ستة أيام هزت العالم

عبدالرحيم مؤدن

وخلق الله العالم في ستة أيام..( وقال الجالس على العرش"ها أنا أجعل كل شئ جديدا" الإنجيل/العهد الجديدِ(ٍرؤيا يوحنا 96 ص706)

هنا القاهرة

1-              قلت لرفيقي، الملقب أبي حيان التوحيدي، والطائرة تدخل سماء القاهرة يومه الخميس في السابع والعشرين من شهر يناير2011.على الساعة الواحدة  والربع الزوال.هي أيام ستة بالعدد...لكن يوما من أيامها يعادل عشرين ألف يوم!!

نظر الي أبو حيان نظرة القادم "جبل قاف".. وغاص في السحاب كما غاصت طائرتنا في سحاب بدا كالعهن المنفوش. قال (وأبعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه، وأغرب الغرباء من كان غريبا في وطنه). وبعد برهة صمت ردد بصوت هامس: ( لا تعرف بأي أٍرض تموت).

حلقت الطائرة فوق مطار القاهرة وبدا اللون الكاكي سيد المكان بعد أن خرجت من رحمه مجمعات سكنية معسكرة تطاول السماء بهامات غائرة العيون، وهي تستطلع القادمين برؤوسها  الشبيهة بمعابد صامتة...

كانت الساعة تقترب من الثانية بعد الزوال.. والدخول الى المطار لا يشبه الخروج منه. طلب منا- بعد أن تسكعت جوازاتنا  بين مكاتب عديدة- الانتظار ما يقرب من الساعتين بقسم الشرطة الذي – وهذا من تجليات  وحدة هذه الأمة !!.. لا يختلف عن أقسام شرطة بلاد العرب لونا وطعما ورائحة.. اللون الرمادي المقيت.. والهواء العطن الملبد بدخان السجائر.. ومقابض الأبواب المسودة.. وتبادل تسليم العهدة بين رجال الشرطة الذين ينزلون الدرج بملابس مدنية ويخرجون بملابس"الميري".. والعكس بالعكس صحيح.. والشرطي المواجه للمدخل- ذكرني بالعقوبات المدرسية الشهيرة- لا يتوقف عن نقل البيانات من الجواز الى أوراق بيضاء، ومن الأوراق الكبيرة الى الأوراق الصغيرة، ثم يعاود نقلها من جديد الى دفتر أسود كبير الحجم.. ويضع القلم على بقايا مكتب، ويتناول مسطرة انمحت أرقامه،أو يفصل بين الأسماء.. ويتوجه من جديد نحو الجوازات المستسلمة، فيلتقطها بحركة متراخية، ويرفع صوته بالصراخ مناديا ويدفع بها نحو الصوت الملبي للنداء، ويحملها نحو مكتب استقر في أقصى يسار القسم ببابه المفتوح الذي انبعث منه ضوء خافت يتخلله رنين جرس هاتف متقطع..رن صوت جرس مكتوم..

