الانتصار للقص المتجدد في موضوعاته وفي أساليبه وفي طموحه إلى خلخلة لحظات الطمأنينة المخادعة
عند الانتهاء من قراءة المجموعة أعلاه، ينتاب المتلقي شعور خاص تجسد في حالتين:
أ- امتلاك ناصية القص من قبل سارد/كاتب شاب، انخرط في الكتابة القصصية -حسب علمي- في العقد الأخير، وإن كان داء القص- كما تفوح به هذه التجربة- قد يعود إلى سنوات خلت.
ب- الإصرار على كتابة قصة قصيرة مختلفة عن السائد، على اختلاف المسميات (تجريبية/ حداثية/جديدة/ متجددة/ طليعية...)
والدافع الأساس الذي تحكم في هذا الشعور، ينبع من النص ذاته الذي ابتعد- كما ابتعدت تجارب سابقة- عن «التيمورية»، أحيانا، وعن السقوط في «التجريبية الشكلية»، أحيانا أخرى.
هكذا اخترقت هذه التجربة مستويين رئيسيين:
1- مستوى «البورتريه» الذي لم يعد خاضعا، كما هو الشأن في تجارب سابقة وموازية، للوصف السكوني، حينا، أوللإغراب (الكاريكاتور/الشذوذ أوالإستثناء) حينا آخر. (شهرزاد/سيدي كروكس/قبعة..)
2- الحدث الواقعي الذي تجاوز فيه السارد المرئي والمسموع والملموس نحو آفاق أخرى. (برد وسلام/كلكن عذراوات/الفال/نهاية وبدايات.).
والقاسم المشترك بين المستويين، تجسد في كون عملية الاختراق استندت إلى تنويع أساليب السرد الذي أنتج المحكي «الانساني» الذي يتجاوز الزمان والمكان، من جهة، ويسمح بطرح- بشكل غير مباشر- إشكالية الكتابة القصصية، من جهة ثانية. (PLAGIAT
ويمكن إجمال هذه الأساليب السردية في التالي:
أ- تنويع الخطاب الحكائي الصادر عن المرسل بالتنويعات التالية:
- التنويع المستوحى من المحكي الشفهي الذي يتداخل فيه المسكوك الثابت في بنيات محددة، بالكلام اليومي الذي ينزل أحيانا، إلى النثرية العادية، ويرتفع، أحيانا أخرى، إلى الشعرية. وتمثل قصة (الفال) نموذجا لهذا التنويع المحكم بين ما سبقت الإشارة إليه. فالمقاطع القصصي الثلاثة (ها تخمامي/ها قلبي/ها باش ياتيني الله) تشبه حركة «السمفونية» ذات الحركات الثلاث، التي يتنوع فيها الإيقاع الموسيقي- وفي القصة الإيقاع السردي- حسب «الثيمة»، أولا، وحسب الوضع النفسي، ثانيا.
في المقطع القصصي الأول (هاتخمامي) تسود ثيمة «الانتظار العبثي»، مرفقة بإيقاع بطيئ يعكس تلذذ الذي يتحكم في إشاعة هذا الجو من التيئيس المشوب بضغط سلطة قاهرة تتحكم في كل شئ.( فتضيع ملامح الجميع ونتلمس الحائطين الضيقيين اللذين نخالهما مع مرور الوقت يزحفان إلينا من كلا الجانبين. نتنفس بصعوبة كبيرة وحبيبات العرق تتساقط ثقيلة يسمع دويها قويا وتتواتر على إيقاع قرع الطبول، لايقطعها سوى وقع الطابع الغاضب على المكتب.) ص. 18.
القلب الساخر للمتعارف عليه، لغة ومواضعات حكائية، واجتماعية أيضا، سواء تعلق الأمر بالمتن القصصي ذاته( عنوان -مقطع سردي- شخصية حكائية..) أو تعلق ذلك -من ناحية أخرى- بنوعية القضية المطروحة، وتجلياتها في الزمان والمكان والإنسان.
هكذا يصبح العنوان (برد وسلام) عوض، «خير وسلام»، ويتحول «ديك» شهرزاد- بالمعنى الرمزي- إلى (دجاج مشوي) ص.9، و»شهرزاد» الأسطورة إلى «شهرزاد» التي (تلبس تنورة قصيرة أو سروالا ضيقا أوهما معا) ص.8. ولهيب النار (يذيب كل شئ في طريقه) ص.24، مدمرا ما تعيشه عاملة السردين من بؤس يومي. فالنار، وقد نزلت بردا وسلاما، دواء لداء وبيل. و(كروكس) المعتوه أكثر عقلانية -وهو الفضاح لكل شئ- من كل سكان المدينة،واللقاء بين «الرجل» و»المرأة» لايكون إلابداية لنهاية، بل (نهاية لبدايات). ص50.
