مظاهر الصراع الثقافية حول مصادر الثروة

عبدالرحيم مؤدن

نتسب الرحالة الى عائلة مشرقية قدمت الكثير للكنيسة انطلاقا من روما، وصلاتهم القوية مع مختلف الطوائف الجينية المسيحية النساطرة شرقا وغربا)18 من المقدمة.  وهذه الوضع المتميز هو الذي منح للموصلي، وعائلته بصفة عامة، علاقات واسعة، ومؤثرة، مع بلاطات فرنسا (لويس 14 وإسبانيا والبرتغال…)، فضلا عن الفاتيكان، وبركات البابا، التي مهدت له الطريق (فكان مصرحا له أن يمضي حيثما امتد تراب في القارة وخفقت عليه الأعلام الإسبنيولية، من دون أن يتعرض للمضايقات التي كان يتعرض لها سواه من المسافرين، فكان يمر بنقاط التفتيش المتشددة في المستعمرات الإسبنيولية، من دون أن يخضع متاعه اوحقائبه لأي تفتيش، في وقت كانت أعمال البحث عن الذهب والفضة في أوجها،، وعقوبة المهربين الإعدام) 18 من المقدمة.

الرحلة- وهي أول رحلة شرقية إلى العالم الجديد- لا تخلو من غموض، من جهة، ومن تساؤلات عديدة، من جهة ثانية، حول طبيعة أدوار الكنيسة السياسية والإقتصادية والإجتماعية في المستعمرات الإسبانية،وعلاقتها بالصراع الإستعماري، في العالم الجديد، مجسدا في تكالب القوى الإستعمارية( الإنجليزية والهولندية والفرنسية وحتى البرتغالية، التي كانت في نزاع مرير على النفوذ مع الحكام الإسبان المستأثرين بحصة الأسد من ثروات القارة…) 24 من المقدمة.

والنص يكشف،في مواقع عديدة، عن بعض مظاهر الصراع بين القوى المتصارعة والمتنافسة أيضا، حول مصادر الثروة بالعالم الجديد، الذي أصبح  مجالا مستباحا، منذ الكشوفات البحرية، للقوى الغازية المختلفة بلدا، والموحدة هدفا.(.. ولازلنا مسافرين والرياح تلعب بنا، ونحن في نصف الدرب فصادفنا مركبا أنجليزيا موسوقا بالعبيد السود عددهم سبعمائة نفس، قد جاؤوا بهم من بلاد برازيل من حكم البورتكال حتى يبيعوهم) والاشارة واضحة الى تسويق العبيد وبعيدا عن متاهات التاريخ بتأويلاته المتعددة، سنحاول تحليل الخطاب الرحلي الصادرعن الرحالة، أثناء إنجازه لرحلته نحو (الإٌقليم الرابع الذي كان مخفيا عن الأبصار ومستورا عن الأفكار..). من ديباجة الرحالة.ص.28/29.

الرحلة والنمط:

لانكاد نعثر، أثناء قراءتنا للرحلة- وهذا قناع من الأقنعة- على دوافع السفر ،أو
الإرتحال، بشكل مباشر أو صريح.وتقدم لنا ديباجة المؤلف بعض المؤشرات الملتبسة الدالة على طبيعة هذه الدوافع، وأهمها الدافع الديني المستضيء بسيرة المسيح وأتباعه من المخلصين الذين(.. كانت أشعة أنوارهم تشرق وتنير تلك الأقاليم المظلمة، حتى إنهما بكرازتهم طهروا المسكونة من عبادة الأوثان، وأرجعوهم من الضلالة والطغيان، واختاروا لهم تلاميذ وأخلافا، وخولوا تلك المواهب وإنعام الروح القدس، لكي يتولوا من بعدهم الرئاسة والتدبير، جيلا بعد جيل، متداومين إلى انقضاء العالمين).28.والقولة تشير الى دور رجال الدين في تاسيس مملكة الله من طرف جماعة التبشير بعد زيارة القدس، بملابساته الدعوية، والذي سيكون المحفز على السفر نحو (العالم الرابع)- العالم الجديد أو الهند الغربية- الذي (كان مخفيا عن الأبصار ومستورا عن الأفكار، حتى أن القديس العظيم معلم الكنيسة المقدسة مار أغسطينوس كان يظن أن هذا الإقليم غير مسكون من البشريين) 29.

