) مع أسماء كنقولا فياض وأمين الريحاني وخليل مطران... والاتجاه الرومانسي مع جبران خليل جبران ومي زيادة ورشيد نخلة... إلخ. وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى الأديب المغربي محمد الصباغ (1929 ــ ) الذي كان متأثرا بالأدب المهجري والأدب الغربي الإسباني. وتجدر الملاحظة إلى أن هذا الأخير، وتحت تأثير دعوة ميخائيل نعيمة إلى "موسيقى يختارها القلب وليس لوازم العروض"، كتب قصائد نثرية في ديوانيه المبكرين "شجرة النار" (1955) و"وأنا والقمر" (1956). غير أن "السياق الثقافي"، في تلك الفترة، لم يكن مهيئا لـ"الاستجابة الموجبة" لهذا النوع الجديد من الشعر؛ ولعل هذا ما يفسر إقدام الصباغ نفسه على نشر عمليه مترجمين إلى الإسبانية قبل إظهارهما في اللغة العربية التي كتبا بها أصلا. ويرد عبد العلي الودغيري، في كتابه "قراءات في أدب الصباغ" (1977)، ما سلف إلى ما أسماه بـ"تهيب الصباغ من صدم الذوق العربي في المغرب الذي لم يكن قد تعود على قراءة واستساغة القصيدة النثرية" (ص 46). ولذلك سرعان ما هجر الصباغ، في نظر الودغيري، "القصيدة النثرية" إلى نوع آخر من الكتابة الفنية التي ترضي ميوله، وحاول أن يجعل من لغة المقالة والقصة شيئا قريبا من لغة الشعر (ص 59). غير أن ما يمكن الاعتراض عليه، هنا، أن "القصيدة النثرية"، كما ينعتها الودغيري، كامنة في هذه الكتابة الفنية وفي المقالة ولا في القصة وحدها؛ وهذا ما لم يلتفت إليه صاحب الكتاب بسبب من "المنهج الوصفي" الذي استند إليه في "قراءاته" وبما في ذلك "العدسة" التي وجهت المنهج. ويظهر أن هذا المقطع، الوارد في كتاب الودغيري، نفسه، والمقتطف من كتاب الصباغ، السابق زمنيا على الديوانين، "العبير الملتهب" (1953)، وهو في الأصل مقالات، جدير، وبنهجه الكتابي، أن يثبت انتسابه إلى قصيدة النثر. يقول المقطع: "جردوني من ثيابي، فواحسرتي، لأني رضعت ثدي غير ثديهم، واستحممت في واد غير واديهم، ورتعت في جبال غير جبالهم، جبال ذات لهب ناصعة أبدية، والأرز القديم المبارك الذي يتهدهد على نسيم السحر فيسحر الأباب، وتلقيت الحكمة من (مدرسة الحكمة)، وداعبني شيطاني 'لى أراجيح صنوبر (وادي قاديشا) قرب مرقد جبران". وفيما يتعلق بقصيدة النثر، وسواء في المغرب أو خارجه، ثمة ملاحظة على قدر كبير من الأهمية ونادرا ما يتم الالتفات إليها وبلورتها بوضوح. ومضمون هذه الفكرة أن قصيدة النثر لا تفترض أو لا تُكن أي نوع من "العداء" لقصيدة التفعيلة، بل هي نشأت بجوارها وسارت معها جنبا إلى جنب وبما يكشف عن نوع من "التواكب" بينهما في أحيان ورغم "التنابذ" الذي يباعد بينهما في أحيان أخرى وبسبب من الصلات المتفاوتة بين مستويات الصوت والدلالة والتركيب التي تمايز بينهما. يقول أحد شعراء قصيدة النثر بالمغرب وهو مبارك وساط وبما يدل على نوع من "التعايش" مع الوزن العروضي الذي هو قوام شعر التفعيلة: "كنت على وشك الغرق في البحر البسيط حين أنقذني بحارة عروضيون". إن ما نقصد إليه، هنا، هو "النثرية"، "نثرية الإيقاع"، التي تفرض ذاتها داخل شعر التفعيلة نفسها. وهو ما تعبر عنه، ومن وجوه، نصوص محمود درويش ولا سيما في المراحل الأخيرة. بل إن هذه النثرية رافقت شعر التفعيلة منذ بداياته الأولى في الأربعينيات النازلة. ولعل هذا ما سعى واحد من أهم نقاد قصيدة النثر من العرب وهو الناقد صبحي حديدي إلى "تأصيله" في قراءة لافتة لمحمود درويش وقبله بدر شاكر السياب (1926 ــ 1964). وفي حال الشعر المعاصر بالمغرب تستوقفنا تجربة الشاعر السبعيني رشيد المومني الذي كان سباقا إلى كتابة قصيدة النثر بالمغرب في فترة كان فيها شبه إجماع حول كتابة الشعر اعتمادا على التفعيلة، ودون أن نتغافل عن تأثير المناخ الإيديولوجي الساخن الذي كان له دور على مستوى تكريس التفعيلة ــ ولا سيما ــ في علائقها بـ"الإنشاد" و"الكتابة المنبرية". ونتصور أن حنين رشيد المومني إلى هذه القصيدة ما جعله، وبعد عقدين من الزمن، يقدم على نشر نص "كمياء الاستحالة" (العلم الثقافي/ 30 دجنبر 1995) الذي هو أشبه ما يكون بـ"بيان" حول هذه القصيدة. وقد أثار، ورغم لغته الانسيابية التي لا تليق دائما بالبيانات، بعض النقاش. وكما كان متوقعا لم يكن من المناقشين والمعقبين من غير الشعراء، وبلغتهم المعهودة، مما كان له تأثير على مستوى "التأمل" في قصيدة النثر وتحريك "الأسئلة الممكنة" التي تمس "تداول" الشعر والثقافة في آن واحد بالمغرب. غير أن التجربة التي تفرض ذاتها، أكثر، في هذا السياق، هي تجربة الشاعر المهدي أخريف الذي اتكأ على مرجعية مغايرة للمرجعية الفرنسية التي وجهت تجارب أغلب شعراء جيل السبعينيات الذي ينتمي إليه الشاعر شأنه في ذلك شأن مجايله رشيد المومني. وقد كشف عمل المهدي أخريف الأول "باب البحر" (1983) عن "منحى" مغاير داخل "أفق" قصيدة جيل السبعينيات، تلك القصيدة التي سعت إلى تعميق ما كان قد أسماه الراحل عبد الله راجع بـ"بنية الشهادة والاستشهاد" في دراسته التي تحمل العنوان ذاته (1987). ويبدو جليا أننا لا نلمس، في نصوص المجموعة سالفة الذكر، الإيقاع والنغم والقافية؛ بكلام آخر أدق وجامع: لا نلمس الموسيقى التفعيلية، ورغم اعتماد الشاعر التفعيلة. إن الشاعر، هنا، "يستولد طريقا آخر للقصيدة" كما قال في قصيدة "يقظة". وهو ما يمكن إدراجه ضمن "شرط الكتابة" التي هي قرينة نثرية الإيقاع (وقد سلفت إليها الإشارة) موزاة مع نثرية الدلالة، هذا وإن كان الشاعر لا يمضي، وفي "يقظته"، بعيدا على مستوى تعميق "الكتابية" بسبب من ذبابة "الغنائية" التي لا تفارقه. ولا بأس من أن نشير إلى أن المهدي أخريف أفاد، في هذا النهج الشعري، من الشاعر العراقي الستيني حسب الشيخ جعفر في نماذجه الشعرية الأولى "نخلة الله" (1964) و"الطائر الخشبي" (1972) و"زيارة السيدة السومرية" (1974)، وقد أفاد منه من ناحية "التدوير" أو "القصيدة المدورة" الكاشفة عن تلك "التشكيلة الموسيقية" التي هي قرينة توالي الأسطر أو النغم العروضي الذي تختفي فيه القواقي. وتجدر الإشارة إلى أن هذه "النخلة"، "نخلة الله"، سيشير إليها، وبعد ما يزيد عن عقدين، شاعر ستأسره قصيدة النثر كليا؛ ونقصد إلى محمود عبد الغني في مجموعته "عودة صانع الكمان" (2004). وعلى مستوى آخر تضعنا تجربة المهدي أخريف، وهي تجربة تستوقفنا لصلتها بموضوع قصيدة النثر بالمغرب، أمام "شعر الرؤية" (لا "الرؤيا") الذي يعد إحدى العلامات الدالة على قصيدة النثر. الشعر الذي يحفل بالوجوه والأمكنة والهوامش والتفاصيل والجزئيات... اعتمادا على "تقنية الاستعادة" أو "عين الكاميرا". وعلى ذكر "الرؤية" فثمة نص طويل "رسوم الفرطاخ على أسوار أصيلة"، وقد ضمه الشاعر إلى أعماله الكاملة (2003). يقول على لسان هذه الشخصية الهامشية وبما يؤكد على أولوية "الرؤية": "وأنا مشتعل في أسمالي الشرسة تغويني الرؤية لا الرؤيا". وكما أن "الفرطاخ" مشدود، وعلى مستوى التوازيات الدلالية، إلى العابر والهامش والمطرح. يقول الشاعر: "جلبابي منخور كالقلب وفضفاض جلبابي يسع البحر وعمري خاو كالبيداء عمري منبوذ". وقد جعلت كلمة "الفرطاخ" الشاعر والناقد اليمني عبد العزيز المقالح يتصور، في كتابه "تلاقي الأطراف ــ قراءة في نماذج من أدب المغرب الكبير" (1987)، بأن هذه الكلمة التي لا تكاد تعني شيئا عند القارئ خارج المغرب تحدث شرخا في كيان القصيدة [...] وتحمل دلالة معينة تمتد إلى عمق الواقع المغربي وتترك في نفس القارئ هناك واقعا خاصا لا نحس به (ص 28). والغاية من هذا الاقتباس هي أن نشير إلى أن الكلمة لم تكن تعني شيئا بالنسبة للقارئ العربي فحسب، بل لم تكن تعني شيئا بالنسبة للقارئ المغربي أيضا. فالشعر بالمغرب، وفي تلك المرحلة المفصلية من التاريخ الثقافي للمغرب، مرحلة السبعينيات