ذاكرة الغياب

عبدالرحيم مؤدن

إلى محمد الحبشي..

 

 يكاد الفريق يغادر الصورة الفوتوغرافية  عاقدا العزم على الإنتصار،أو لعله قد انتهى للتو من المباراة، بعد أن بلغ مسمع الناظر تلاحق الأنفاس، وأحس بحدة النظرات المصوبة نحو المصور،الصادرة عن أجساد متوثبة، تستطلع المجهول. الفرقة تامة العدد،واللاعب الإحتياطي الوحيد ترك فجوة  لاتتعدى الشبرين، بينه وبين آخر لاعبي الصف الجالس ،يسارا، دون أن يرتدي قميص الفريق. لعله معوض حارس المرمى الذي يرتدي،عادة، قميصا أمتن ، وبكمين طويلين.

الصف الخلفي  مكون من ستة لاعبين. والنظرة السريعة تكشف عن مقاييس الإختيار التي انبنت على طول القامة، وتقدم السن، وفعالية الوظيفة داخل الملعب.وأوضاع الوقفين أكدت على هذا التميز،من خلال نوعية الوقفة  التي  انتسب فيها الواقفون إلى مرجعيتين أساسيتين:

- مرجعية سينيمائية كما جسدتها وقفات بعض الواقفين الذين قلدوا أشهر ممثلي مرحلة الستينيات. فالواقف،على اليمين، قلد  "أودي مرفي"أو " جاري كوبر"، والذي جاوره مال قليلا إلى الأمام، واضعا ساعديه على كتفي رفيقه مقلدا  اللاعب الشهير آنذاك" سانت ماريا"أو " بوشكاش"...أما الواقف الثالث،فقد مال قليلا جهة اليسار، منحنيا نصف انحناءة،وكأنه  يتوجس من آلة تصوير مخادعة قد تغيبه من الصورة التاريخية..  وفي أقصى اليمين لاعب المدينة الشهير نافخا صدره،مثل أبطال عروض " كما الأجسام" التي كانت تجارة رائجة ،في ذلك الزمن، تأثرا بمحاربي روما القديمة، وأبطالها المعاصرين في السينما الإيطالية والأمريكية مثل " مارك فوريست"  و" جوردون سكوت"، و" ستيف الريفز"، و" جوليانو جيما" في وقت لاحق..

- أما المرجعية الثانية ،فكانت مرجعية رياضية،استوحت فريق كرة القدم الإسباني الشهير" ريال مدريد"،من خلال أسماء "أيقونية" راسخة مثل" خينطو" ،و" ديستيفانو"..

أما الصف الأمامي فقد ضم الجالسين، بما فيه عنصر الإحتياط، الذين تقاربوا في أعمارهم ،وخجلهم أيضا، ما عدا الجالس الثاني – وهو الآن من ضباط الوقاية المدنية- الذي كان منشرح الأسارير، يقترب من  شكل المحترفين لطبيعة جلسته، وعضلاته النافرة من ساقه المطوية المستندة ركبتها إلى الحشائش اليانعة.خلف الواقفين والجالسين امتد الفضاء الطبيعي بريئا  عذريا ،تفوح  منه روائح الصحة  و"البال الخالي"، إلى أن توقف عند حدود دور ثلاثة لم تتجاوز  الطابق الواحد..

في أقصى صف الواقفين ،يسارا،  كان محمد الحبشي ، بملامحه المعهودة:تعقيدة الجبين،والرأس الحليقة بشعرها الأكرث ،في درجة الصفر التي لاتزوغ فيها شعرة عن موضعها،والشفتان منفرجتان  استعدادا للكلام في كل الموضوعات.