هكذا اتخذت الرحلة- تبعا للسنة المتبعة- وجهتها نحو قبر المسيح عليه السلام، لتعرج، في مرحلة تالية، على بلدان أوروبية، وموانئ عديدة، لينتهي به المطاف بميناء(قادس) الذي امتلأ بالسفن المتجهة نحو (هند الغرب} أمريكا الجنوبية- والتي سيركب إحداها ،متجها نحو هذه البلاد الخاضعة للسيطرة الإسبانية.وهو في تنقلاته يتحرك كرجل دين بسيط يريد الوصول الى مكان محدد بقدرة الرب وببركة المسيح عليه السلام.

غير أن الدافع الديني- وهو تحصيل حاصل- لم يكن مانعا للأب إلياس من وهو يستعد للسفر- امتلاكه لمعرفة دقيقة بما تزخر هذه البلاد من ثروات وأموال ،خاصة الذهب والفضة والحجر الكريم التي تعود إلى خزائن الملك، بعد أن حملتها السفن الإسبانية العائدة من أنحاء هذه البلاد المترامية الأطراف. ومن ثم لم يتردد في تقديم ما تعود به إحدى السفن، على رأس كل ثلاث سنوات، من فضة وذهب (بقيمة عشرين أو خمسة وعشرين مليونا، وكل مليون قدره عشر كرات).47 هنا بدت شخصية المرابي وازيح القناع عن شخص الرحالة او عن شخصية الداعية بمسوحه المعروفة.

ولاشك ان التوازي بين الخطابين- الديني والدنيوي- شكل عصب الرحلة من البداية إلى النهاية.يؤكد ذلك المعجم الوارد في الرحلة، من خلال تكرار مرادفات الذهب والفضة والحجر الكريم ما يقرب من ستين مرة(60 مرة) عبر مواقع عديدة من الرحلة التي اتسمت بالكم القصير.وبالمقابل نافس المعجم الديني بمرادفاته العديدة- المعجم الدنيوي (ما يتجاوز المائة مرة)، من بدايتها إلى نهايتها. ولاتكاد تخلو صفحة من مصطلح، وأكثر، ديني ارتبط بالرهبنة والتقديس ومراتب بعد ذكر البابا في مواقع عديدة من الرحلة-رجال الدين من قس ومطران وخوري وشماس، فضلا عن الأديرة والكنائس والأبرشيات، والأعياد (القيامة واحتفالات محلية عديدة)، والأيقونات، والهياكل، وحفلات القداس، والتعميد، وتجليات العذراء في لحظات فارقة دعمت من حضور سلطة الكنيسة. انظر
Her man cortesM /la conqete du Mexiqe/f.Maspero. paris1979
.
وشتان بين الكشف والإستكشاف. فالمستوى الأول يعكس النزعة الاستعمارية للكشوف البرتغالية والإسبانية (ق15) التي اعتبرت الأرض خلاء.أما المستوى الثاني- مستوى الاستكشاف- فهو ترسيخ للمظهر السابق، وتدعيم لمخطط الغزو، الذي انتقل الآن، في الرحلة الحالية، من الفتح إلى الاستيطان، ومن الغزو إلى ترسيخ السلطة السياسية للإمبراطورية الإسبانية وبموازاة ذلك أسفر الوجه عن قناع رجل الذي تحول الى مراب يزن الذهب والفضة

إن مستوى الاستكشاف السائد في الرحلة يسمح بالاتي:

أ‌-     استكشاف مملكة الكنيسة الدينية (الرمزية) الممتدة إلى أقصى بقاع العالم، فالرحلة، بالرغم من غموض المقاصد، عبر بلدان أمريكا،رحلة، في الوقت ذاته، عبر صوى الطريق، الذي جسدته الكنائس والأديرة بدلالاتها المتعددة.

ب‌- استكشاف مملكة الكنيسة المادية، والمكونة من ثروات ما فوق الأرض وما تحتها أيضا. (وهذا الإقليم واسع جدا. وهو أكبر من الثلاثة الأقاليم الأخرى غني بمعادن الفضة والذهب والجواهر.لكن سكانه قليلون وفيه ناحية تسمى سانتافه ومن هناك يخرج الزمرد. وهذه الأسقفية لها أرض خمسمائة فرسخ..)92.

