الحكاية ترفض التشظي داخل الخواء

عبدالرحيم مؤدن

هاجس هذه المجموعة: الهم الإجتماعي. ف( الحكاية ترفض التشظي داخل الخواء) ، كما جاء في تقديم الكاتب في فاتحته .ص،5.

والعين الراصدة لايغمض لها جفن، وهي لاتكف  عن مسح الظاهر والباطن، من فضاءات و نماذج بشرية، ومسلكيات اجتماعية. والقاسم المشترك بين مختلف هذه المستويات يتجسد في  الفساد الذي عم البر والبحر، وناءت بحملها الجبال، فحملتها أجنحة فراش قد تعجز عن حمل رهافتهاالوبرية، لكنها ، في الوقت ذاته، حملت ذنوب العالم، قد يكون عرضه السماوات والأرض، دلالة، وقد يضيق ليصبح  مرادفا لرغبة محرمة، أو نزوة طارئة’ ، أو حجرة باردة تفيض بعزلة كائن عاجز،أو ذكرى

معارك سرقت من شهدائها ، وتحولت عقارا بئيسا، أوتعاطفا مجانيا، وفي أحسن الأحوال قد لاتتجاوز جسدا شائها يستهلك بأبخس الأثمان.

الفراشة،إذن، ليست مجرد كائن (مهموس)، بل أصبح، في العمل أعلاه،  رؤية فاضحة لمظاهر الخلل المختلفة ،من خلال الآتي:

أ- تصبح الفراشة معا دلا موضوعيا  لطبيعةالكتابة.فالفراشة ، على ضآلتها، لاتقتصر على حملها لذنوب الآخرين، بل إنها توجد في موقع المرسل من حيث كونه يمارس إنتاج سرد له مواصفات محددة يندرج في سياق القصة القصيرة جدا. ومن ثم ، لم تلجأ هذه المجموعةإلى طرح – كما هو الشأن في بعض الجاميع المنتمية إلى هذاىالنمط- إشكالية الكتابةالقصصية، بل مارست نوعا من التحدي  القائم على استيحاء أعقد القضايا في  ما خف وزنه، كما، وشف، كيفا، بدلالات عديدة، شعت بنفس نقدي، نحت من صخر، حينا، وغرف من بحر حينا آخر.

ب- وطبيعة هذالسرد  تتجاوز (أفق انتظار المتلقي) ،أو ما تعود عليه هذا الأخير من عوالم وردية شفافة،نحو عوالم أخرى  تمور بالمأساة اليومية بكل أبعادها المختلفة.أو بعبارة أخرى:  يخرج السرد- دموع فراشة- من صلب المأساة. فالجمال تفرزه المزابل والهزائم  والتدمير اليومي للروح والجسد والذاكرة والوجدان.( من اناشيد الأطفال المثيرة للتساؤل أمام زحف المزابل: في البستان زهر جميل… عليه فراش يلهو ويطير؟)

ج- هكذا تغيرت الوظيفة بتغير الشكل،وتغيرالشكل بتغير الوظيفة. وأصبح الفراش شاهدا على  اللحظة التي سال فيها الدمع مدرارا، فسقى  المشاتل والمزابل.

 للفراش ( بستان جميل)- كما رددته أناشيد الأطفال.لكن البستان، في هذاالسياق، قد يثمر معطوبي الحروب، وتجار المناسبات، والمفسدين في الأرض, ومن ثم ، لامحيد – كما جاء على لسان جبرا إبراهيم جبرا-  من (تشريح الفراشة بسيف) . وعلى هذا الأساس ، يمكن الحديث   عن الثيمات التالية التي كانت وراء دموع الفراش على الشكل التالي:

1- الهزيمة: وهي تخص الفرد والجماعة.في المستوى الأول نجد الوحدة والهروب والعزلة والإنعزال والنوستالجيا المدمرة لكل ما يربط الإنسان بالعالم.( كانت سيدة تبدد زمنها بالنظر من نافذة،ةعبر منظار، إلى شقة مقابلة.. مقابلة).ص.11.