وهذه المرة كان صوت جرس المكتب، الذي بلغ سمع الجميع دون أن يلبى النداء.. ارتفع صوت رجل الشرطة بأسمائنا ودخلنا فرادى وبدا السؤال تلو السؤال.. وهذه المرة كان الصوت آتيا من لباس مدني لشاب أنيق- والورق الأبيض يمتلئ – من جديد- بالبيانات والمسطرة تتمطى على ظهر الورق واليد لاتكف عن السؤال عن  سبب الزيارة. الأولى أم الثانية... والعين تتابع جهاز التلفاز الذي استقرت شاشته على قناة الجزيرة والصور تتلاحق – أو ما شابه ذلك- لميدان يغص بالواقفين والجالسين والصارخين والضاحكين والقبضات المرفوعة والكتابات المطبوعة على الكراطين ومزق الأثواب وأوراق الكراريس ومناديل النساء... والأرض كان لها نصيب من الكتابة والكلام.. واليد لا تتوقف عن الكتابة, والفم عن السؤال.. الآن فهمت  حكمة" أنيس زكي"- بطل ثرثرة فوق النيل- في الإبقاء على قلمه فارغا من الحبر، وهو يسجل الصادر والوارد.. لا فرق بين الاثنين.. والكلام – كما يقول أحمد رجب- نوعان= كلام فارغ وكلام مليان فراغ.. ومع ذلك.. جاءتنا أغراضنا الى حيث كنا  قابعين – من جديد- بالحجرة الرمادية, وطلب منا اقتفاء أثر رجل أمن بلباس مدني- كان في أواخر العمر- يضلع برجله اليمنى  وهو لا يكف عن الترحيب.. وبدا البحث من جديد عن خاتم الجوازات، والرجل لا يغادر مكانه مكتفيا بعينيه الباحثتين، بقلق، في كل الاتجاهات.. ولم يجد أخيرا إلا رجل شرطة مر به مرور الكرام، فدس بين يديه الجوازات وهو يردد عدة مرات: الختم عند الباشا..وأنيس أفندي  لا يكف عن تسجيل الصادر والوارد بالقلم الفارغ وهو يتعجب من عودة الباشاوات الذين غابوا منذ أمد طويل..وجاءتنا الجوازات، أخيرا، مرفقة بالتحية والسلام والترحيب بحلو الكلام وكان آخر المجازات مخرجا حديديا  مكونا من أسياخ ملولبة متقاطعة لا تتجاوز الخصر ولا تكف عن الدوران والتحرش بالإنسان، قبل مغادرة المكان..خطوت الخطوات الأولى خارج المطار. ولويت عنقي وقرأت (أدخلو مصر إن شاء الله  آمنين)... والتفت نحو أبي حيان التوحيدي، بلهجة ضاحكة(واخرجوا منها آمنين).

 

°2°

الطاكسي وتوابعه

               بمجرد أن تضع رجلك خارج المطار, تتلقفك أيدي سائقي الطاكسي واللسان الدرب يقطر عسلا بمعجم الترحيب والترغيب..سنكتشف أيضا أن الأمر يتعلق بشركات متكاملة تضم أسطول  سيارات الطاكسي الكورية الجديدة بلونها الأبيض وعدادها- وهذا هو الأهم- الحداثي الذي تتعاقب فيه الأرقام بسلاسة مصحوبة بصورة فرس لايكف عن العدو. أما  سيارات الطاكسي الشهيرة بلونيها الأبيض والأسود وأنواعها المتقادمة ،كما انتشرت في الأشرطة السينمائية ، فقد تناقص عددها، بعد أن تغيرت بنية السيارات المستعملة للطرق والكباري التي تتابعت فيها أسراب السيارات الأسيوية خاصة, فضلا عن الأنواع الرفيعة و" الخنزيرات" الفسيحة. وأصبحت سيارة "فيات"128. النادرة والتي ارتبطت بالصناعة  الوطنية في المرحلة الناصرية، غريبة اليد واللسان في زمن " القطط السمان" وزمن " الفاست فود" وجحافل الوسطاء وتآكل شرائح الطبقة الوسطى بين فكي كماشة غنى فاحش وفقر مدقع..

 سيل السيارات لا يتوقف عبر المحاور الطرقية المتفرعة نحو المطار، أو المتجهة نحو العباسية، أو الجمالية وصولا إلى الأزهر الشريف وخان الخليلي ومسجد الحسين...وتتابعت أمامنا أسماء أليفة لم  تنمح من الذاكرة: شارع صلاح سالم الذي حضر بنظارته السوداء ووجهه الصارم بملامحه الجادة، في أحد اجتماعات مجلس الثورة.. شارع العروبة..حديقة العروبة.. الحديقة الأندلسية. شارع  26  يوليو الذي يؤرخ لذكرى تأميم قناة السويس..