ت‌-استكشاف مواقع الآخر الذي لم تصل إليه الكنيسة، سواء تعلق الأمر بصعوبة تضاريس المنطقة،80، أوبتجذر المعتقدات المتوارثة لدى هذه الشعوب العريقة.وعلى هذا الأساس، لم يتردد القس (إلياس الموصلي) في استخدام السلاح التقليدي للكنيسة، عن طريق نعت الآخر بالكفر،ما يقرب من عشر مرات، بشكل مباشر، ووصفه، من ناحية أخرى، بالعديد من النعوت التي لاتخرج عن ذلك، بل قد تصل إلى ترديد ما يتداول عن هذه الشعوب من وحشية وحيوانية برزت عند محاربتهم لـ(السبنيولية دائما، وإذا أمسكوا أحدا منهم يشوونه ويأكلون لحمه.  وأما الرأس فيطلعون جمجمته ويعملونها طاسة ويشربون بها نبيذا من نبيذ بلادهم..)93
الرحلة، إذن، تتوزع بين الدين والدنيا، بين السماء والأرض. والرحالة، بدوره، يلبس لكل حالة لبوسها،دون أن تغيب عنه طبيعة المكان الحافل بمظاهر الصراع بين القوى المتكالبة على حصد الثروات بكل السبل والوسائل. (وأيضا ذكروا لنا أنه يوجد هناك جوز الطيب والهنود يجمعونه، وهو أخضر مثل الزيتون الكبير ويرسلونه إلى كراكس وهناك يبيعونه للإنكليز والأولنديز أو للسبنيولية.)ص.62.
وفي كثير من الأحيان قد تنمحي الحدود بين المستويين، فيتم تعميد الدين بالذهب، والذهب بالدين من خلال المظاهر التالية:

1ـ المظهر الكراماتي- وهو قناع من الاقنعة- الذي عزف عليه الرحالة في مواقع عديدة من رحلته، بعد أن اكتشف دور الكرامة في تحقيق السعادة في الدارين، عن طريق الترهيب أوالترغيب.
في جانب الترهيب يسرد الرحالة وقائع عديدة تلعب فيها الكرامة دورا محوريا في مواجهة الظالم الذي يرغب في أخذ أموال الناس بالباطل، فلم يحصد سوى الفشل الذريع، (وتحولت الفضة إلى رماد وصار ذلك عظيما للناظرين والسامعين)ص.82. 86.

أما في جانب الترغيب ، فالرحالة لايتردد في استخدام الدين، أيضا، بأسلوب لايخلو من سطوة ونفوذ دون الإبتعاد عن الهدف الأساس وهو الحصول على أكبر قدر من الذهب الممزوج بمباركة الكنيسة وممثليها.(وبعد خلوص ‘انتهاء’ القداس جلست على كرسي وعملت بركة، أعني خبزا مباركا. فبقي الناس يجيئون يبوسون يدي ويأخذون البركة ويرمون النذر في الصينية. فبعد خلوص ذلك، نظرت اجتمع من النذر مقدار مائتين وخمسين غرشا)66 .وفي مكان آخر يكشف عن دوره الواضح بقوله:(

2ـ لا تنفصل الممارسة الدينية للراهب عن الممارسة التجارية، سواء عن طريق العطايا
والهبات، أو عن طريق البيع والشراء. (وقدم لي أصحاب المعادن…. مقدار خمسين قنطار من الزيبق، وقالوا لي:اصبر إلى شهر.. بينما يخرجون الزيبق من الحجارة ويعطوني المبلغ المذ كور)74.وفي مكان آخرلا يتردد الرحالة في متابعة طرق استخلاص الذهب بدقة وعناية أثناء استخراج الذهب من الحجارة بعد سحقها وغسل التراب المسحوق( ويقطعون منه الذهب بتصويله في الماء. ثم يذوبونه ويسكبونه أقراصا. وأنا اشتريت من الذهب أربع مثقال..)64.