وعلى مستوى الجماعة نجد التدمير المنهجي للذاكرة الجماعية ، من خلال الثورات المجهضة، وسيادة سلطة الموتورين،وإرهاب الجلادين,و( لم يبق من معالم الثورة سوى بحر فسيح للغرق.)ص.12.

2-التحدي المشوب بالتفاؤل، حينا، وبالتمرد ، حينا آخر. والكثير  من  نصوص هذه المجموعة ، ترتبط برغبة جارفة في تجاوز النمطية التي تنتظر ( منها فقط مجرد إشارة للتحليق أينما تريد).ص.14. كما أنها قد ترتبط بالرغبة في إعطاء الحياة معنى،ولو تعلق الأمر برجل (.. بصير حول المكان إلى حلقة للإحتجاح، لا للفرجة).ص,17. وقد ترتبط برواسب  مقاومة لم يجهضها الزمن الذي لم يمنع العجائز من مؤازرة  نساء ينتظرن المصير ذاته(.. ولتعرضن ماتبقى من إنسانيتهن بضاعة لتبديد الجوع.. والكآبة).ص.19.

3-يطير الفراش نحو ثيمة أخرى تمثلت في المثقف الذى  توزع بين عدالة القضية، وبين معاكسة واقع بئيس لكل القيم العادلة، دون نسيان صورة المثقف الزائف ، في سياق تصاعد نسبة النخبة الخائنة،أس البلاء في مجتمعاتنا البئيسة.

في الشق الأول يذهب المثقف بعيدا، مكررا أسطورة التمرد والمتمردين،  دون تراجع أو مهادنة، وهو يعقد صداقات جديدة ، مشاركا ( ضباع الأحراش أكبر الولائم).ص.38.وفي الشق الثاني( انظر قصة :خائن.ص.71.)، قد يستسلم للعبث، أو ، من ناحية أخرى، قد يجرفه تيار الوصولية والتدافع بالمناكب.

4- الزعامة: وهي تأخذ منحيين:منحى شرعي ينبع من مستودع القيم المتوارث عبر الشهداء والذين حملوا صلبانهم على أكتافهم. والمنحى الثاني يتجسد في  المتاجرين بالشعارات، والحاملين لأقنعة زائفة، والراكبين للموجة.وهم يأخذون صورا عديدة، يلبس فيها لبوس البرلماني المزيف الذي لايتردد فيها الزعيم الطرطور من بيع (أحلامهم ووعودهم ويعقد بجرة قلم أكبر الصفقات)ص.36. وقد يأخذون صورة الوطني الغيور الذي تنكشف حقيقته عند حضور إغراء محدد. فبمجرد أن ( رن هاتفه النقال، فأمر مخاطبه همسا بإيداع حصته من الغنيمة في حسابه الخاص خارج الوطن).ص.79.

5-الرغبة: سواء كانت عشقا ، أو حنينا إلى ذكرى طيبة، سيجارة او لذة محرمة،  بطولة  أو ملامح خبيثة. والملاحظ أن معظم قصص المجموعة انشدت إلى رغبة تحققت في الماضي، بطريقة أو بأخرى، أوإلى رغبة لم تكتمل، من ناحية ثانية، أو ، من ناحية ثالثة، ظلت حبيسة الحلم متأرجحة بين الممكن والمستحيل.

6- مدت المجموعة يدها للهم – فضلا عن الهم الوطني- القومي( غزة-ص.13 العراق-ص,41. حنظلة ص.53.– محمود درويش-ص.95.فالفراش لايأتمر بأوامر الجمرك، ولاعلاقة له بالحدود أو الموانع المختلفة.وقدم هذا الهم ، بوسائط عديدة،

 تداخلت مع السخرية ، حينا، إلى الحد الذي تم فيه قلب المفاهيم ،  بأسلوب السخرية السوداء، فتحولت ( الرأفة) إل مفهوم جديد  ينشر الموت ويقدم، في الوقت ذاته، وسائل الوقاية منه متلذذا بعذابات الآخرين. فالرأفة- في غزة- تعمم أسلحة الدمار…( وكعربون محبة، أهدت حلفاءها عصابات للأعين، وكمامات للأفواه..)ص.13. ومدمرالعراق لم يجد أمامه سوى ثور عجوز بمزرعته الشاسعة يروي له( قصصا عن العدالة والتسامح الغربيين)ص.41.وقد يتداخل هذالهم، حينا آخر، بالحس النقدي الذي يتوزع بين الرهافة والشدة