كان  قميص الفريق – كما هو شأن كثير من منتجاتنا آنذاك- من مصنوعاتنا الوطنية.أخضر اللون، ويتوسطه  شريط مثلث أحمر  بشكل مقلوب.واللونان  معا تصريف لمعجم العلم المغربي الذي مازال متداولا في الحياة اليومية وفي واجهات المنازل،ومبيعات التجار، وملابس الأعياد، وشعارات الأندية الرياضية والإجتماعية والفنية.أذكر أن أول نزولي لشاطئ المهدية – رفقة أخي رحمه الله- كان بلباس من صنع  محلي بعد أن ألح الوالد- رحمه الله- على الخياط بضرورة استعمال اللونين- الأحمر والأخضر- لوني العلم المغربي. ولم يخرج لباس الفريق عن هذا التصور ما عدا بالنسبة للاعب الثاني ، في  صف    الواقفين،  الذى ارتدى " الدجين" ، المستعمل طبعا،الشهير آنذاك ب" بلو دولار"،والذي كان يصل ثمنه إلى خمسة عشر درهما، وما أدراك ما ذالك القدر في بداية الزمن الستيني من القرن الماضي..اا.ويبدوأن رئيس الفريق  الذي توفي في حادثة عبثية في مرحلة لاحقة، قد تجاوز صرامته المعهودة في حق اللاعب المذكور، بعد ان اقتصر دور هذا الأخير على إضحاك الفريق في لحظتي الهزيمة أو الإتتصار. كان تابعا للبطل" ديليب  كومار" في" مانكالا البدوية"، من الأفلام الهندية،أو  مقلدا ل" إسماعيل ياسين"، في حركاته الشهيرة أمام " فريد الأطرش".أما الكرة، فلم تخرج عن سياق "الصناعة الوطنية"، بلونها الغامق، والحارس ، بحجمه الضئيل، يلامسها بكفيه ، من الجهتين، وكأنه يخاف عليها من الكس، أو الذوبان..

 استطاع محمد الحبشي أن يحافظ على معادلة التغير في الثبات، والثبات في التغير.فكنت تراه سائرا ،  بمشيته المتأنية، وكأنه لا يسير، وكنت تراه ، في وقفته المعهودة،  بزاوية من زوايا المدينة،وكأنه لا يتوقف عن الحركة. وهذا المظهر الجسدي هو المتحكم ذاته في  سلوكه اليومي،وتعليقاته، وبعض كتاباته الزجلية،أو مشاركاته المفاجئة لنا في برامج تلفزية  أو إذاعية موجهة للشباب.

لم يكن متعجلا  في الذهاب والإياب. القميص المطوي الكمين، والبنطال المحاذي للبطن ،على الطريقة المصرية، والنعل الخفيف البني اللون،والخط الفارق، يسارا لمّة الشعر، دون أن تتزحزح شعرة واحدة  عن موضعها  في الرأس الحليقة المستوية بشعرها الأكرث الذي ما ظل على حاله إلى أن غيبه الموت.

كانت له جولتان: الأولى صباحا ، والثانية مساء. وما بينهما كان يرابط بالمنزل، بعد أن تقاعد عن العمل في السنوات الأخيرة. وفي كل هذه الأوضاع ،كان مصرا على أن يكون كما يريد لاكما يريد الآخرون. كانت لقاءاتنا متباعدة تحكمها الصدفة ، والضرورة أحيانا. وفي كل الأحوال، كان" محمد الحبشي" طالعا من الزمن الستيني، وما عداه مجرد لغو. ويكفي أن تسأله عن علامة من علامة ذلك  الزمن الرخي، إنسانا أوحيوانا أونباتا أو بناء، لينطلق في سرد المحكيات العديدة، بذاكرة طازجة  انتصرت على عوادي الزمن، والقهقهة الصاخبة تخفف من تعقيدة الجبين، تتخللها مواقف هزلية متتابعة عن شخصيات انحفرت في ذاكرتنا بمنطقة " سينما الرياض" وماجاورها.   

كان يتكلم صامتا، ويصمت متكلما..إلى أن غاب في صمته ..في كلامه..

محمد الحبشي..

وداعا.