بهديرها الثقافي وزئيرها الإيديولوجي، لم يكن يحفل إلا بالرموز التاريخية والأقنعة الأسطورية/ البطولية في نطاق ما يمكن التعبير عنه بـ"القصيدة المثقفة". وأما أن يتم الاحتفاء بشخصيات هامشية، أو شخصيات تقع في عمق القاع الاجتماعي، فهذا ما لم يكن الشعر مهيئا ليكترث به. والشيء ذاته يقال عن القراءة النقدية التي كانت بدورها تعمق "النظرة التراتبية" للأشياء. ومن ثم يكون صاحب "باب البحر" قد استبق زمنه الشعري، ومهد ــ بالتالي ــ لقصيدة النثر التي ستتعمق دلالاتها أكثر في سياق "التحول" أو بالأحرى "الانقلاب الثقافي" اللاحق؛ هذا على الرغم من أن الشاعر يثصور هذه القصيدة، وعلى مستوى "الموقف النقدي الواعي"، "سورا قصيرا يسهل مطيه" كما ورد في نص حوار مطول أجري معه في العدد الأول من مجلة "مرافئ". وهو موقف يكاد ينطبق على أغلب النقاد المتحدرين من سياق السبعينيات إذ لا نألف واحدا منهم درس هذه القصيدة، بل وتمكن من أن يتحرر من "ثقافة" تلك "المرحلة" في أثناء "الإشارات"، لكي لا نقول "القراءات" أو "الدراسات"، لهذه القصيدة. وهو ما ينطبق أيضا على شعراء السبعينيات بدورهم عدا الشاعر الموهوب محمد بنطلحة الذي استثمر بعض ملامح هذه القصيدة في نصوصه الأخيرة. وبعد هذه الملاحظة، التي سعينا من خلالها إلى تبيان البدايات الأولى لقصيدة النثر، وسواء من خلال شعر التفعيلة أو الشعر المنثور الذي سبقها، وهو إشكال نقدي متشع ومركب، فإنه يمكننا أن نخلص إلى الجيل الذي جاء بعد جيل السبعينيات، أي جيل الثمانينيات كما دأبت الآلة النقدية على توصيفه والذي انحاز أغلب شعرائه إلى هذه القصيدة. ولا يخفى اعتراض الكثيرين على المسألة الأجيالية، والسبب ــ في نظرهم ــ أنها "إجرائية" ولا تلامس الشعر في أعماقه. غير أنه يمكن الاعتراض على هذا الرأي بكون أن "التصنيف الأجيالي" ليس عديم الجدوى، إضافة إلى أنها ليست أبدا من باب "التبسيط النقدي" أو "التيسير الصحفي". فهو لا يخلو من "نمط تصور" للشعر في مرجعايته المتغايرة ولغاته المختلفة. أجل لقد هيمنت قصيدة النثر داخل الأدب العربي خلال العقدين الأخيرين، بل وتسارعت وتائرها مع الثمانينيات النازلة والتسعينيات الصاعدة، وصارت تشكل متن الشعر العربي المعاصر كما أسلفنا. إلا أن جيل الثمانينيات، بالمغرب، وهو جيل غير متجانس، وهو ما تومئ إليه تسمية "الجيل" ابتداء، ليس مشغولا بأكمله بتكريس قصيدة النثر في الشعر المعاصر بالمغرب. فأسماء مثل محمد الصابر ومحمد عرش وصلاح بوسريف وعبد الدين حمروش... اعتمدت التفعيلة وعلى الرغم من عدم التقيد الصارم بهذه الأخيرة. وعلى مستوى آخر فعدم اعتماد التفعيلة لا يفضي بالضرورة إلى قصيدة النثر ولا يضمن "شرف الانتماء" لها. فأسماء مثل أحمد بركات ومحمد بوجبيري والزهرة المنصوري ووفاء العمراني وثريا ماجدولين وإدريس علوش... لا تعتمد التفعيلة في تجاربها المتضمنة في مجاميعها المنشورة، غير أن "شبح التفعيلة" يظل باديا في نصوص هذه الأسماء، مما يباعد بينها وبين قصيدة النثر. ومن ثم سيكون من الصعب القول بأن هذه التجارب تعبر عن قصيدة النثر في حضورها المستقل الذي هو قرين قواعد مخصوصة كامنة في اللغة ذاتها وفي العلاقات اللغوية وهي تفسح للذات مساحات داخل ما يسميه هايدجر "انبساط التكلم". ويظهر أن هذه القواعد أصعب من "نهج التفعيلة" التي تبدو في شكل عكازة تسعف على الاسترسال الخارجي وفي معزل عن التنامي اللغوي الموازي. فأغلب نصوص هؤلاء يبدو وكأنها وضعت لـ"الإنشاد" لا لـ"القراءة"، ولـ"الأذن" لا لـ"البصر". وقراءة مجموعة "على درج المياه الموعودة" (1990) لصاحبها "الشاعر الحزين" مبارك وساط (وقد سلفت الإشارة إليه) جديرة بأن تكشف عن جدوى "القراءة الهادئة"، لا "الإنشاد الهادر"، في "التعامل" مع قصيدة النثر. وكما أن قصيدة النثر لا يمكنها أن تكون مجرد "تنويع" داخل الشعر، مما يقود إلى تسيييجها بتلك النظرة التي لا تحيد عن ثنائية القبول والرفض. إنها تنطوي على تصور للشعر ذاته وللحياة التي تنبثق منها، هذا وإن كانت لا تكترث بالمفاهيم أو باللغة الشارحة التي تندغم في صميم اللغة الشعرية. ثم إن تصورها للشعر لا يخلو من تراتبية فيما يتعلق بالعناصر التكوينية للعمل الشعري في خواصه النوعية، ولا تخلو هذه التراتبية بدورها من دلالات بالنظر إلى "التبدل" الحاصل في مقولات الفكر ككل ولا في الشعر بمفرده. وفي ضوء ما سلف يمكن التشديد على تراجع مكون "الصوت" في قصيدة النثر، في مقابل تدافع مكون "الدلالة" في جسد القصيدة. ومن التفاعل بين هذين العنصرين أو المكونين، وهو "تفاعل انشطاري"، منشأ "الكتابة" التي أشرنا إليها من قبل. ونقصد، هنا، إلى "الكتابة الداخلية" (كما نعتها أنسي الحاج في حواره السابق) تمييزا لها عن "الكتابة" ككل ومن حيث هي وسيط أو جسر بين المبدع والإبداع. وكتابة من هذا النوع يمكن إدراجها في نطاق ما عبر عنه جون كوهن، في كتابها "بنية اللغةالشعرية" (1966)، بـ"القصيدة الدلالية". إلا أن هذه القصيدة، وفي تمركزها الدلالي، لا تخلو، وكما يقول جون كوهن نفسه، من "اعتبار جمالي". وضمن الدلالة، التي تتسرب في مسارب الكتابة، يتكشف مفهوم الشعر الذي يلتبس بذلك النوع من "النسق الثقافي" الذي يومىء إلى مجمل التحول الذي أفضى بالشعر ككل، وقصيدة النثر تعيينا، إلى مفارقة ظلال القضايا الكبرى ودعاوى الالتزام وفيوض الإيديولوجيا... وغير ذلك من الأشكال التي واكبت ظهور قصيدة التفعيلة في سياق الاعتداد أو المد القومي وحركات التحرر الوطني. لم يعد يهم الشاعر أن يكون "فم الجماعة" أو "ذاكرة للجماهير" كما يقول عبد العزيز موافي في كتابه "قصيدة النثر" (2004). ولم تعد تهمه تلك العوالم الكبرى ولا العداءات الإيديولوجية... مقارنة مع عوالمه الصغيرة الدانية التي أخذ يتلذد بكتابتها بجسده. ومن ثم فتمجيد "جورب" أو رثاء "حذاء"، وكما في مجموعة إدريس علوش (الأخيرة) "مرثية حذاء" (2007) مثلا، صار يحظى بأولية ملحوظة مقارنة مع رثاء شهيد أو تمجيد بطل كما قال من قبل الشاعر حسن نجمي الذي كان قد افتتح مساره الشعري بديوان شعري إيديولوجي زاعق "لك الإمارة أيتها الخزامى" (1982). وخلاصة القول، في هذه النقطة، ثمة، أو بالأدق يشترط، "نص كتابي" ينأى بالقصيدة، قصيدة النثر، عن "العقائديات الكبرى"، ويقوض، من ثم، "المركزيات الإنشائية" أو "السباحة الإنشائية" كما ينعتها عباس بيضون في حوار لافت معه حول قصيدة النثر (القدس العربي/ الأربعاء 23/08/19995). إلا أن هذا التقويض، وغير المدروس، في أحيان كثيرة، أسقط العديد من الكتابات الشعرية في ذلك النوع من "الشعر السهل" الذي رأى فيه ناقد كبير للشعر وفي حجم جابر عصفور، وفي كتابه "في محبة الأدب" (2003)، "كلاما رطيطا" و"شعر صراصير". وبالنظر إلى الصورة (المرئية) ـ التي صارت إحدى العلامات الدالة على العصر في إطار ما يصطلح عليه بـ"حضارة الصورة" ـ لا يبدو غريبا أن يتم التشديد، في قصيدة النثر، على "الرؤية" (Vision) في ارتكازها على "العين" أو "الحدس الانطباعي"... بدلا من "الرؤيا" في ارتكازها على "الذهن" أو "الحدس الصوفي" أو "الميتافيزيقي"... إلخ. ويمكن تأطير تجربة حسن نجمي، ومنذ مجموعته المفصلية "حياة صغيرة" (1995)، ضمن "شعر الرؤية". ويضعنا هذا الشعر، ودون التغافل عن منحاه العالمي أيضا، في صميم قصيدة النثر في اشتراطاتها الداخلية الصعبة وفي انشدادها، وعلى مستوى الدلالة، إلى الأشياء والتفاصيل والوجوه كما هي ودونما أي "تدخل" (سافر) من قبل الذات بسبب من "إرادة القول" أو "انبساط التكلم". وشعر من هذا النوع قرين "تقنية الاستعادة" على مستوى "الالتقاط" أو "الأداة"، وقرين "الحياد العاطفي" على مستوى "الشعور". هذا بالإضافة إلى أنه لا يكشف عن "المركزي" أو "العقدي" أو "الجوهري" على مستوى