أخيرا وصلنا إلى وكالة عقارية حملت أيضا اسم العروبة، بمصر الجديدة،  بخدماتها المتعددة من فنادق وتأجير سيارات ورحلات سياحية... وبدأ الفصال حول الشقق و موقعها قربا أو بعدا من فضاء المعارض دون أن ننتهي إلى قرار حاسم.. وفضلنا، في آخر المطاف، الرجوع إلى موقع المعرض بعد إلحاح أبي حيان على لقاء من تواعد معهم على ذلك..ونحن نخترق دروب المعرض، وأروقته، كان العمل قائما على قدم وساق في مختلف أنحائه أروقة ومطاعم  وخياما – ومنها خيمة سور الأزبكية الشهيرة- وقاعات وخدمات مختلفة وملصقات بلاستيكية بعناوين وصور- ومنها صورة  نجيب محفوظ في ذكرى ميلاده المئوية-وشاحنات متنوعة الأحجام لا تتوقف عن إنزال كراتين الكتب والمطبوعات المتعددة ... ولما كانت الصين الشعبية بفضائها الذي وصل إلى 1500.م2  ضيفة الشرف لهذا العام فان رواقها بقاعة نفرتيتي – على عادة الصينيين- البهي  الذي قاربناه من بعيد كان تحفة جمالية- ومعرفية- تليق بهذا البلد الذي ما فتئ يدهش العالم بعطائه المتجدد، وهويته المتجذرة.   تركنا  فضاء المعرض- قبيل المغرب- الذي لم تعد تفصلنا عنه سوى يومين بعد أن تعذر علينا لقاء رفاق دور النشر المغربية، خاصة أن أرقام هواتف بعضهم لمتكن في المتناول، والهاتف الملعون ذاته يعاني من أعطاب متعددة.

لا مفر، إذن من الفندق، هذه الليلة في انتظار طلوع الصباح. الحافلات لا أثر لها دون أن تخلو السقائف الزنكية من المنتظرين. ركبنا، هذه المرة، سيارة الطاكسي النموذجية بلونيها الأبيض والأسود، ووجهتنا- بعد نصيحة السائق- ميدان رمسيس الذي كان ينغل بالحركة والروائح والأصوات والسحنات المشتركة..عودة الروح، وأخذ التعب يتبخر وسط ألفة انتشرت في مكان تداخل فيه الليل بالنهار، والنهار بالليل.

°3°

ميدان رمسيس

نزلنا بميدان رمسيس.كل شئ في حركة دائبة.. حتى تمثال رمسيس الشهير.. لا أثر له بعد أن ترك الميدان محتفظا بالاسم دون التمثال.. اشتريت صحيفتين من بائع الصحف الذي زين طاولة العرض بصور فوتوغرافية لكبار ممثلي الشاشة المصرية.. كان اسماعيل ياسين مقلوب الشفتين، غامزا بإحدى عينيه الغادي والرائح، والناس ساهمون بنظرات شاردة، أو متسائلون بملامح مشدودة...أو هاربون من شيء مجهول. تركنا ميدان رمسيس عن يميننا ولوينا يسارا نحو شارع جانبي مشتعل بالحركة والأضواء.. الباعة في كل مكان.. بائعات البرتقال والجوافة... بائعو التفاح... منهم من افترش الأرض ومنهم من رابط في مكانه المعهود أمام الدكك والعربات المضاءة باللمبات الغازية والكهربائية.. ومنهم من انتشر بالحواري الجانبية التي تناثرت فيها المقاهي الشعبية والغرز الملبدة بدخان الشيشة، والمطاعم الرخيصة وبعض مخازن السلع خاصة مخازن حلوى الأطفال ولعبهم المختلفة من عرائس ضاحكة وأخرى عارية من كل لباس.. سألنا أحد الباعة عن فندق رخيص ونظيف، فابتسم في وجوهنا مرددا كلمتي رخيص ونظيف وقال: عليكم بأبي ضيف.. وهو على بعد فركة كعب.. وستتحول فركة كعب هذه إلى مسافة لا تقل عن نصف ساعة..وأخيرا وصلنا إلى فندق أبي ضيف.. وكانت المفاجأة الأولى وجوده في الطابق  السابع بعد أن  صعدنا الدرج الملفوف بالظلام، والضوء الشاحب لحاسوب كبير الحجم  ينبعث من غرفة على يسار المدخل التي استقر بجدارها المقابل للباب سرير وشبح اهتز نصفه الأعلى عند  اجتيازنا للمدخل ثم عاد إلى  وضعه الأول. أخذنا المصعد نحو الطابق السابع ..وبمجرد توقفه وجدنا باب الفندق مفتوحا على مصراعيه..الردهة انتشرت في جنباتها كنبات مختلفة الأحجام توزع عليها رواد الفندق بين مستلق وبين معالج لأدوات  الشيشة... في حين تابع البعض جهاز التلفاز الذي كان يعرض شريطا مصريا...