وفي مكان آخر لايتردد الرحالة في تقريع بعض أفراد بني جلدته على إهمالهم للثروات المتناثرة في كل مكان. (فقلت لعسكر المركب أن يحوشوا لي من البحر صفدا’صدفا’ فأتوا بتسع صفدات ففتحتها واحدة واحدة لن ما فيها ففتحت واحدة ورأيت داخلها حبة لولو قدر الحمصة. فقلت للجنيرال: إيش هذه النذالة كيف يكون في هذا البحر لؤلؤ وما تستخرجونه.فقال لي: هذا أيضا لخوفنا من الهنود الكفرة). الرحلة.103.
وفي السياق ذاته، تزخر الرحلة بأساليب التنسيق بين السلطة السياسية(مدريد)، والسلطة الدينية (الكنيسة) من خلال المظاهر الآتية:.. وكانوا كلهم يكرموني ويتباركون مني، لأني وهبت لهم مسابح وصلبانا من القدس..)68.
أ- إخضاع كل الثروات الموجودة فوق الأرض، أوفي باطنها لسلطة المملكة الإسبانية، عن طريق المراقبة الصارمة التي تتجسد في حمل هذه الثروات لعلامة ملكية محددة تمنع تداوله في السوق. فالزئبق يجب أن يكون (عليه يسق من الملك أن لا أحد من أصحاب المعادن يقدر يبيع زيبقا، ولا أحد يشتريه.وإن تجاوز أحد هذا الشرط ينهبوا ماله ويحل عليه القتل)74.

ب- تحول القسس والرهبان، ورجال الدين عامة، بالمستعمرات الإسبانية، إلى وكلاء تجاريين للسلطة السياسية، يحرصون على متابعة مصادر الثروة المختلفة، من مناجم،وطرق التعدين، أو استخراج الذهب، فضلا عن الحرص على استمرار تدفق الثروات نحو إسبانيا.

ث‌-تحول الكنائس والأديرة إلى مجمعات للثروة باسم الدين، حينا، وباسم السلطة، حينا آخر، من خلال أرصدتها الضخمة من الذهب والأحجار الكريمة، ومن خلال، من جهة أخرى، معمارها القاهر بهندسته ومحتواه القائم على تكديس مظاهر الثروة المدعمة بالتحف والأيقونات والصلبان المشكلة من المعادن النفيسة.
د- استقصاء أماكن العبادة المتداخلة مع مواقع الثروات إلى الحد الذي تحولت فيه الرحلة إلى دليل للأماكن بشقيها الديني والدنيوي. فالزمن الذي استغرقته الرحلة- عقد ونصف تقريبا- جعل منها نصا طوبوغرافيا يحرص، من خلاله الرحالة، على إعادة تخطيط المكان، بضبط موقعه، والتعريف بساكنته، ورصد ثرواته،وتحديد كنائسه، ورصد مميزاته سلبا او إيجابا.

الأنا والآخر

القارئ للرحلة يلمس، عن قرب، ما تقدمه الرحلة المتجهة نحو الآخر من ثنائيات ضدية تكشف، في نهاية الأمر، وضع الأنا قبل أن تكشف عن وضع الآخر.فالاكتشاف- كما هو متعارف عليه في الارتحال- الآخر هواكتشاف، بالضرورة، للأنا . في رحلة الموصلي، نلمس خطاب المفارقة بين عالمين أو ثقافتين، المستند إلى أطروحة محورية تقوم على التمييز بين المركزي والهامشي. فالمركزي يرادف الإمبراطورية الإسبانية ومن يسير في فلكها، والهامشي يرادف الخارج عن هذه الدائرة من مواقع مختلفة.
والأطروحة ذاتها المركز والهامش- هي التي تحكمت في طبيعة نص السفر الحالي، وجعلت منه رحلة تتوزع بين خطابين:

1ـ خطاب الرحلة اللاهوتي المستوحي لصيغ الطهرية والمجاهدة على مستوى الذات المتكلمة، والمستوحي، من جهة ثانية، لصيغ الوعد والوعيد على مستوى المتلقي {الآخر}. من هنا كان الخطاب صادرا عن الفرد، وهو يركب خطاب المغامرة الذاتية التي ترتحل في عوالم الكائن المستكشف، وهو المختلف عن الأنا لغة ودينا ومرجعية ثقافية وخصائص جسدية ونفسية وتقاليد اجتماعية.انه خطاب مسيطر يعلن عن سيادة ثقافة غالبة وغياب ثقافة اخرى منقرضة او في طريق الانقراض

2ـ خطاب الدليل الذي صدرعن الجماعة (السلطة المركزية) قبل أن يصدر عن الفرد.إنه الخطاب القائم على (المسح الطوبوغرافي) لمواقع الثروة،أحيانا، وللعوالم الغرائبية،أحيانا أخرى.وتظل مواقع الثروة هي العلامات الهادية للمستكشفين. والدليل موجه للذات المرتحلة، قبل أن يوجه إلى المتلقي.
هكذا انبنى خطاب النص على جدلية التضاد بين الرحلة والدليل، دون أن يمنع ذلك تحقيق نوع من التكامل بين الخطابين : خطاب طهراني يتوسل بمعجم الثواب (الذات) والعقاب (الآخر)، وبين خطاب منفعي يترسم خطوات الدليل- بمختلف أنواعه- المؤدية إلى مصادر الثروة.