الاعتبار الدلالي، ولا عن الزائد البلاغي على مستوى الاعتبار الجمالي. فالشيء يغدو،هنا، بمثابة "المُوَلد" أو "الرَحِم" (الدلالي) جنبا إلى جنب "الاستعارة البيضاء" التي تفترض ولا تفترض "التأويل الدلالي" الذي تحدث عنه إمبرتو إيكو في كتابه "حدود التأويل". فالأمر، هنا، أشبه بما اصطلح عليه، ومنذ تجربة رامبو (1845 ــ 1891)، بـ"الشعر الموضوعي". ولعل هذا الموضوع ما كنا قد سعينا، ومن خلال قصيدة النثر ذاتها، إلى دراسته في قراءة تحمل العنوان نفسه "شعر الرؤية" (2005) كرسناها لتجربة حسن نجمي. إن ما كان المهدي أخريف قد نعته، في نص"رسوم الفرطاخ على أسوار المدينة"، بـ"الرؤية" هو ما سيتم، وفي قصيدة النثر، إنزاله إلى حدود المرئي. غير أن هذا "التكتيك" الشعري يستلزم "عينا لاقطة" أو "باصرة تشكيلية"، هذا بالإضافة إلى "الفضاء البصري" الذي ينتظم في نطاقه، وعبر لعبة الإضاءة والاستضاءة، الفضاء الدلالي. ويتأكد الفضاء البصري، أول ما يتأكد، من خلال عدم "حياد الصفحة" حيث استغلال "البياض" والتوزيع المدروس للأصوات والمفردات والتراكيب؛ وكل ذلك في المنظور الذي يفضي إلى "إشراك العين" أو استدراج "قناة البصر" إلى آفاق التلقي. هذا ولا ينبغي أن نتغافل، وفي سياق "قناة البصر"، وفي إطار من "التفضية النصية"، عن "الرسومات" التي تصاحب النصوص تأكيدا لمبدأ "المصاحبة": مصاحبة الشعر للتشكيل؛ وإن كانت هذه التجربة لا تزال محدودة في الشعر المعاصر ككل بالمغرب، ورغم "الطفرة" التشكيلية التي يعرفها هذا الأخير ومنذ فترة الستينيات. ويقودنا التشديد على "قناة البصر"، في نطاق قصيدة النثر، وفي إطار من "حضارة الصورة" أو "التحول المرآوي"، إلى تجربة أخرى، تندرج، وبحدة، في القصيدة ذاتها. ونقصد، هنا، إلى تجربة جلال الحكماوي، وخصوصا في مجموعته الأخيرة "اذهبوا قليلا إلى السينما" (2005). فكل شيء، وعلى مستوى المراكز الدلالية، يتحول إلى سينما؛ بل إن العالم بأكمله يغدو "شاشة". غير أن ما يهمنا، هنا، ليس تأثير السينما الكامن في المستوى الدلالي فقط، وإنما تأثيرها الذي ينقسم على "الوعي الكتابي" ذاته. ومن ثم، وفي النص سالف الذكر، منشأ "الإيقاع التصويري" القائم على ما يشبه "تقنية الفيديو" و"تقنية المونتاج السريع"... أو، وكما يلخص عباس بيضون، "الإيقاع المونولوغي الحواري لحياة التجوال والإغراء المونتاجي الكولاجي والفيلمي للتسكع المديني". يتعلق الأمر، هنا، بشعر "كأنما يصدر عن عين كاميرا. كاميرا تنتقي الصور والمشاهد وتولفها في شريط لغوي بدل النيغاتيف الجيلاتيني" كما يقول يوسف بزي في مقال حول "قصيدة النثر والفنون البصرية" يعالج فيه الموضوع نفسه في قصيدة النثر بلبنان. إلا أن الوصل بين حسن نجمي وجلال الحكماوي ومن ناحية "اليومي" ذاته يفرض التمييز بين نوعين من هذا الأخير: "اليومي المصفى" كما نجده عند الأول، وإن كان قد خدش هذا "الصفاء" في مجموعته الأخيرة "على انفراد" (2007)؛ و"اليومي" عند الشاعر الثاني، وبما في ذلك مجموعته الأولى "شهادة عزوبة" (1997)، والذي تتخلله نبرة سوريالية تتمظهر على مستوى السخرية السوداء والكتابة الأوتاماتيكية (وإن في مواضع محدودة) والرغبة الملحة والجسدانية المقصودة. وفي هذا الصدد لا ينبغي أن نتغافل عن صاحب مجموعة "كلما لمستُ شيئا كسرتُه" عبد الإله الصالحي الذي ينخرط بدوره ضمن حلقة الشعراء الملاعين من "المتعامدين" أو "الإسرافيين" من المنخرطين في "السوريالية المداورة" في "تحولاتها العربية" اللاحقة. وقبل أن نخلص إلى النقطة الموالية لا بأس من أن نشير إلى أنه سيكون من الصعب أن نصنف، وبشكل صارم، هذين الشاعرين ضمن السوريالية، وهو ما قد يوافق عليه الشاعران بدورهما. غير أنه يمكن أن نعترض، هنا، على أننا ننظر إلى السوريالية كـ"نبرة" تتسرب في مسارب الكتابة وليس كـ"تحققات نصية" ترادف الكتابة ذاتها وبمعناها المطلق. غير أن الاحتفاء بـ"اليومي" و"العابر"، وهو مؤثر من ناحية كون أنه عابر وزائل، لا يتمظهر، أبدا، وفي تجارب جيل الثمانينيات، من خلال الكتابة فقط. فثمة تجارب، وقد سلفت الإشارة إلى بعضها، يبدو أنها وضعت لـ"الإنشاد" وليس لـ"القراءة". وفي مقدم هذه التجارب تأتي تجربة أحمد بركات (1960 ــ 1994) وسواء في عمله الأول "أبدا لن أساعد الزلزال" (1991) الذي ظهر قبل وفاته المفاجئة قبل ما يزيد على عقد من الزمن أو في عمله الثاني "دفاتر الخسران" الذي ظهر في الذكرى الأربعينية لوفاته (1994). أجل قد لا تخفي، في هذه التجربة، ما كان قد نعته الناقد المغربي نجيب العوفي، بـ"السيولة النثرية المتحررة". غير أن هذه الملاحظة لا تحول دون التذكير بالكيفية التي كان أحمد بركات يقرأ بها نصوصه في المهرجات واللقاءات، كان يقرأ بجسده ولحمه وعلى أساس من "الاحتجاج المتطاير" الذي يلوي بالإنشاد، بل يبدو وكأن هذه النصوص وضعت للإنشاد. وفي السياق نفسه لم تكن جميع النصوص تحفل باليومي والعابر حتى وإن كان هذا الاحتفاء يكاد يمثل المنحى العام أو الغالب داخل تجربة االجيل. ثمة تجارب تسعى إلى مفارقة اليومي وبالتالي تجسيد نوع من "الحدس الأسطوري" على نحو ما نعثر في مجموعة "سقوف المجاز" (1999) لعبد السلام الموساوي، هذا وإن كان الشاعر لا يحيل على أي أسطورة أو رمز أسطوري في المجموعة. فهذا الحدس يكمن في "النص التحتي" للمجموعة. وكما أن هناك تجارب سعت إلى التعبير عن "الحدس الصوفي" أو الارتقاء إلى تلك "النقطة العليا" التي تحدث عنها المتصوفة. ولا داعي للتذكير بالعلاقة الوطيدة التي تصل ما بين الشعر والتصوف في ذات الفضاء الذي تختزله عبارة "الشعر تصوف والتصوف شعر"؛ وليس من شك في أن موضوع من هذا الحجم موضوع "مركب"، وقد يتطلب عمرا أكاديميا. ونحن لا نعدم نصوصا كثيرة، في جيل الثمانينيات، لشعراء كمحمد الصابر ووفاء العمراني وإدريس عيسى وصلاح بوسريف... سعت، وبتفاوت، إلى الإفادة من "المنجز الصوفي". غير أن أغلب هذه التجارب لم تصهر التجربة الصوفية في بوتقة الإبداع، لقد بدت هذه التجربة "برانية" و"مقحمة" بل وفي شكل "موضة" يتم التستر بها على "عورات" الإبداع. هذا بالإضافة، ولعل في هذا أهم نقد يوجه للتجربة، عدم تمكن أغلب هؤلاء الشعراء من تشكيل "نص كتابي" مع أن التصوف يسعف على مثل هذا التشكيل الذي هو في الوقت ذاته تشكيل/ نفي للذات في مدارج الإبداع. وفيما يتعلق بقصيدة النثر لدى الجيل اللاحق على جيل الثمانينيات فهو ما يتطلب بدوره دراسة مستقلة. أجل إن هذا الجيل، وللمناسبة، وإلى حد ما، وشأنه شأن جيل الثمانينيات، لم تتضح ملامحه بعد. غير أنه واصل، ومنذ إرهاصاته الأولى، وبطريقته، الإلحاح على "الـ"لن" التي كان قد أطلقها أنسي الحاج في شبابه. وفي السياق نفسه يمكن التشديد، على أنه، وفيما يكشف منجزه المحدود، انحاز، وبالكلية، لقصيدة النثر، هذا إذا ما لم نقل بأنه جعل منها "بديلا" للشعر ذاته لا مجرد تنويع داخله. لقد فكت القصيدة، في تجربة هؤلاء، ومع أسماء كعزيز أزغاي ومحمود عبد الغني وعدنان ياسين ومحمد عابد، صلاتها مع التراث والماضي، وبدت بالتالي بدون جذور وأشبه بـ"تجربة" أو "نص لقيط". وعلى الرغم من هذا "الانقطاع" فتجربة هؤلاء تتقاطع مع تجربة شعراء جيل الثمانينيات، ولا سيما من ناحية ما كنا قد عبرنا عنه، في قراءات تطبيقية لنصوص لهؤلاء، بـ"تصعيد الحاضر" و"تشتت الذات" و"انقسام الوعي" و"التسكع المديني" و"القيلولة الوجودية" و"العولمة السعيدة"... و"اللاعقلانية المدمرة". وكل ذلك في المنظور الكاشف عن مركزية الذات الكاشفة بدورها عن الكائن المشاكس والخاسر والمعانق للخطأ أو "طاولة الخطأ" كما ورد في تعبير من "عودة صانع الكمان" سالفة الذكر، وكل ذلك أيضا في المنظور الكاشف عن اجتثات "النبالة اللغوية" موازاة مع الإجهاز على "البنية الصوتية" للشعر.