والقاسم المشترك بين هذه الثيمات الست – كما سبقت الإشارة-هو الفساد إلى حدود العبث. ولم يسلم الهم القومي من الفساد أيضا، بعد أن عم الصمت البلاد ، والمبدعون يتساقطون تباعا(دون خبر يذكر أو حتى تعليق بسيط ينشر)ص,53. ولعل ذلك ما يفسر انتشار المفارقة،إلى حدود العبث، عبر هذه النصوص،  من خلال مظاهر عديدة انسحبت على مفارقة القول والفعل،  المسموع والمسكوت عنه،الظاهر والباطن…

عود على بدء:

قاربت نصوص هذه المجموعة المائة. و هي  خاضعة لبنية تركيبية تقوم على الآتي:

1- متفاوتة ،كما، بين السطرين( ص.61) وبين الصفحة الواحدة(ص,67). ومعنى ذلك أن القصر- وهو تفاوت كيفي- خصيصة نوعية تخضع فيهاالجملة القصصية لاكتمال فكري( رؤية) ، وفني خاضع للدلالة قبل التفسير، وللبعد قبل الشرح والتأويل الذي ندر وجوده في معظم النصوص، دون أن ينعدم تماما.

هكذا تتموضع القصة القصيرة عبر فضاء (الأيقون) إن لم تكن الأيقون ذاته الذي يحتاج – من قبل المتلقي- طبعاإلى تفكيك  وتشريح.) لاحظ مثلا استعمال القلب المقصود للمتعارف عليه. فالجميلة والوحش، تصبح الجميل والوحوش، والماسح يصبح مسيحا،..)

2- وهذه الأيقونية سمحت بالتنويع المستمر للنص ذي الموضوع المشترك.فنص ( ماسح الأحذية) ص.59، يختلف عن نص ( مسيح الأحذية) ص.87.ومظاهر الإختلاف تكمن في الآتي:

+-في العنوان المتوزع بين اسم الفاعل وصيغةالمبالغة. فالفاعل قد يكون فعله ، قهريا أو إراديا، في حين تكون صيغة المبالغة إصرارا وهوية  وموقفا من الذات والعالم.

+-وموضوع ( ماسح الأحذية) منطلقه الأساس رفض الماسح لتلميع ما لايقبل التلميع،بالمعنى الدلالي، وبالمقابل  يتحول الماسح إلى مسيح  يبعث الحياة في الجلود المدبوغة ، سلاحه لايتعدى الكرسي الصغير، والصندوق الأسود،  اللذين تحولا ، في أعين(أعيان المدينة) إلى  أشياء مثيرة للشك والتوجس، وكأنها تخفي أسرا را يجب التخلص من صاحبها  في أقرب فرصة, وهذا ماكان.( ذات صباح أعدم شنقا، وصلب على إحدى البوابات، بتهمة غموض هوية الكرسي، وعدم شفافية الصندوق، وتخوفا من تحوله إلى مسيح لأحذية قد تبعث فجأة بينهم.) ص,87.

بين صليب المسيح ، وكرسي (مسيح) الأحذية القواسم المشتركة التالية:

أ-  الدلالة الإيقونية  الواحدة بالرغم من اختلاف المرجع والهوية.وهذه الدلالة تقوم على حمل آلام لآخرين ومساوئهم أيضا.(  عكس صليب المسيح عقوق الرافضين لرسالته، وجسد الصندوق – مع مراعاة الفارق- خبث المحيطين به من نفوس مريضة،وعيون آثمة. وبالرغم من  اختلافهما شكلا  ومادة ، فإن ذلك لم يمنع من انضوائهما تحت دلالة الصليب).

ب- عند المسيح يصبح الصليب عنوانا للمعاناة والمقاومة ، في الوقت ذاته.  ويصبح الصندوق  الملازم للكرسي عنوانا على التحدي والمجاهدة. ألم يجب ( دعبل الخزاعي) – وهومن مناصري آل البيت- سائله ب( أنه يحمل صليبه أربعين سنة دون أن يجد من يصلبه عليه.).؟!