في المستوى الأول يسيطر ضمير المتكلم المفرد المرصع بمسكوكات دينية موسومة نفحة إنجيلية قائمة على التواضع الأخلاقي والشفافية الدينية والإيحاء بالرضى والقناعة النابعة من سير السابقين من حواريين وشهداء ودعاة. ويقوم هذا الضمير أيضا على الاستثناء والتميز، من جهة، و، من جهة ثانية، على العجيب والغريب النابع من ‘العناية الربانية’ التي منحته حصانة خاصة تجسدت في ما سبقت الإشارة إليه من كرامات وغيرها.فالمصاب، بوباء وغيره، قد يجتاح الجميع، غير أن الشفاء يظل موقوفا على الرحالة كما جسده منطوق الخطاب. (ففي تلك السنة صار مرض عظيم. ولكن مات من الطرفين مقدار ألف نفس، والباقي مرضوا وانا مرضت، لكن الرب شفاني بواسطة ملكة القديسين مريم العذراء ومار إلياس الحي)ص.53. 55.

ويصبح الضمير المفرد إعلانا عن رغبة المتكلم الملحة في الخضوع لسلطة رمزية دالة. يفتتح الرحالة رحلته بالقول: (فأقول أنا الحقير في الكهنة..)33.53 وعبر مقاطع عديدة من الرحلة، تتكرر هذه المسكوكات بتغيرات أسلوبية بسيطة لاتخلخل دلالتها الرمزية المشار إليها سابقا. الأمثلة التالية توضح ذلك:
أ-( ثم إني تقويت بالرب واعتصمت باسم والدته مريم العذراء وخرجت من مدريد قاصدا مدينة قادس)ص.46.64
ب-(..فخبطت وتعلقت… بتلك العكازة التي كان أعطاني إياها الأسقف.وهكذا أعاننا الرب ووالدته مريم العذراء…وسكنا هنا ثلاثة أيام إلى أن حمل مركبنا ماء للشرب) ص.55.

ج‌-  لايتردد الرحالة في إصلاح ذات البين بين رجال الكنيسة، مرآة الدولة، ويدها الضاربة بهذه الأقاصي(..فبعد أن خلص من قداسه قمت أنا من الكرسي وأخذت معي البروبنسيال وحاكم البلد وقدمتهما أمام الأسقف وبركت على ركبتي وقلت له: قال السيد المسيح : سلامي أتركه لكم .وأمرنا بالصلح والسلام..)107.

أما بالنسبة للمستوى الثاني، فالسيطرة فيه تتم لضميرالمفرد الجمع- وضمنهالرحالة أيضا- الذي يقوم على الصيغ التقريرية الموسومة بالحسم والدقة ورصد الظاهرة، خاصة منابع الثروة ومصادرها المختلفة،بالتفسير والتعليق والمقارن. ومن ثم يحضر ضمير المفرد الجمع لتحقيق الآتي:

أ- لإبراز سلطة الدولة من خلال الر حالة ومرافقيه (فهم يأتون بالفضة ويذيبونها ويسكبونها ويعملونها بارات ويدمغونها بختم الملك) ص.83.

ح‌-   لإبراز التميز بين الأنا والآخر، بين الرحالة والمرتحل إليه. وامتلأت الرحلة، نتيجة لذلك، بمظاهر التميز العديدة التي شملت:

الموقع الجغرافي،أو العلاقة بين المركز (إسبانيا/ الإقليم الأول/أوروبا) والهامش (هندالغرب/الإقليم الرابع/المستعمرات أومن حكم إسبانيا الرحلة.ص49 أو إسبانيا الجديدة كما نعتها السابقون مثل كورتيس وغيره..}

*الدين: (المسيحية والوثنية والتنصير). (فالبعض منهم نصارى حقيقيون، والبقية نصارى من خوفهم….ص.67).
*
الإسبانية واللهجات الغريبة المخترقة باللسان الإسباني.(وطلب مني أن أكرز على الهنود باللسان الإسبنيولي) ص.68.