قِيل إن النقاش الذي أثارته قصيدة النثر، في النقد الأدبي، أو الثقافة العربية ككل، أكثر من النقاش الذي أثارته قضية في غاية من التعقيد القومي والتشابك الإنساني؛ وليس من شك في أننا نقصد، هنا، إلى "القضية الفلسطينية" قبل أن تنتهي، إلى ما انتهت إليه، خلال السنوات الأخيرة، من "تبعثر" على مستوى "الموقف" الناظم للخطاب السياسي، السائد، في العالم العربي. ويهمنا أن نشير إلى أن هذا القول لا يخلو، وبدءا من مستواه الظاهري، من "سخرية" هي ذات السخرية التي تقع في الأساس الوجودي/ المعرفي لهذه القصيدة، وعلى الرغم من تشكيك الكثيرين في أن يكون لهذه الأخيرة "أساس" من هذا النوع. وحتى إن كنا، بدورنا، لا نسلم، ونسلم في الوقت ذاته، بهذا التصور، وعلى ما في هذا "الحكم" من تناقض ظاهري، فإن الحديث عن هذه القصيدة لا يخلو في أحيان، وأحيان كثيرة، من أحكام مسبقة وتصورات منمطة لا تستجيب، أبدا، لـ"الأفق" الذي اختطته هذه القصيدة في دنيا الشعر الحديثة. ولعل ما سلف ما لا يجعل الحديث عنها لا يحيد عن موقفين حديين، هما: "موقف القبول المطلق" وغالبا ما يكون متحدرا من المدمنين عليها من شعرائها الأوفياء ومن الدارسين لها من المؤمنين بقيم "التجريب" وعلى ما قد يعتوره، في أحيان، من "تخريب". و"موقف الرفض المتشنج" الذي يتحدر من نوع من "الأصولية" (الثقافية) التي لا تملك، في النظر الأخير، "رؤية نقدية" بإمكانها الاستجابة لمجمل التبدلات التي مست أشكال الإدراك ومقولات التفكير في العالم ككل. هذا بالإضافة إلى ما يمكن نعته بـ"الموقف الوسطي" لنقاد مترسخين في خريطة النقد العربي موزاة مع ردود شعراء مكرسين في شعر التفعيلة، وهو موقف كثيرا ما يتكشف عنه، وعلى مستوى الأذهان لا الأسماع إذا جازت عبارة الفقهاء والمناطقة، نوع من التحيز لغير هذه القصيدة.
والظاهر أن الاستجابة، "المتصدعة"، وللمناسبة، لقصيدة النثر، ناجمة عن "الرجة" التي أحدثتها هذه الأخيرة، وما تزال، وبوتائر متسارعة، وإن من خلال نماذج معدودة، في بنيان الشعر العربي، ومنذ أواخر الخمسينيات وبشكل أكثر حدية بعد هزيمة العام السابع والستين وما رافقها من "خرائب تاريخية" في مقدمها "انكسار المشروع القومي"، وعلى النحو الذي يمكن الحديث معه، الآن، عن "أجيال متتالية"، و"حلزونيا" لا "كرونولوجيا"، لازمت هذه القصيدة في تاريخها أو، بالأحرى، "لاــ تاريخها" المتصدع. هذا بالإضافة إلى المكانة التي حازتها هذه القصيدة في الشعر العربي المعاصر إذ صارت في "متنه" لا في "هامشه"، هذا إذا ما لم نقل بأنها صارت تمثل "متن" هذا الشعر كما يذهب إلى ذلك البعض. وحتى إن كان البعض يتصور أنها "شعر ناقص"... فإنها تمكنت من أن تنسج لذاتها "حضورها المستقل"، وأن تسهم ــ بالتالي ــ وبطريقتها ــ في الإسهام في "ترهين" الشعر في "حاضر" الثقافة العربية الحديثة. وكما أن "النقد" سالف الذكر هو ما لا يسلم منه، وإن بتفاوت، شعر التفعيلة ذاته الذي يتم الاتكاء عليه في "التنقيص" من قصيدة النثر. وهو ما عبر عنه شاعر كبير يتنفس قيم "التجريب" وهو الشاعر محمود درويش حين ذهب إلى القول في شهادة حول أحد أعمدة المرحلة الأولى في قصيدة النثر محمد الماغوط (1934 ــ 2006): "وإذا كانت [أي قصيدة النثر] تعاني من شيوع الفوضى والركاكة وتشابه الرمال، على أيدي الكثيرين من كتابها، فإن قصيدة الوزن تعاني أيضاً من هذه الأعراض، الأزمة إذاً ليست أزمة الخيار الشعري، بل هي أزمة الموهبة، أزمة الذات الكاتبة". وكثيرا ما تم استخلاص الرجة سالفة الذكر من فعل التقويض الذي مارسته قصيدة النثر على الأساس الذي يتقوم عليه الشعر، وهو أساس "الإيقاع الكمي" المرتبط بـ"النظم" أو "الوزن العروضي". ودون التفات إلى أن هذه القصيدة تمكنت من أن تنسج "إيقاعها المخصوص" أو "المضاد" وبسبب من تقويضها للإيقاع سالف الذكر.
ولا يبدو غريبا أن تقود مثل هذه النظرة، وهي "نظرة جزئية"، أو "بعضية"، طالما أنها تركز على عنصر "الوزن" بمفرده ودون الالتفات إلى باقي العناصر المشَكلة للشعر إلى المقارنة بين "الشعر" و"النثر"، ودون أي نوع من الإشارة إلى أن التضاد، وفي هذه الحال، تعيينا، لا يكمن بين النثر والشعر ، وإنما بين "الجيد من هذا الأخير و"رديئه" إذا جاز أن نستخدم القاموس النقدي العربي القديم في منحاه "الأخلاقي"... ودون أي استحضار، كذلك، لـ"الجامع" بين النثر والشعر المتمثل بـ"الأدب" (ذاته) كما قال تزفتان تودوروف، في كتابه "شعرية النثر" (1971)، وفي سياق نقد جان كوهن الذي ميز، في "بنية اللغة الشعرية" (1966)، وفي سياق النظرية النقدية الغربية، بين الشعر والنثر وعلى أساس من "الإيحاء" كـ"خاصية" للشعر و"المطابقة" كـ"خاصية" للنثر. فالأهم أن تكون قصيدة النثر "قصيدة حقاً لا قطعة نثر فنية، أو محملة بالشعر" كما قال أنسي الحاج منذ زمان، وقد اشترط لذلك شروط ثلاثة: الايجاز والتوهج والمجانية (أو "اللاغرضية" كما يترجمها عبد القادر الجنابي)... وحتى إن كنا، ومع آخرين، نتصور أن هذه الشروط لم تعد "معبرة" عن نصوص أنسي الحاج نفسها ونصوص الأجيال التالية.
يظهر أن قصيدة النثر تقع خارج تلك النظرة التصنيفية الطِلائية المبتسرة التي لا تستند إلى نوع من "التأثر المتبادل" الذي يصل ما بين "الكتابة النقدية" و"العمل الأدبي". ثم إن البحث عن "جمالها"، وهو، وللمناسبة، "جمال مخصوص" كما تقول منظرتها الرائدة سوزان برنار، يقع، في تصورنا، في "نصوصها" التي كثيرا ما يتهرب النقاد من "قراءتها" وبالمعنى "الفلسفي الاصطلاحي" للقراءة؛ تلك "النصوص" التي تؤكد "شرف الانتساب" للشعر في "خرائطيته" التي تتأبى على "المناظير العشوائية" أو "القراءات الأحادية". ودون أن نتغافل، هنا، عن أنه كثيرا ما تم العثور على "الكلام" وقليلا ما تم العثور على "النصوص" كما يقول ميشال فوكو في إشارة، وفي حال كلامنا، إلى نذرة النصوص الدالة، ومن باب "النقد المصاحب"، على قصيدة النثر وسواء في التجربة المغربية التي ستعنينا في ما تبقى من هذه المقاربة أو في التجربة العربية ككل التي لا نتصور أننا نحيد عنها.