كان الفندق ممتلئا عن آخره ما عدا حجرة واحدة بخمس أسرة، ونحن لانتجاوز الاثنين . لم يستمر الحوار إلا لحظات قليلة, وصعدنا إلى غرفتنا ذات الأسرة الخمسة.. من يدري؟ لعلها قد تكون بخمسة نجوم.. وذلك ما كان .. فالنجوم الخمسة لاغبار عليها، لكنها نجوم منطفئة... لايهم ليلة واحدة وتمر كما مر غيرها.. أخرجت الصحيفتين من الحقيبة.. أفردت صوت الأمة فبرزت صور المتظاهرين بمواجهة جنود الأمن المركزي..أما صحيفة الحياة فإنها سطرت بالبنط العريض عناوين مثيرة عن تصاعد مد الغضب في مواقع متفرقة من القاهرة..لم أتمكن من متابعة القراءة بعد أن غلبني النوم..  لويت عنقي نحو أبي حيان فوجدته يغط في نوم عميق.. كان التعب قد أخذ منا كل مأخذ وفي ذهننا أسئلة مضطربة عن الغد.ِ

°4°

برج العبور

غادرنا الفندق واتجهنا، من جديد، نحو ميدان رمسيس. جلسنا بإحدى المقاهي المطلة على الساحة التي اشتعلت، في هذا الوقت المبكر، بالحركة الصاخبة..  توقفت شاحنة شرطة، فجأة، و بدأت في إفراغ حمولتها من جنود الأمن المركزي، وأخذوا في الانتشار، أنحاء الميدان، بملابسهم السوداء، وسحناتهم  الصعيدية.. معظمهم  كان في مقتبل العمر.. ومعظمهم كان من المجندين الذي لم تغادر الدهشة عينيه وحركاته التي لا تستقر على حال..

غادرنا المقهى بعد أن بدأ الجرسون في جمع الكراسي الأمامية وهو يلتفت في كل الاتجاهات..أخذنا الطاكسي ووجهتنا المعرض..  كان جهاز الراديو يذيع أغنية أحمد شوقي الشهيرة عن النيل:

من أي عهد في القرى تتدفق             وبأي كف في المدائن تغرق

هذه هي "أم كلثوم" الحقيقية.. أما أم كلثوم الستينيات فهي صورة من صور الحداثة المشوهة.. توقفت الأغنية فجأة وانطلق الصوت الفخيم الذي ذكرني بمذيع صوت العرب الشهير..

بلاغ: أصدر الحاكم العسكري قرارا بحظر التجول..من الثامنة صباحا إلى السادسة مساء..تبادلنا النظرات بصمت..اعتدل أبوحيان في جلسته  وأخذ يوقع بأصابعه على ركبتيه مرددا:

            بلغت الستين مدى طويلا                ولم أعرف عدوي من صديقي

           فسرت على الغرور ولست أدري         سراب أم سراب في طريقي    

وصلنا المعرض..أروقة مفتوحة، وأخرى مغلقة..رفوف مملوءة وأخرى فارغة تنظر إلى كراتين الكتب المغلقة باستسلام، والعيون المتسائلة تطل من كل مكان.. والافتتاح غدا...السبت.. كما أكد الكثيرون.. الهواتف  صامتة، أولا تكف عن الاعتذار...انقطاعات متكررة.. لا مفر من الذهاب – قبل فوات الأوان-إلى الوكالة العقارية بشارع محمود العشري.. تحولت الطريق إلى ميدان شبيه بلعبة الكترونية يسابق فيها السائق السيارات الأخرى، أو يتنكب حواجز الجنود التي تنبت فجأة، فيسارع إلى اختراق الدروب والأزقة وكأنه انطلق، من جديد، في تشغيل ا للعبة..

الساعة الرابعة بعد الزوال.. وصلنا الوكالة، وهمنا الوحيد أن ننهي موضوع السكن، بأي ثمن، قبل بداية حظر التجول.. ولذلك تغافلنا عن كل التكتيكات الصادرة عن الوكيل، وأخذنا سيارة الطاكسي-رفقة مساعد الوكيل- نحو أبراج العبور المطلة على المعرض..