الخصائص البيولوجية والجسدية من بنية ولون وغيرها. (لكن هنود تلك البلاد ليس لهم ذقون، بل بعض شعرات ثابتة في حنكهم.وأنا لأجل أني كنت رجلا كامل اللحية فكانوا يتعجبون مني قائلين إنني ذو شجاعة شديدة بحيث جزت البلاد.)ص.65.80,

 الاختلافات النفسية والسلوكية. فالرحلة تمتلئ بتوصيفات عديدة للهنود ، خلال حياتهم اليومية، سواء تعلق ذلك بمعتقداتهم وطرق عيشهم، أو تعلق بموقفهم من الغريب، سلوكا ولباساو خصائص جسدية وأسلحة- البارود خاصة- دعمت عملية الغزو.

توضح الأمثلة التالية بعض هذه المظاهر القائمة على مظاهر الإختلاف النفسية والسلوكية بين الطرفين:

+( فمن جملة ما نظرت قبور الهنود الذين في زمان كفرهم كانوا يدفنون ميتهم على وجه الأرض ويعمرون فوقه قبرا مرتفعا جدا بعلو ذراعين وعرضه ذراع ونصف وطوله ثلاثة أذرع وهذه القبور منفردة عن بعضها كل واحد على جانب) الرحلة.ص.79.

وهذه البلدة هي ستر، يعني حدا ما بين الهنود الكفرة، والسبنيولية. والهنود يأخذون الرجال والنساء والأطفال إلى أرضهم ويستعبدونهم، ولما يكون عندهم عيد أم عزيمة وليمة’ يذبحون واحدا من السبنيولية ويشوونه ويأكلونه) الرحلة.ص.80.

وعند هؤلاء الهنود يوجد جنس حشيش إذا علكوه يسكرهم ويعطيهم شجاعة وقوة كشراب الخمر، يسمى ذلك الحشيش كوكا. وما يوجد عندهم لاقمح ولاشعير سوى درر مصر، ويجعلون من هذه الدرر بوزة ويشربونها فتسكرهم كالعرق. وهؤلاء الهنود كثيرو العد شديدوالقوة وما يقدر السبنيولية أن يقاوموهم لأنهم ساكنون في جبال شامخة وعليهم أمير مدبر وهوالذي يحكم عليهم) الرحلة.ص.80.

ودعم كل من السرد والوصف هذه الثنائيات

وتوزع الخطاب الرحلي بين ضميري المتكلم- مفردا وجمعا- لم يمنع من التقائهما في المنظور ذاته القائم على علاقة السيد بالمسود. فرحلة الموصلي، بشقيها الديني والدنيوي، تنهل من مركزية السلطةالسياسية التي تستند، بدورها، إلى مركزية الكنيسة. في الشق الأول، نلمس لسان الغازي الحريص على ثرواته، وفي الشق الثاني، نتابع خطوات المرشد الهادي للضالين. والخطاب، سواء كان نابعا من ديوان التفتيش (ديوان الإيمان ص.75.)، أو نابعا من خزائن الإمبراطورية، يؤدي إلى النتيجة ذاتها مجسدة في بسط الهيمنة المطلقة على المكان والزمان.

استنادا إلى ما سبق، سلكت رحلة الموصلي إلى أمريكا مسارا مضادا للرحلات المتجهة، عادة، نحو الآخر المختلف عن الأنا.فإذا كان الرحالة، في رحلته نحو الخارج- ذهابا وإيابا- ينطلق، عادة، من الرغبة في اكتشاف الآخرواستيعاب ما يختلف فيه عن الذات، فإن رحلة الموصلي انطلقت حسب رأي تودوروف- من استبدال المواقع بين الرحالة والمرتحل إليه. ومن ثم أصبح هذا الأخير مطالبا بأن يكون في وضع المستوعب- بالكسر- والرحالة في وضع المستوعب (بالفتح).

ما أسباب ذلك؟

1ـ لسيادة المنظور الإستعماري الذي يقوم على المركزية و والباقي مجرد هامش في انتظار إلحاقه بالمركزي.
2
ـ ومن الضروري أن تغلف هاته المركزية ممارساتها التوسعية بأقنعة عديدة، ومنها قناع الدين ،بهدف تمرير الغزو، فضلا عن التوابل الأخرة من أنستة زائفة وممارسات تحضيرية مشبوهة.