و"لكي يقع تغير لا بد من شروط" كما يقول ميشال فوكو الذي سلفت الإشارة إليه قبل قليل. ومن هذه الناحية ثمة "شروط"، وبالمعنى المبلور للمفهوم في "حفريات المعرفة"، جديرة بأن تشرح جانبا مهما من "الانقطاع المعرفي" الذي تعكسه قصيدة النثر في انغرسها في الخطاب الشعري. وفي هذا المنظور فهي، وفي التجربة المغربية، وقبل ذلك العربية، "بنت عصرها" أو "روح العصر" إذا جازت تسمية هيجل وعلى الرغم من "التشييء" و"التسليع" اللذين يطالان العصر تحت تأثير عمليات العولمة الكاسحة في محوها لـ"الهويات" الفردية والجماعية. وتكمن أهمية قصيدة النثر التاريخية، وبالمعنى السوسيولوجي للتاريخ، في كون أنها استطاعت، وبعلائقها اللغوية المتفجرة ونظرتها المتشظية، أو بمغايرتها الجذرية، أن تواكب "الأنمط الثقافية الجديدة" التي أربكت المفاهيم العضوية والأنساق المغلقة. ومن ثم فقصيدة النثر ليست نبتا غريبا في حقل الأدب العربي، وإنما هي نتاج "سياق ثقافي" أثبت "عجز" التفعيلة، وبعد فترة وجيزة من ظهورنها مقارنة مع القرون التي صمدت خلالها القصيدة العمودية، عن استيعاب الوقائع في نطاق الصلة المخصوصة التي تصل، وفي التاريخ وبالتاريخ وللتاريخ، ما بين الشعر والثقافة. وإشكالية قصيدة النثر، كما قال الشاعر العراقي الراحل والمتسكع جان دمو في حوار (مستعاد) معه، "ليست إشكالية نثر بقدر ما هي إشكالية ثقافة" (القدس العربي/ 17 ــ 18 مايو 2003). ولذلك فهي ليست مجرد تنويع فقط داخل الشعر، مما يقود إلى تلك النظرة التي لا تحيد عن ثنائية القبول والرفض. إنها تنطوي على تصورات للشعر من ناحية وللثقافة من ناحية موازية، هذا وإن كانت لا تقحم "المفاهيم" في نطاق "تشابكها" مع نص "الواقع" وفي إطار من ما يعرف بـ"اللغة الشارحة" أو "القصيدة المثقفة".
ويظهر أن هذا السند الثقافي لقصيدة النثر، ومن حيث هو سند مندغم في "النصية"، هو ما يقصد إليه أحد رموز الجيل الثاني في قصيدة النثر عباس بيضون حين يقول (ونستحضر نصه على طوله لأهميته): "قصيدة النثر شاءت من البداية أن تكون تحدياً، ليس لأوزان الخليل فحسب، ولكن في الدرجة الأولى لعمود الثقافة العربية. الفصاحة هي النظام اللغوي العربي. لكن أيضاً البناء الفوقي للثقافة العربية. هذا النظام اللغوي المتعالي هو تقريباً الأسطورة المؤسسة للعروبة القومية... لم يُخفَ هذا على مؤسسي قصيدة النثر، لم يغب عنهم أن الدعوة الى تفكيك الفصاحة العربية هي أيضاً دعوة الى تفكيك البناء الفوقي للأسطورة القومية. دعوة كهذه لا تمسُّ الصعيد الشعري وحده بل تمسُّ معه الصعيد الأيديولوجي والسياسي بعامته. تفكيك الفصاحة باختصار ضرب للتوحّد في اللغة واتخاذها ديناً قومياً واعتمادها أيديولوجيا عليا وجامعة". ولهذا السبب ظهرت قصيدة النثر في لبنان (باريس العرب) دون سواها من المدن أو العواصم العربية، باريس المتهمة بـ"تصدير" هذه القصيدة للعالم العربي. وفي هذا السياق لا بأس من أن نشير إلى مفارقة "الجوار الجغرافي" بين المغرب وباريس وتأثير هذا الجوار الذي كان، وعلى الصعيد الشعري، "محدودا" مقارنة مع "الوفاء الثقافي" لكل ما كان "مشرقيا". هذا بالإضافة إلى "الحرية" التي كانت "شرطا" لقصيدة النثر في "واجبها التدميري المقدس"، ومن هذه الناحية كانت لبنان (ما قبل الحرب) "جزيرة الحرية وسط محيط بلا حرية" كما قال أنسي الحاج في حوار معه (الوطن العربي/ 15/01/1999).
وعلى مستوى آخر يظهر أننا في حاجة إلى التحرر من "النظرة التسويقية" التي لا تزال تطبع التعامل مع قصيدة النثر، مما يجعل منها مجرد "موضة" أو "تقليعة" قابلة للتبدل، وبسرعة، في بورصة الأذواق. إنها في حاجة إلى تلك "القراءة" أو "القراءات" التي تبحث في تحقاقاتها النصية وتنويعاتها اللاحقة. وفي ضوء هذا المنظور يمكن لنا أن نهتدي إلى قصيدة النثر بالمغرب باعتبارها "جزيرة" ضمن جزر كثيرة تمتد في لبنان ومصر اليمن والبحرين... إلخ. وقولنا بـ"قصيدة نثر في المغرب" يستلزم بعض التحرزات في مقدمها تلافي "النظرة الإقليمية" التي لا تزال تنخر، وتحت تسميات "ذودية" مختلفة، بعض "المواقف" و"الكتابات" وعلى الرغم من دعاوى "العالمية" وتزايد الآليات التفكيكية لـ"العولمة" التي هي نتيجة عمليات تاريخية طويلة الأمد نادرا ما يلتفت إليها دعاة "العَوْرَبة المضادة". وفي هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى ما يعرف بحوار الحضارات والثقافات والشعوب، لكن بغير المعنى الذي يسعى المعجم الأمريكي الإمبريالي إلى فرضه في إطار من الإصرار على "استصال" البعد الثقافي للمجتمعات.
ثمة شعر في العالم، أو أن "فن الشعر هو في جوهره واحد في جميع اللغات مهما اختلفت المظاهر السطحية" كما يقول الناقد والشاعر الأمريكي أرشيبالد مكليش في كتابه الشهير "الشعر والتجربة". وثمة أيضا تبادل للنصوص وليس للسلع فقط، وهو ما تسعى إليه "العولمة" في مظاهرها الموزيكية أو الفسيفسائية السالبة. غير أن ذلك لا يحول دون التشديد على نوع من "الخصوصيات المحلية" ذات الصلة بـ"الجغرافيا الثقافية" التي لا تسلم بدورها من "الهجنة" التي صارت إحدى العلامات الدالة على "العصر". وتقع قصيدة النثر في هذا التماس الكاشف عن تضافر الكوني والمحلي جنبا إلى جنب تشابك المعرفي والوجودي. فلا مجال لـ"الشعر المصفى"، ولا مجال لـ"نقاء اللغة" و"صفاء الهوية".
وعلى مستوى آخر لا يمكن التغافل عن "المغرب الثقافي" فيما يتعلق بنقاش البدايات: بدايات قصيدة النثر في الشعر العربي. وبالنظر إلى "الجذور العربية" لقصيدة النثر كثيرا ما تم التشديد على ما يعرف بـ"الشعر المنثور" الذي صاحب سيادة الاتجاه الكلاسيكي (الكلاسيكية الجديدة) مع أسماء كنقولا فياض وأمين الريحاني وخليل مطران... والاتجاه الرومانسي مع جبران خليل جبران ومي زيادة ورشيد نخلة... إلخ. وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى الأديب المغربي محمد الصباغ (1929 ــ ) الذي كان متأثرا بالأدب المهجري والأدب الغربي الإسباني. وتجدر الملاحظة إلى أن هذا الأخير، وتحت تأثير دعوة ميخائيل نعيمة إلى "موسيقى يختارها القلب وليس لوازم العروض"، كتب قصائد نثرية في ديوانيه المبكرين "شجرة النار" (1955) و"وأنا والقمر" (1956). غير أن "السياق الثقافي"، في تلك الفترة، لم يكن مهيئا لـ"الاستجابة الموجبة" لهذا النوع الجديد من الشعر؛ ولعل هذا ما يفسر إقدام الصباغ نفسه على نشر عمليه مترجمين إلى الإسبانية قبل إظهارهما في اللغة العربية التي كتبا بها أصلا. ويرد عبد العلي الودغيري، في كتابه "قراءات في أدب الصباغ" (1977)، ما سلف إلى ما أسماه بـ"تهيب الصباغ من صدم الذوق العربي في المغرب الذي لم يكن قد تعود على قراءة واستساغة القصيدة النثرية" (ص 46). ولذلك سرعان ما هجر الصباغ، في نظر الودغيري، "القصيدة النثرية" إلى نوع آخر من الكتابة الفنية التي ترضي ميوله، وحاول أن يجعل من لغة المقالة والقصة شيئا قريبا من لغة الشعر (ص 59).