فسيحة شقة في الطابق السابع عشر..فسيحة.. غرفتان وصالون.. مؤثثة.. وأجمل ما فيها البالكون المنفتح على منظر بانو رامي للقاهرة بعماراته ومساجدها وقناطرها.. سنكتشف في الغد بأنها تطل على ثكنة عسكرية، أحاطت بها العمارات من كل جانب ، وناد للمشاة ، بمسبح عريض ، وملحقات أخرى ..

اتجه أبو حيان نحو التلفاز الذي استقرت شاشته على قناة الجزيرة.. كان الشريط الأحمر لا يتوقف عن تقديم الأخبار.. هذا هو ميدا ن التحرير إذن؟  الجموع لا تتوقف عن التدفق نحو الميدان..  يبدأ أبو حيان في رحلته الفضائية، والقنوات لا تغادر الميدان..حاولت الاتصال بالمنزل.. دون جدوى.. أخيرا يرن الهاتف ونسمع صوت الأهل والأحبة..سؤال وعتاب مغلف بنغمة جمعت بين الاحتجاج والتوجس..

في اليوم الموالي ستخلو قناة الجزيرة من ساكنيها، وسيقطع الهاتف والانترنيت والتويتر ما عدا الهاتف الأرضي داخليا.. أما الخارج فقد أصبح منتميا إلى كوكب آخر.. هاهو أبو حيان يغادر غربته التي عزف عليها طويلا.. ..قلت لأبي حيان: هاهي أرض الكنانة أخيرا.

- نعم( مشيرا إلى ساحة الميدان الثابتة على الشاشة).. شباب عجم عيدانها

-وكان اصلبها يوم النزال.

-.. ولهذا تركت الغربة وراءك..

-  صدقت...(و رفع أبوحيان سبابته في وجهي)..  الغربة الآن أن تظل قابعا في هذا المكان!!!..

°5°

مصر التي في خاطري

  بدأ العد التنازلي لقانون الحظر وتوقف عند الثالثة بعد الزوال..أجل المعرض إلى أجل غير مسمى..رجعنا إلى الشقة وتحلقنا حول جهاز التلفاز..كان ميدان التحرير لا موطئ فيه لقدم..وأخذ أبو حيان ينتقل من قناة إلى أخرى والصورة ذاتها لم تتغير.. فجأة ارتفعت أصوات عديدة تداخلت فيها أوامر عسكرية وصرخات وشعارات.. أسرعنا نحو البلكون فوجدنا الثكنة العسكرية في حالة استنفار..أما الشارع الموازي للثكنة فقد امتلأ بالمتظاهرين من كل الأعمار والأصناف..

اقتربت الساعة من الثالثة، فأسرعنا في النزول نحو سوق المجمع.. كان الازدحام على أشده، والكثير من الرفوف بدت خالية.. تركت أبا حيان بالمتجر واتجهت نحو المخبزة التي تبيع الرغيف المدعوم.. ثلاث أرغفة بجنيه .. انتظمت في الطابور الى أن جاء دوري وأخذت الأرغفة وصعدت الشقة لأجد أبا حيان في المطبخ يحصي العلب التي جلبها من المتجر، وبجانبها كيس أرز بلاستيكي متوسط الحجم..قال أبو حيان:

- هذا عصر العلب

-.. وأنت أدرى بالسبب.