ج-  من  أفعال(المعجزات) المسيح إحياء الموتى، ومن أفعال مسيح الأحذية  بعث الأحذية في أحسن صورة.

د- يصبح الصليب/ الصندوق كناية عن عدالة القضية التي تنتصر للمظلوم وتفضح الظالم.وأعيان المدينة يعرفون ذلك جيدا، الشئ الذي دفع بهم إلى اضطهاد مسيح الأحذية، كما اضطهد المسيح في الماضي،بالرغم من اختلاف نهاية كل منهما.

 3-تميزت عناوين هذه المجموع بالصيغ التالية:

+- صيغة مركبة من إسمين- أربع قصص-( الذئب والقبرة/الصرار والضفدعة/ الوجه والقناع/النملة والعصفور). وطبيعة التركيب تعكس بنية حكائية مزدوجة يتم فيها تبادل المحكي، بين الشخصيتين، من جهة، والرؤية،أو الموقف،من جهة ثانية.

+-صيغة مركبة من جملة، وهي الصيغة الغالبة في المجموعة- فعلية أو إسمية- توحي باستمرار حكاية سابقة(أسطورة خنيفرية)، أو ببداية حكاية جديدة( طلاق بالثلاثة)،أو بتأسيس حكاية جديدة على أنقاض حكاية  سابقة(لأنها برتقالة).

+- عناوين باللغة الأجنبية( فرنسية أو إنجليزية).وهذا الإستنبات، في جسد النص،  يدخل القارئ إلى حلبة النص بإيقاع دال، يحمل نفسا إشهاريا ، من موقع جديد.

+ قصة يتيمة تحمل الرقم التالي :36، بدلالته المرعبة عن عالم المجانين – جناح 36للأمراض العصبية- الذي لم يقنع بمرضاه، من بني البشر، بل امتد الجنون إلى الرقم ذاته)=(36) الذي أخرج (لسانه الطويل وكنس الحديقة،أضاف ذيلا للمرأة وربطها تحت ، شجرة، أسدل شعر الدمية إلى الوراء، وأضاف إلى وجهها قليلا من المساحيق،واتخذها عشيقة .. لليلة واحدة)98.

وقفة قصيرة:

لأمر ما شكلت شخصية الفراشة- المعادل الموضوعي للمرأة- نسبة دالة بلغت 38في المائة من مجموع النصوص التي قاربت المائة.إنها حكاية  (الليلة الثامنة والتسعين)  عن شخصية  نزلت مع آدم من الجنة بعد أن تحملت وزر خطيئة مشتركة، وبنزولها على الأرض، اشتعلت الحكاية ،من جديد، عبر أدوار عديدة، اختارت البعض منها عن طواعية أما وزوجة وعشيقة، وألصق البعض الآخر بها، لسبب أولآخر، شهوة وشيطنة وممارسات عديدة تداخل  فيها الواقع بالخيال،والقهر بالإختيار، مع نسيان تام لوجودها الإنساني الذي يتأرجح بين الضعف والقوة.

في نص (دموع فراشة)- لاحظ التنكير الذي يعرف ما لايعرف- تنتقل المرأة بين زبائن الحانة،  مكررة دور الفراشة الدائم في طوافها حول الضوء، وهي تعرف جيدا مصيرها المحتوم، رغبة في معرفة كنه الضياء،  الذي اتخذ دلالة أخرى في النص، من خلال اللون الأحمر الذي أشعل الحرائق( ضوء الحقيقة) في المفاسد، وها هو الآن- اللون الأحمر- يدمر الفراشة ، بعد أن تحول  زيف(.. يمنعها من إماطة اللثام ، ولو جزء صغير من قناعها السخيف) ص.21.

لاغرو،إذا كانت مياه الأنهار والبحار من دموع الثكالى والأيامى ، من دموع ا مرأة تمنح الحياة- بالمعنى الواسع- وهي تغالب الموت بالمعنى الواسع أيضا./.

 

1- حميد ركاطة: دموع فراشة.قصص قصيرة جدا.دار التنوخي.2010.