غير أن ما يمكن الاعتراض عليه، هنا، أن "القصيدة النثرية"، كما ينعتها الودغيري، كامنة في هذه الكتابة الفنية وفي المقالة ولا في القصة وحدها؛ وهذا ما لم يلتفت إليه صاحب الكتاب بسبب من "المنهج الوصفي" الذي استند إليه في "قراءاته" وبما في ذلك "العدسة" التي وجهت المنهج. ويظهر أن هذا المقطع، الوارد في كتاب الودغيري، نفسه، والمقتطف من كتاب الصباغ، السابق زمنيا على الديوانين، "العبير الملتهب" (1953)، وهو في الأصل مقالات، جدير، وبنهجه الكتابي، أن يثبت انتسابه إلى قصيدة النثر. يقول المقطع: "جردوني من ثيابي، فواحسرتي، لأني رضعت ثدي غير ثديهم، واستحممت في واد غير واديهم، ورتعت في جبال غير جبالهم، جبال ذات لهب ناصعة أبدية، والأرز القديم المبارك الذي يتهدهد على نسيم السحر فيسحر الأباب، وتلقيت الحكمة من (مدرسة الحكمة)، وداعبني شيطاني 'لى أراجيح صنوبر (وادي قاديشا) قرب مرقد جبران".
وفيما يتعلق بقصيدة النثر، وسواء في المغرب أو خارجه، ثمة ملاحظة على قدر كبير من الأهمية ونادرا ما يتم الالتفات إليها وبلورتها بوضوح. ومضمون هذه الفكرة أن قصيدة النثر لا تفترض أو لا تُكن أي نوع من "العداء" لقصيدة التفعيلة، بل هي نشأت بجوارها وسارت معها جنبا إلى جنب وبما يكشف عن نوع من "التواكب" بينهما في أحيان ورغم "التنابذ" الذي يباعد بينهما في أحيان أخرى وبسبب من الصلات المتفاوتة بين مستويات الصوت والدلالة والتركيب التي تمايز بينهما. يقول أحد شعراء قصيدة النثر بالمغرب وهو مبارك وساط وبما يدل على نوع من "التعايش" مع الوزن العروضي الذي هو قوام شعر التفعيلة: "كنت على وشك الغرق في البحر البسيط حين أنقذني بحارة عروضيون".
إن ما نقصد إليه، هنا، هو "النثرية"، "نثرية الإيقاع"، التي تفرض ذاتها داخل شعر التفعيلة نفسها. وهو ما تعبر عنه، ومن وجوه، نصوص محمود درويش ولا سيما في المراحل الأخيرة. بل إن هذه النثرية رافقت شعر التفعيلة منذ بداياته الأولى في الأربعينيات النازلة. ولعل هذا ما سعى واحد من أهم نقاد قصيدة النثر من العرب وهو الناقد صبحي حديدي إلى "تأصيله" في قراءة لافتة لمحمود درويش وقبله بدر شاكر السياب (1926 ــ 1964). وفي حال الشعر المعاصر بالمغرب تستوقفنا تجربة الشاعر السبعيني رشيد المومني الذي كان سباقا إلى كتابة قصيدة النثر بالمغرب في فترة كان فيها شبه إجماع حول كتابة الشعر اعتمادا على التفعيلة، ودون أن نتغافل عن تأثير المناخ الإيديولوجي الساخن الذي كان له دور على مستوى تكريس التفعيلة ــ ولا سيما ــ في علائقها بـ"الإنشاد" و"الكتابة المنبرية". ونتصور أن حنين رشيد المومني إلى هذه القصيدة ما جعله، وبعد عقدين من الزمن، يقدم على نشر نص "كمياء الاستحالة" (العلم الثقافي/ 30 دجنبر 1995) الذي هو أشبه ما يكون بـ"بيان" حول هذه القصيدة. وقد أثار، ورغم لغته الانسيابية التي لا تليق دائما بالبيانات، بعض النقاش. وكما كان متوقعا لم يكن من المناقشين والمعقبين من غير الشعراء، وبلغتهم المعهودة، مما كان له تأثير على مستوى "التأمل" في قصيدة النثر وتحريك "الأسئلة الممكنة" التي تمس "تداول" الشعر والثقافة في آن واحد بالمغرب.
غير أن التجربة التي تفرض ذاتها، أكثر، في هذا السياق، هي تجربة الشاعر المهدي أخريف الذي اتكأ على مرجعية مغايرة للمرجعية الفرنسية التي وجهت تجارب أغلب شعراء جيل السبعينيات الذي ينتمي إليه الشاعر شأنه في ذلك شأن مجايله رشيد المومني. وقد كشف عمل المهدي أخريف الأول "باب البحر" (1983) عن "منحى" مغاير داخل "أفق" قصيدة جيل السبعينيات، تلك القصيدة التي سعت إلى تعميق ما كان قد أسماه الراحل عبد الله راجع بـ"بنية الشهادة والاستشهاد" في دراسته التي تحمل العنوان ذاته (1987). ويبدو جليا أننا لا نلمس، في نصوص المجموعة سالفة الذكر، الإيقاع والنغم والقافية؛ بكلام آخر أدق وجامع: لا نلمس الموسيقى التفعيلية، ورغم اعتماد الشاعر التفعيلة. إن الشاعر، هنا، "يستولد طريقا آخر للقصيدة" كما قال في قصيدة "يقظة". وهو ما يمكن إدراجه ضمن "شرط الكتابة" التي هي قرينة نثرية الإيقاع (وقد سلفت إليها الإشارة) موزاة مع نثرية الدلالة، هذا وإن كان الشاعر لا يمضي، وفي "يقظته"، بعيدا على مستوى تعميق "الكتابية" بسبب من ذبابة "الغنائية" التي لا تفارقه.
ولا بأس من أن نشير إلى أن المهدي أخريف أفاد، في هذا النهج الشعري، من الشاعر العراقي الستيني حسب الشيخ جعفر في نماذجه الشعرية الأولى "نخلة الله" (1964) و"الطائر الخشبي" (1972) و"زيارة السيدة السومرية" (1974)، وقد أفاد منه من ناحية "التدوير" أو "القصيدة المدورة" الكاشفة عن تلك "التشكيلة الموسيقية" التي هي قرينة توالي الأسطر أو النغم العروضي الذي تختفي فيه القواقي. وتجدر الإشارة إلى أن هذه "النخلة"، "نخلة الله"، سيشير إليها، وبعد ما يزيد عن عقدين، شاعر ستأسره قصيدة النثر كليا؛ ونقصد إلى محمود عبد الغني في مجموعته "عودة صانع الكمان" (2004).
وعلى مستوى آخر تضعنا تجربة المهدي أخريف، وهي تجربة تستوقفنا لصلتها بموضوع قصيدة النثر بالمغرب، أمام "شعر الرؤية" (لا "الرؤيا") الذي يعد إحدى العلامات الدالة على قصيدة النثر. الشعر الذي يحفل بالوجوه والأمكنة والهوامش والتفاصيل والجزئيات... اعتمادا على "تقنية الاستعادة" أو "عين الكاميرا". وعلى ذكر "الرؤية" فثمة نص طويل "رسوم الفرطاخ على أسوار أصيلة"، وقد ضمه الشاعر إلى أعماله الكاملة (2003). يقول على لسان هذه الشخصية الهامشية وبما يؤكد على أولوية "الرؤية": "وأنا مشتعل في أسمالي الشرسة تغويني الرؤية لا الرؤيا". وكما أن "الفرطاخ" مشدود، وعلى مستوى التوازيات الدلالية، إلى العابر والهامش والمطرح. يقول الشاعر: "جلبابي منخور كالقلب وفضفاض جلبابي يسع البحر وعمري خاو كالبيداء عمري منبوذ".
وقد جعلت كلمة "الفرطاخ" الشاعر والناقد اليمني عبد العزيز المقالح يتصور، في كتابه "تلاقي الأطراف ــ قراءة في نماذج من أدب المغرب الكبير" (1987)، بأن هذه الكلمة التي لا تكاد تعني شيئا عند القارئ خارج المغرب تحدث شرخا في كيان القصيدة [...] وتحمل دلالة معينة تمتد إلى عمق الواقع المغربي وتترك في نفس القارئ هناك واقعا خاصا لا نحس به (ص 28). والغاية من هذا الاقتباس هي أن نشير إلى أن الكلمة لم تكن تعني شيئا بالنسبة للقارئ العربي فحسب، بل لم تكن تعني شيئا بالنسبة للقارئ المغربي أيضا. فالشعر بالمغرب، وفي تلك المرحلة المفصلية من التاريخ الثقافي للمغرب، مرحلة السبعينيات بهديرها الثقافي وزئيرها الإيديولوجي، لم يكن يحفل إلا بالرموز التاريخية والأقنعة الأسطورية/ البطولية في نطاق ما يمكن التعبير عنه بـ"القصيدة المثقفة". وأما أن يتم الاحتفاء بشخصيات هامشية، أو شخصيات تقع في عمق القاع الاجتماعي، فهذا ما لم يكن الشعر مهيئا ليكترث به. والشيء ذاته يقال عن القراءة النقدية التي كانت بدورها تعمق "النظرة التراتبية" للأشياء. ومن ثم يكون صاحب "باب البحر" قد استبق زمنه الشعري، ومهد ــ بالتالي ــ لقصيدة النثر التي ستتعمق دلالاتها أكثر في سياق "التحول" أو بالأحرى "الانقلاب الثقافي" اللاحق؛ هذا على الرغم من أن الشاعر يثصور هذه القصيدة، وعلى مستوى "الموقف النقدي الواعي"، "سورا قصيرا يسهل مطيه" كما ورد في نص حوار مطول أجري معه في العدد الأول من مجلة "مرافئ". وهو موقف يكاد ينطبق على أغلب النقاد المتحدرين من سياق السبعينيات إذ لا نألف واحدا منهم درس هذه القصيدة، بل وتمكن من أن يتحرر من "ثقافة" تلك "المرحلة" في أثناء "الإشارات"، لكي لا نقول "القراءات" أو "الدراسات"، لهذه القصيدة. وهو ما ينطبق أيضا على شعراء السبعينيات بدورهم عدا الشاعر الموهوب محمد بنطلحة الذي استثمر بعض ملامح هذه القصيدة في نصوصه الأخيرة.