لم نغادر الشقة إلا في اليوم الموالي بعد أن قررنا الخروج نحو القاهرة التي في خاطرنا جميعا.. أخذنا التاكسي الذي انطلق بنا نحو الحسين.. الشوارع خالية، والمحلات مغلقة، وبعض آليات الشرطة محترقة عن آخرها.. وفواصل الحديد ذات اللون الأخضر اقتلعت من جذورها، والسائق يتحدث عن محطات البنزين المغلقة وتناقص السلع المستمر... لا وجود لرجال الأمن.. سنعرف في وقت لاحق سر هذا الغياب الغريب كما عبر عن ذلك، في التلفاز، أحد المعتصمين بالميدان الذي  كشف الغطاء عن البلطجية الجدد بملابس مدنية، والقدامى الذين أخرجوا من السجون لأهداف يعرفها أصحابها... حينذاك، لم يتردد أبي حيان في القول: ( ..فتنة العالم الفاجر، وفتنة الحاكم الجاهل، ضاق صدري، ولم يتسع لساني).. وصلنا الحسين..مطعم الكباب الشهير مغلق.. سائح وزوجته تائهان بدون هدف.. اتجهنا نحو خان الخليلي.. لا حركة ولا سكون.. عدنا نحو الأزهر الشريف.. صمت مطبق.. أخذنا صورا صامتة أيضا شاهدة على اللحظة.. قررنا العودة، وهذه المرة، على الأٌقدام.. مررنا بالأزهر، من جديد، واخترقنا زقاقا مؤديا إلى سوق شعبي.. الطماطم بثلاث جنيهات والخيار بأربع..اتجهنا نحو شارع جانبي أوصلنا إلى بداية شارع صلاح سالم.. بين الفينة والأخرى تمرق سيارة مسرعة، وأمام الدور أو عند مداخل بعض الدروب تحلق أفراد حول بقايا رماد البارحة.. بجانب بعضهم عصي وسكاكين طويلة.. لاشك إنهم ينتمون إلى اللجان الشعبية التي حلت محل الشرطة المنسحبة انسحابها المريب..الوجوه متعبة، والعيون مكبدة دون أن يغادرها السؤال..

نتابع السير، والذاهبون والآيبون يتبادلون النظرات الصامتة، أو التحايا المقتضبة... وشر البلية ما يضحك..عن يسارنا ارتفعت يافطة زنكية فوق حانوت جزارة سوي على عجل.. تقول اليافطة: تنفيذا لقرار الرئيس.. ولقرار وزير  التجارة ولبرنامج السيد المحافظ..ولنقابة ...ولقانون شركة .. تباع اللحمة بالتسعيرة  الرسمية...

وصلنا، أخيرا، إلى العمارة.. أفراد اللجان الشعبية في كل مكان، والثكنة العسكرية يرين عليها الصمت.. دخلنا الشقة، واتجه أبوحيان نحو التلفاز، ودخل الميدان، ميدان التحرير.

°6°

ميدان التحرير

ميدان التحرير – إسماعيل سابقا- وقد يسمى وسط البلد بل هو واسطة العقد.. كان حلم الخديوي اسماعيل في جعل القاهرة (باريس الشرق) تجمع بين سحر الرق وحضارة الغرب، فكان  وسط البلد ـومنه ميدان التحريرـ  يمتح من ميادين وساحات باريس القليل أو الكثير.. فأخذ من (الكونكورد) –حيث المسلة الشهيرة- رحابته ، ومن (الشانزليزيه) أناقته...مكان لا يدخله إلا الخواجات وأصحاب الدم الأزرق... شوارع ذلك  الزمن البعيد دائمة اللمعان، وكأنها مغسولة بالصابون...حتى الأحذية لم تغادر علبها الأنيقة ..والغواني  يتهادين،بفساتينهن الأنيقة  المصنوعة من الموسلين والدانتيل الرفيع وحرير الصين، والقبعات العريضة اخترقها أشعة شمس أصيل حانية عكست ظلال لبلاب التف حول النحور المشتعلة باللآلئ التي تراقصت فوق الصدور المترجرجة والأذرع المسبوكة في قفازات الكشمير إلى مشارف لكوعين تزهو بمظلات أنيقة ورائحة النسيم الفائح رائحة النيل  تعال مكان والمراكب، بسقائفها الأنيقة، تتوقف عن الذهاب والإياب بكل زوج بهيج...وفي الميدان المتحف والثكنات العسكرية سابقا والتماثيل والأحواض والممرات المسقوفة والفنادق والنافورات ودار الأوبرا والدور الفخمة بمرجعيتها الأوروبية فرنسية ونمساوية والمقاهي  والحدائق بأكشاكها الأرستقراطية التي تتخلل جنباتها المياه الرائقة، أو تهمس لأشجارها منتخبات المقطوعات الموسيقية لأعلام الموسيقى..المقاهي والمطاعم ودور السينما التي مازال تمثال طلعت حرب، بالميدان، شاهدا على دوره في الصناعة السينيمائية ، والصناعة عموما..