3ـ ودعم هذا المسار استفادة الرحلة من تراكم سابق في الغزو والإحتلال. من ثم كانت- كما سبقت الإشارة- رحلة استكشافية قبل أن تكون رحلة اكتشافية,فالرحالة الموصلي لم يرتحل إلى أمريكا خالي الوفاض، بل انتقل إلى هناك بهدف تجديد الصلة بعالم سبقه إليه (كريستوف كولومب)، ومهمته الآن تتحدد في تجديد المعرفة وتصحيحها وإضافة المستجد فيها.

4 ـ من هنا اقتربت الرحلة من الدليل بحكم ترسم صاحبها لخطوات الر حالة والمكتشفين السابقين. إنها رحلة- طرس تصوغ طوبوغرافية مرسخة ل’ طوبونيميا’ جديدة، تشمل مواقع الثروة وخصائص المنطقة ساكنة وعادات وحاجيات مختلفة.

5 ـ قد نلمس، في بعض المقاطع الرحلية، نوعا من الحيادية، سواء بالتصريح أو التلميح، غير أن ملامح هذه الحيادية سرعان ما تضيع في زخم معجم لم يستطع فيه رجل الدين التخلص من ثنائيات الحضارة والتوحش، الإنسان والحيوان،الكافروالمؤمن، العادي والغريب، العادي والعجيب،..

6 ـ غير أن هذه الثنائيات لم تكن، مرة أخرى، سوى قناع لإخفاء تعارض أعمق بين الذات و’ذاتها’، بين الرحالة وأناه. فخطااب الدين يطارده خطاب الذهب، وخطاب الذهب يطارده خطاب الدين.ومن ثم يصبح الاختلاف مع الآخر( ما هو إلا غطاء للإختلاف مع الذات)”وفي الحالتين تصبح امتدادا لرحلات سابقة، ويصبح المكان المكتشف ملحقا لمكان الإنطلاق.

+المنظور العرقي:

أ-الخصائص البيولوجية ( اللون/ البنية الجسدية/ العلامات المميزةالظاهرة من شعروأعضاء..).( لكن هنود تلك البلاد ليس لهم ذقون، بل بعض شعرات ثابتة في حنكهم.وأنا لأجل أني كنت رجلا كامل اللحية فكانوا يتعجبون مني قائلين إنني ذو شجاعة شديدة بحيث جزت تلك البلاد) ص.65.

وتجد سكان هذه القرية عديمي اللون مورمي البطون) ص.62.

ب القوة الجسدية:(وهؤلاء الهنود كثيرو العدد شديدو القوة) ص,80.

- الخصائص النفسية:أ-

التميز العقلاني النابع من إحساس الأنا بالتفوق والقوة والتحضر.

ب- ترويض الأهالي، للإرتفاع بهم من المستوى الحيواني إلى المستوى الإنساني.
الساكنة: تغيير الوضع الديموغرافي بين السكان المحليين والغزاة، بالترغيب( الخطاب الديني) والترهيب (البارود/ العقاب بمختلف أنواعه).

كل ذلك أنتج تشكيلة سكانية خضعت للأنماط التالية:

أ‌-     نمط لاوجود فيه للعنصر الغازي، أو قد يكون وجود هذا الأخير رمزيا بدلالات متعددة.(.. خرجت قاصدا قرية تسمى ليلموا.. وكل أهل هذه القرية هنود لكن قسيسهم فقط إسبنيولي..)67.
ب- نمط يتعايش فيه العنصران بنسب متفاوتة.(.. خرجنا قاصدين قرية تسمى بابا مسكونة من الهنود والسبنيولية) ص.59.

ج- نمط احتكر فيه الغزاة الإسبان المكان بعد أن تم طرد الهنود.(وسكان هذه البلدة يومئذ أربعة آلاف بيت سبنيوليين وثلاثة ألاف بيت هنود) ص.78.

أخيرا كان الموصلي موزعا بين رجل الدين وبين رجل المال في الحالة الاولى يصبح شخصية من شخصات النص وفي الحالة الثانية يصبح شخصا من الاشخاص لاىتردد في تكديس المال وتحصيله بكافة السبل؟

 

1ـ الذهب والعاصفة رحلة إلياس الموصلي الى أمريكا اول رحلة شرقية إلى العالم الجديد 1668-1683 حققها وقدم لها نوري الجراح المؤسسة العربية للنشر- دار السويدي2001