وبعد هذه الملاحظة، التي سعينا من خلالها إلى تبيان البدايات الأولى لقصيدة النثر، وسواء من خلال شعر التفعيلة أو الشعر المنثور الذي سبقها، وهو إشكال نقدي متشع ومركب، فإنه يمكننا أن نخلص إلى الجيل الذي جاء بعد جيل السبعينيات، أي جيل الثمانينيات كما دأبت الآلة النقدية على توصيفه والذي انحاز أغلب شعرائه إلى هذه القصيدة. ولا يخفى اعتراض الكثيرين على المسألة الأجيالية، والسبب ــ في نظرهم ــ أنها "إجرائية" ولا تلامس الشعر في أعماقه. غير أنه يمكن الاعتراض على هذا الرأي بكون أن "التصنيف الأجيالي" ليس عديم الجدوى، إضافة إلى أنها ليست أبدا من باب "التبسيط النقدي" أو "التيسير الصحفي". فهو لا يخلو من "نمط تصور" للشعر في مرجعايته المتغايرة ولغاته المختلفة.
أجل لقد هيمنت قصيدة النثر داخل الأدب العربي خلال العقدين الأخيرين، بل وتسارعت وتائرها مع الثمانينيات النازلة والتسعينيات الصاعدة، وصارت تشكل متن الشعر العربي المعاصر كما أسلفنا. إلا أن جيل الثمانينيات، بالمغرب، وهو جيل غير متجانس، وهو ما تومئ إليه تسمية "الجيل" ابتداء، ليس مشغولا بأكمله بتكريس قصيدة النثر في الشعر المعاصر بالمغرب. فأسماء مثل محمد الصابر ومحمد عرش وصلاح بوسريف وعبد الدين حمروش... اعتمدت التفعيلة وعلى الرغم من عدم التقيد الصارم بهذه الأخيرة. وعلى مستوى آخر فعدم اعتماد التفعيلة لا يفضي بالضرورة إلى قصيدة النثر ولا يضمن "شرف الانتماء" لها. فأسماء مثل أحمد بركات ومحمد بوجبيري والزهرة المنصوري ووفاء العمراني وثريا ماجدولين وإدريس علوش... لا تعتمد التفعيلة في تجاربها المتضمنة في مجاميعها المنشورة، غير أن "شبح التفعيلة" يظل باديا في نصوص هذه الأسماء، مما يباعد بينها وبين قصيدة النثر. ومن ثم سيكون من الصعب القول بأن هذه التجارب تعبر عن قصيدة النثر في حضورها المستقل الذي هو قرين قواعد مخصوصة كامنة في اللغة ذاتها وفي العلاقات اللغوية وهي تفسح للذات مساحات داخل ما يسميه هايدجر "انبساط التكلم". ويظهر أن هذه القواعد أصعب من "نهج التفعيلة" التي تبدو في شكل عكازة تسعف على الاسترسال الخارجي وفي معزل عن التنامي اللغوي الموازي. فأغلب نصوص هؤلاء يبدو وكأنها وضعت لـ"الإنشاد" لا لـ"القراءة"، ولـ"الأذن" لا لـ"البصر". وقراءة مجموعة "على درج المياه الموعودة" (1990) لصاحبها "الشاعر الحزين" مبارك وساط (وقد سلفت الإشارة إليه) جديرة بأن تكشف عن جدوى "القراءة الهادئة"، لا "الإنشاد الهادر"، في "التعامل" مع قصيدة النثر.
وكما أن قصيدة النثر لا يمكنها أن تكون مجرد "تنويع" داخل الشعر، مما يقود إلى تسيييجها بتلك النظرة التي لا تحيد عن ثنائية القبول والرفض. إنها تنطوي على تصور للشعر ذاته وللحياة التي تنبثق منها، هذا وإن كانت لا تكترث بالمفاهيم أو باللغة الشارحة التي تندغم في صميم اللغة الشعرية. ثم إن تصورها للشعر لا يخلو من تراتبية فيما يتعلق بالعناصر التكوينية للعمل الشعري في خواصه النوعية، ولا تخلو هذه التراتبية بدورها من دلالات بالنظر إلى "التبدل" الحاصل في مقولات الفكر ككل ولا في الشعر بمفرده. وفي ضوء ما سلف يمكن التشديد على تراجع مكون "الصوت" في قصيدة النثر، في مقابل تدافع مكون "الدلالة" في جسد القصيدة. ومن التفاعل بين هذين العنصرين أو المكونين، وهو "تفاعل انشطاري"، منشأ "الكتابة" التي أشرنا إليها من قبل. ونقصد، هنا، إلى "الكتابة الداخلية" (كما نعتها أنسي الحاج في حواره السابق) تمييزا لها عن "الكتابة" ككل ومن حيث هي وسيط أو جسر بين المبدع والإبداع. وكتابة من هذا النوع يمكن إدراجها في نطاق ما عبر عنه جون كوهن، في كتابها "بنية اللغةالشعرية" (1966)، بـ"القصيدة الدلالية". إلا أن هذه القصيدة، وفي تمركزها الدلالي، لا تخلو، وكما يقول جون كوهن نفسه، من "اعتبار جمالي".
وضمن الدلالة، التي تتسرب في مسارب الكتابة، يتكشف مفهوم الشعر الذي يلتبس بذلك النوع من "النسق الثقافي" الذي يومىء إلى مجمل التحول الذي أفضى بالشعر ككل، وقصيدة النثر تعيينا، إلى مفارقة ظلال القضايا الكبرى ودعاوى الالتزام وفيوض الإيديولوجيا... وغير ذلك من الأشكال التي واكبت ظهور قصيدة التفعيلة في سياق الاعتداد أو المد القومي وحركات التحرر الوطني. لم يعد يهم الشاعر أن يكون "فم الجماعة" أو "ذاكرة للجماهير" كما يقول عبد العزيز موافي في كتابه "قصيدة النثر" (2004). ولم تعد تهمه تلك العوالم الكبرى ولا العداءات الإيديولوجية... مقارنة مع عوالمه الصغيرة الدانية التي أخذ يتلذد بكتابتها بجسده. ومن ثم فتمجيد "جورب" أو رثاء "حذاء"، وكما في مجموعة إدريس علوش (الأخيرة) "مرثية حذاء" (2007) مثلا، صار يحظى بأولية ملحوظة مقارنة مع رثاء شهيد أو تمجيد بطل كما قال من قبل الشاعر حسن نجمي الذي كان قد افتتح مساره الشعري بديوان شعري إيديولوجي زاعق "لك الإمارة أيتها الخزامى" (1982). وخلاصة القول، في هذه النقطة، ثمة، أو بالأدق يشترط، "نص كتابي" ينأى بالقصيدة، قصيدة النثر، عن "العقائديات الكبرى"، ويقوض، من ثم، "المركزيات الإنشائية" أو "السباحة الإنشائية" كما ينعتها عباس بيضون في حوار لافت معه حول قصيدة النثر (القدس العربي/ الأربعاء 23/08/19995). إلا أن هذا التقويض، وغير المدروس، في أحيان كثيرة، أسقط العديد من الكتابات الشعرية في ذلك النوع من "الشعر السهل" الذي رأى فيه ناقد كبير للشعر وفي حجم جابر عصفور، وفي كتابه "في محبة الأدب" (2003)، "كلاما رطيطا" و"شعر صراصير".
وبالنظر إلى الصورة (المرئية) ـ التي صارت إحدى العلامات الدالة على العصر في إطار ما يصطلح عليه بـ"حضارة الصورة" ـ لا يبدو غريبا أن يتم التشديد، في قصيدة النثر، على "الرؤية" (Vision) في ارتكازها على "العين" أو "الحدس الانطباعي"... بدلا من "الرؤيا" في ارتكازها على "الذهن" أو "الحدس الصوفي" أو "الميتافيزيقي"... إلخ. ويمكن تأطير تجربة حسن نجمي، ومنذ مجموعته المفصلية "حياة صغيرة" (1995)، ضمن "شعر الرؤية". ويضعنا هذا الشعر، ودون التغافل عن منحاه العالمي أيضا، في صميم قصيدة النثر في اشتراطاتها الداخلية الصعبة وفي انشدادها، وعلى مستوى الدلالة، إلى الأشياء والتفاصيل والوجوه كما هي ودونما أي "تدخل" (سافر) من قبل الذات بسبب من "إرادة القول" أو "انبساط التكلم". وشعر من هذا النوع قرين "تقنية الاستعادة" على مستوى "الالتقاط" أو "الأداة"، وقرين "الحياد العاطفي" على مستوى "الشعور". هذا بالإضافة إلى أنه لا يكشف عن "المركزي" أو "العقدي" أو "الجوهري" على مستوى الاعتبار الدلالي، ولا عن الزائد البلاغي على مستوى الاعتبار الجمالي. فالشيء يغدو،هنا، بمثابة "المُوَلد" أو "الرَحِم" (الدلالي) جنبا إلى جنب "الاستعارة البيضاء" التي تفترض ولا تفترض "التأويل الدلالي" الذي تحدث عنه إمبرتو إيكو في كتابه "حدود التأويل". فالأمر، هنا، أشبه بما اصطلح عليه، ومنذ تجربة رامبو (1845 ــ 1891)، بـ"الشعر الموضوعي". ولعل هذا الموضوع ما كنا قد سعينا، ومن خلال قصيدة النثر ذاتها، إلى دراسته في قراءة تحمل العنوان نفسه "شعر الرؤية" (2005) كرسناها لتجربة حسن نجمي.