كل الطرق تؤدي الى ميدان التحرير، وكل الشوارع تصب فيه..شارع 1الجمهورية {الذي يربط ميدان رمسيس بميدان عابدين الذي كان يعرف وقتها ب" شانزليه القاهرة"} أخبار الأدب6 أبريل 97 ...شارع 26 يوليو-فؤاد الأول سابقا-...شارع البستان...شارع التحرير ألذي يمتد ليصل الى ميدان التحرير، البداية والنهاية، وهما معا متطابقتان. بداية العد العكسي لأسرة محمد علي التي لم يبق منها إلا الكعكعة الحجرية، أو قاعدة التمثال ا لعارية من   تمثالها- الخديوي اسماعيل- الذي ذهب بدون رجعة مع ثورة 52 ..والنهاية  مجسدة في ثورة الغضب الحالية بعد تحر الميدان من أغلال الماضي والحاضر لتصبح النهاية بداية من جديد.

ميدان التحرير والتطهير

6- مكرر الإصحاح الرابع

دقت الساعة القاسية

كان مذياع مقهى يذيع أحاديثه البالية

عن دعاة الشغب

وهم يستديرون

يشتعلون- على الكعكعة

الحجرية- حول النصب

شمعدان غضب

يتوهج في الليل..

والصوت يكتسح العتمة

الباقية

يتغنى لليلة ميلاد مصر الجديدة.

أمل دنقل أغنية الكعكعة الحجرية.

كلهم مروا من هنا..أحمد عرابي، وهو يرفع راية العصيان في وجه الخديوي..ويمر به، من جديد، بعد الانكسار، نحو المنافي البعيدة، عاري ألراس، حافي القدمين، تستره جبة الفلاح التي احتفظ بها لمثل هذا اليوم.. كلهم مروا من هنا..الطرابيش والعمائم.. الصلبان والأهلة ..النساء والفتيان.. وثورة 1919 تعلن "الاستقلال التام أو الموت الزؤام"..كلهم مروا من هنا...طلبة وعمال الأربعينيات، من القرن الماضي، يفرشون الساحة بالمناشير والأحلام، قبل أن تفتح اليد الآثمة كوبري النيل، وتستمر اليد الأخرى في حصد من بقي عالقا بأسياخ الحديد الباردة...كلهم مروا من هنا..شهدي عطية الشافعي، محمود أمين العالم، عبدالعظيم أنيس، لطيفة الزيات... كلهم مروا من هنا واتجهوا نحو القنال، أو ساحات النزال التي أزهرت في كل مكان..كلهم مروا من هنا.. يوسف إدريس متجها نحو"مستشفى" القصر العيني "ومخطوط روايته "البيضاء" ما زال دافئا في محفظته بجانب السماعة وقلم الحبر وعلبة الأسبرين..عبدالرحمان الشرقاوي ورواية "الأرض" ..نجيب محفوظ بمقهى "ريش" في ندوة الجمعة الشهيرة..مظاهرة سليمان فياَض –ومن معه- من مقهى "ايزافيتش" عند اغتيال غسان كنفاني من قبل الموساد الإسرائيلي.. رضوى عاشور.. نجيب سرور...محمود دياب.. يحيى الطاهر عبدالله..أمل دنقل...محمد عودة.. محمد مستجاب.. محمود الورداني..ادوارد الخراط .. بهاء طاهر.. وائل غنيم...الحفاة والعراة والجنود والكتاب والفنانون والفلاحون والعمال والموظفون والعاطلون والحالمون بكوب ماء نقي والهاربون من انفجار المجاري، أو الدور المتهالكة، والجائعون والمكتفون بوجبة واحدة والقادمون من أفران الخبز الفارغة والمالكون القيراط أو قيراطين، من الأرٍض الدامية، والقاطنون بعشش البوص، أو بالغرفة الواحدة التي تسكنها أجيال ثلاثة.. والفتيان المدججون بالحواسيب ولغات الجفر، ورموز التمرد والعصيان.. والفتيات المشرقات بالضحكات الرائقة والنداءات المتهدجة..كلهم جاؤوا الى ميدان التحرير، ولن يغادروه الى أن يتحقق التحرير.

فهذا الزمان- كما قال أبو حيان- (لم يكن يعرف الناس في هذه الفترة إلا الجوع دون غيره).