* التقطيع السردي الذي قد يقوم على العناوين المستقلة، دون أن تتوقف السيولة السردية المتجهة نحو هدف محدد. (الفال/شهرزاد/..)، أو قد يقوم على الحوارية التي تتحكم في التص، من بدايته إلى نهايته (قصة «شئ كالقصة» المنسوجة من حوار»اإيميلات»، أو الرسائل الالكترونية القصيرة. وقد يقوم- مرة ثالثة- على الحوار المباشر الصادر عن الشخصية بفضل «سارد عليم»، او قد -عن طريق السارد العليم دائما- يقوم على ما تطمح الشخصية إلى قوله، فتمنعها عوامل كثيرة ترتبط بالعجز الذاتي، حينا، او الموضوعي (فقر/فشل/عزلة/ حظ عاثر..). هكذا يتحول السرد -ممتزجا با لوصف إلى استبطان لما كان من الممكن قوله عن طريق شخصية مأزومةز (دخان في كل مكان. مي هنية وباقي الجيران يحاولون فتح الباب. فتحت عينيها، تراهم من النافذة. النافذة تعكس موكب الشموع وصورتها الجديدة. نصف بشعر وآخر من دون، أملس كمؤخرة بنت جارتي.خندق وهضبة بعيدان بمساحة سبحتين أو ثلاث. لم تحاول الهرب. لم يحركها شئ، لاسواد فم مي هنية، لاحذاء..) ص. 26.
*- يسهم في هذاالتنويع السردي عامل «التناص» الذي لم يكن مجرد عتبات لبعض نصوص المجموعة من خلال أسماء مميزة (بورخيس/جوته/بومارشيه/هايدجر..)، بل حضر التناص، في صلب الحكاية. ف»ديك» شهرزاد فاعل ومفعول به. فاعل عند انهائه للحكاية، ومفعولا به عند انتقاله إلى طبق شهي، واشتهاء السارد لمنطقة الصدر الأثيرة لديه. فاعل من حيث كونه كناية عن الحياة والموت، الفحولة والعجز، ومفعولا به عندما يعكس وجوده تكامل الأضداد (..الديك، العرف، العرف أحمر، الديك/شهرزاد/شهريار، الديك العرف وكرونوس/شهرزادالغواية والكلام/الديك والجناح/شهريار الفحولة والانتظار/الديك يروي ويروى والرواية/الديك شهرزاد وشهريار، فكم تمنيت أن يكون على مائدتي الليلة.) ص.12.
وحبه للمرأة، مثل حب (آدم للشجرة) ص.14. والشخصية الرئيسية في قصة (برد وسلام) تعيش أحلام اليقظةب( جناحي «إيكاروس». قلت لها أن لاتقترب من الشمس فهي تحرق كعود ثقاب). ص. 26.
وعجز الكاتب عن الكتابة، يعود إلى كونه ظل أسير عوالم كتابه المفضلين، أو -من ناحية أخرى- أنه لم يتمكن من تجاوز عيون عديدة لكتاب ومتلقين تطارده في هذه اللحظة التي حفلت بأصوات ووقع خطوات، ومواقف شخصيات لاتنسى في نصوص قصصية ومسرحية مختلفة. في قصة ورد ما يقرب من العشرين كاتبا وشخصية إبداعية، ساهمت في تبئير أزمة الكاتب- وهو الرافض للكتابة السهلة-
العاجز أمام البياض.
- حضور الكاتب/السارد -داخل النص- من جهة، وحضور الكاتب/ لشخصية، جهة ثانية، ساهم في تعدد -بفضل تعدد الضمائر- وجهات النظر للقضية المطروحة، وهي وجهات تعكس، بالطبع، ما هو متداول اجتماعيا.( تعيدني ابتسامتها ونسيم المكيفين، ولا أعرف هل أنا أم هي أم أنت.اختر أنت وسأختار أنا هي. مع كل كلمة يتساقط جزء منها، وشبح قرب شبح ، مصلوبا على كرسي، بعينين غائرتين بفم بلا أسنان، بأنف مشقوق وصدر مثقوب، بيدين بلا أصابع وقدمين بلا كعبين ورائحة الفروماج المحترق. أحمل مفاتيحي، أدفع الحساب، وأغادر بسرعة خوفا من العدوى.) ص. 73.
تنتصر هذه المجموعة، إذن، للقص المتجدد في موضوعاته، وفي أساليبه، وفي طموحه إلى خلخلة لحظات الطمأنينة المخادعة، سواء تعلق الأمر بالسارد ،بمرجعياته العديدة، أو بمتلق آخذ في التشكل، عبر ذائقة أدبية تقوم على بذل جهد معين للتعامل مع هذه النصوص الفائحة بحرارة تجربة إنسانية مفتوحة على أمداء الرغبة والموت -بالمعنى الرمزي- دون أن ترفض الحياة التي لايتردد السارد في اقتناصها يكل السبل. سلاحه: الحكي عن الحاضر، بعيدا عن «نوستالجية الماضي، منفتحا على الآتي الذي يشي بما هو أمر.
هامش: أيمن قشوشي «كلكن عذراوات» مجموعة قصصية مطبعة دار الديوان بآسفي، ط1/ محدودة السنة: 2010.