إن ما كان المهدي أخريف قد نعته، في نص"رسوم الفرطاخ على أسوار المدينة"، بـ"الرؤية" هو ما سيتم، وفي قصيدة النثر، إنزاله إلى حدود المرئي. غير أن هذا "التكتيك" الشعري يستلزم "عينا لاقطة" أو "باصرة تشكيلية"، هذا بالإضافة إلى "الفضاء البصري" الذي ينتظم في نطاقه، وعبر لعبة الإضاءة والاستضاءة، الفضاء الدلالي. ويتأكد الفضاء البصري، أول ما يتأكد، من خلال عدم "حياد الصفحة" حيث استغلال "البياض" والتوزيع المدروس للأصوات والمفردات والتراكيب؛ وكل ذلك في المنظور الذي يفضي إلى "إشراك العين" أو استدراج "قناة البصر" إلى آفاق التلقي. هذا ولا ينبغي أن نتغافل، وفي سياق "قناة البصر"، وفي إطار من "التفضية النصية"، عن "الرسومات" التي تصاحب النصوص تأكيدا لمبدأ "المصاحبة": مصاحبة الشعر للتشكيل؛ وإن كانت هذه التجربة لا تزال محدودة في الشعر المعاصر ككل بالمغرب، ورغم "الطفرة" التشكيلية التي يعرفها هذا الأخير ومنذ فترة الستينيات.
ويقودنا التشديد على "قناة البصر"، في نطاق قصيدة النثر، وفي إطار من "حضارة الصورة" أو "التحول المرآوي"، إلى تجربة أخرى، تندرج، وبحدة، في القصيدة ذاتها. ونقصد، هنا، إلى تجربة جلال الحكماوي، وخصوصا في مجموعته الأخيرة "اذهبوا قليلا إلى السينما" (2005). فكل شيء، وعلى مستوى المراكز الدلالية، يتحول إلى سينما؛ بل إن العالم بأكمله يغدو "شاشة". غير أن ما يهمنا، هنا، ليس تأثير السينما الكامن في المستوى الدلالي فقط، وإنما تأثيرها الذي ينقسم على "الوعي الكتابي" ذاته. ومن ثم، وفي النص سالف الذكر، منشأ "الإيقاع التصويري" القائم على ما يشبه "تقنية الفيديو" و"تقنية المونتاج السريع"... أو، وكما يلخص عباس بيضون، "الإيقاع المونولوغي الحواري لحياة التجوال والإغراء المونتاجي الكولاجي والفيلمي للتسكع المديني". يتعلق الأمر، هنا، بشعر "كأنما يصدر عن عين كاميرا. كاميرا تنتقي الصور والمشاهد وتولفها في شريط لغوي بدل النيغاتيف الجيلاتيني" كما يقول يوسف بزي في مقال حول "قصيدة النثر والفنون البصرية" يعالج فيه الموضوع نفسه في قصيدة النثر بلبنان. إلا أن الوصل بين حسن نجمي وجلال الحكماوي ومن ناحية "اليومي" ذاته يفرض التمييز بين نوعين من هذا الأخير: "اليومي المصفى" كما نجده عند الأول، وإن كان قد خدش هذا "الصفاء" في مجموعته الأخيرة "على انفراد" (2007)؛ و"اليومي" عند الشاعر الثاني، وبما في ذلك مجموعته الأولى "شهادة عزوبة" (1997)، والذي تتخلله نبرة سوريالية تتمظهر على مستوى السخرية السوداء والكتابة الأوتاماتيكية (وإن في مواضع محدودة) والرغبة الملحة والجسدانية المقصودة. وفي هذا الصدد لا ينبغي أن نتغافل عن صاحب مجموعة "كلما لمستُ شيئا كسرتُه" عبد الإله الصالحي الذي ينخرط بدوره ضمن حلقة الشعراء الملاعين من "المتعامدين" أو "الإسرافيين" من المنخرطين في "السوريالية المداورة" في "تحولاتها العربية" اللاحقة. وقبل أن نخلص إلى النقطة الموالية لا بأس من أن نشير إلى أنه سيكون من الصعب أن نصنف، وبشكل صارم، هذين الشاعرين ضمن السوريالية، وهو ما قد يوافق عليه الشاعران بدورهما. غير أنه يمكن أن نعترض، هنا، على أننا ننظر إلى السوريالية كـ"نبرة" تتسرب في مسارب الكتابة وليس كـ"تحققات نصية" ترادف الكتابة ذاتها وبمعناها المطلق.
غير أن الاحتفاء بـ"اليومي" و"العابر"، وهو مؤثر من ناحية كون أنه عابر وزائل، لا يتمظهر، أبدا، وفي تجارب جيل الثمانينيات، من خلال الكتابة فقط. فثمة تجارب، وقد سلفت الإشارة إلى بعضها، يبدو أنها وضعت لـ"الإنشاد" وليس لـ"القراءة". وفي مقدم هذه التجارب تأتي تجربة أحمد بركات (1960 ــ 1994) وسواء في عمله الأول "أبدا لن أساعد الزلزال" (1991) الذي ظهر قبل وفاته المفاجئة قبل ما يزيد على عقد من الزمن أو في عمله الثاني "دفاتر الخسران" الذي ظهر في الذكرى الأربعينية لوفاته (1994). أجل قد لا تخفي، في هذه التجربة، ما كان قد نعته الناقد المغربي نجيب العوفي، بـ"السيولة النثرية المتحررة". غير أن هذه الملاحظة لا تحول دون التذكير بالكيفية التي كان أحمد بركات يقرأ بها نصوصه في المهرجات واللقاءات، كان يقرأ بجسده ولحمه وعلى أساس من "الاحتجاج المتطاير" الذي يلوي بالإنشاد، بل يبدو وكأن هذه النصوص وضعت للإنشاد.
وفي السياق نفسه لم تكن جميع النصوص تحفل باليومي والعابر حتى وإن كان هذا الاحتفاء يكاد يمثل المنحى العام أو الغالب داخل تجربة االجيل. ثمة تجارب تسعى إلى مفارقة اليومي وبالتالي تجسيد نوع من "الحدس الأسطوري" على نحو ما نعثر في مجموعة "سقوف المجاز" (1999) لعبد السلام الموساوي، هذا وإن كان الشاعر لا يحيل على أي أسطورة أو رمز أسطوري في المجموعة. فهذا الحدس يكمن في "النص التحتي" للمجموعة. وكما أن هناك تجارب سعت إلى التعبير عن "الحدس الصوفي" أو الارتقاء إلى تلك "النقطة العليا" التي تحدث عنها المتصوفة. ولا داعي للتذكير بالعلاقة الوطيدة التي تصل ما بين الشعر والتصوف في ذات الفضاء الذي تختزله عبارة "الشعر تصوف والتصوف شعر"؛ وليس من شك في أن موضوع من هذا الحجم موضوع "مركب"، وقد يتطلب عمرا أكاديميا. ونحن لا نعدم نصوصا كثيرة، في جيل الثمانينيات، لشعراء كمحمد الصابر ووفاء العمراني وإدريس عيسى وصلاح بوسريف... سعت، وبتفاوت، إلى الإفادة من "المنجز الصوفي". غير أن أغلب هذه التجارب لم تصهر التجربة الصوفية في بوتقة الإبداع، لقد بدت هذه التجربة "برانية" و"مقحمة" بل وفي شكل "موضة" يتم التستر بها على "عورات" الإبداع. هذا بالإضافة، ولعل في هذا أهم نقد يوجه للتجربة، عدم تمكن أغلب هؤلاء الشعراء من تشكيل "نص كتابي" مع أن التصوف يسعف على مثل هذا التشكيل الذي هو في الوقت ذاته تشكيل/ نفي للذات في مدارج الإبداع.
وفيما يتعلق بقصيدة النثر لدى الجيل اللاحق على جيل الثمانينيات فهو ما يتطلب بدوره دراسة مستقلة. أجل إن هذا الجيل، وللمناسبة، وإلى حد ما، وشأنه شأن جيل الثمانينيات، لم تتضح ملامحه بعد. غير أنه واصل، ومنذ إرهاصاته الأولى، وبطريقته، الإلحاح على "الـ"لن" التي كان قد أطلقها أنسي الحاج في شبابه. وفي السياق نفسه يمكن التشديد، على أنه، وفيما يكشف منجزه المحدود، انحاز، وبالكلية، لقصيدة النثر، هذا إذا ما لم نقل بأنه جعل منها "بديلا" للشعر ذاته لا مجرد تنويع داخله. لقد فكت القصيدة، في تجربة هؤلاء، ومع أسماء كعزيز أزغاي ومحمود عبد الغني وعدنان ياسين ومحمد عابد، صلاتها مع التراث والماضي، وبدت بالتالي بدون جذور وأشبه بـ"تجربة" أو "نص لقيط". وعلى الرغم من هذا "الانقطاع" فتجربة هؤلاء تتقاطع مع تجربة شعراء جيل الثمانينيات، ولا سيما من ناحية ما كنا قد عبرنا عنه، في قراءات تطبيقية لنصوص لهؤلاء، بـ"تصعيد الحاضر" و"تشتت الذات" و"انقسام الوعي" و"التسكع المديني" و"القيلولة الوجودية" و"العولمة السعيدة"... و"اللاعقلانية المدمرة". وكل ذلك في المنظور الكاشف عن مركزية الذات الكاشفة بدورها عن الكائن المشاكس والخاسر والمعانق للخطأ أو "طاولة الخطأ" كما ورد في تعبير من "عودة صانع الكمان" سالفة الذكر، وكل ذلك أيضا في المنظور الكاشف عن اجتثات "النبالة اللغوية" موازاة مع الإجهاز على "البنية الصوتية" للشعر.