«لا أرى وجوها»: عالم العزلة والتهميش

عبدالرحيم مؤدن

في تجربة سعيد أحباط المعنونة بـ "لا أرى وجوها"، نضع اليد على العالم النموذجي للقصة القصيرة، عالم العزلة والتهميش (فرانك اوكونور في مقالاته حول القصة القصيرة لسان الجماعة المغمورة) الذي لا يتردد فيه إلا صراخ الفرد بصوت أشبه بالعواء.

ومنذ الصفحة الأولى نلمس مظاهر هذا الإحساس، من خلال معجم تكررت فيه كلمة الجدران، مرات عديدة، وتنوعت أساليبها وصيغها المادية والمجازية، بأبعاد مختلفة، التي ظلت مخلصة لنداء الفجيعة المنبعث من زوايا عديدة في النص.

لاغرابة إذا وجدنا ساردا - وهو في معظم الأحيان شخصية مركزية في النص - لا يتردد في العزف على هذه الجدران من خلال محورين:

1. جدران الذات - وهي أكثرها شراسة - التي تنمو فينا، بوعي أو بدون وعي، وتمنعنا من الحركة والتواصل، بعد أن (تحولت إلى جدار أصم وصلد).

2. جدران الخارج الممثلة في الحواجز والموانع والممنوعات ماديا ومجازيا.

ويندر ألا نجد في أغلب قصص هذه المجموعة حضورا للجدار، بطريقة أو بأخرى، سواء بواسطة التصريح، أو التلميح، لفظة، أو تركيبا، صورة، أو تداعيات موجعة.

في "شئ من الغرابة" يتحول الكائن إلى جدار. و"الجدار البشري" هو الخالق للعزلة الباردة في قصة "لا أرى وجوها". في قصة "الصوت والمطرقة" تتكرر كلمة الجدار، مفردا وجمعا، عشر مرات، وبصيغ مختلفة. وفي قصة "النبات ينمو في ضوء الشمس"، يرتفع البناء – وهو جدار من الجدران - عاليا ليحجب الشمس عن الكائن المتضائل يوما عن يوم. أما في قصة "مادة الحياة"، فالجدران تعادل الحرمان من الأمومة بالرغم من غنى الشخصية. وفي قصة "صمت الصدى" يعكس الجدار. تراكمات الصمت في زقاق يعيش موته البطئ منذ أمد طويل. في قصة "العطش" يطل الحرمان، من جديد، وسط سخرية الجميع.

الجدار، إذن، في هذه المجموعة بمثابة شاشة ضخمة تعرض الماضي والحاضر، وتتعاقب عليها الأحداث والسنون عبر أدوار مختلفة، مبكية ومضحكة، تؤكد على الآتي:

أ‌- العزلة: وهي ثيمة مشتركة بين معظم نصوص المجموعة، فالسارد - الشخصية يعيش غربة عميقة بسبب عجزه عن مسايرة القطيع السعيد بفقره، والمنتشي بوضعه الذي اعتبره قدرا لا مفر منه. وعندما يرفض السارد هذا الوضع يتهم بالجنون، ويطارد بالسخرية القاتلة، أو الإشاعة المريضة.

ب‌- اللاتواصل: وهو نتيجة للسبب السابق بحكم رفض السارد - الشخصية للمواضعات السائدة. وبالرغم من توظيف الحوار في نصوص كثيرة، فإن طبيعته- صياغة ومضمونا - تعزز هذا اللاتواصل عبر الخصائص التالية:

1- صدوره عن كائن لا وجه له - والمجموعة تحمل عنوانها الدال " لا أرى وجوها" - لا ملامح له، لا هوية له.

2- إنه صوت "مونولوجي"، بالرغم من طابعه "الديالوجي"، أو الحواري. وهذا يؤكد، من جديد، على عزلة الكائن، أو صعوبة تواصله مع الآخر، سواء كان حبيبة، أو صديقا، أو سلالة، أو مكان ذكرى. فـ "نحن في الشكوى من الوجوه سواء".

3- وهذا الصوت المونولوجي قد يتحول، أحيانا، إلى قلق "وجودي" تطرح فيه الأسئلة الشائكة حول الوجود والمصير، والعلاقة مع الآخر. وقد يتحول، أحيانا أخرى إلى صرخة ألم في البرية التائهة كائنا ومكانا وتاريخا.

ج - وبالرغم من رغبة الكائن في مقاومة الجدار، ومن وراء الجدار، فإن ذلك لا يمنع من التأكيد على خضوعه لعطب "أنطولوجي" تفاعلت فيه أزمة الذات بأزمة العالم – الواقع بمحمولاته المادية والنفسية - وأصبح الكائن، نتيجة ذلك، خاضعا لقدرية لا يستطيع منها فكاكا، بعد أن غرست فيه كل عوامل الإستسلام والهزيمة. "هل جئت بالمطرقة؟ حاولت التهرب من السؤال. أجبت قائلا: لا لم آت بها".

في قصة قصيرة لا تتجاوز الأسطر الأربع "دون وجهة تماما" نلمس هذا "العطب الوجودي" المترسخ في الذات الإنسانية بسبب تحول هذه الذات إلى فراغ رهيب، ماديا وروحيا، بعد أن ألفت الإستغلال الذي جعل منها ذاتا فاقدة للإرادة، أو المقاومة. فحركة ركوب الحافلة السيزيفية، يوميا، لم يمنع الحافلة من أن تركب الناس. والأمر يشبه شريط "الأزمنة الحديثة" لـ "شا رلي شابلن"، وهو يغادر المصنع، مساء، لتزوره كوابيس طقطات الآلة الجهنمية أثناء النوم، وكأنه لم يغادر المصنع بتاتا، مواصلا السياقة أثناء النوم.

ولعل هذا ما يفسر كثافة التعبير، في هذه النصوص، التي تحفر بالإزميل عوض الكتابة بالقلم. وبحكم انتمائها إلى مرحلة التسعينيات، من القرن الماضي، فإنها لم تتردد في محاورة التراكم السردي الذي حققته القصة المغربية القصيرة، التي لم تعد – منذ سبعينيات القرن الماضي - تنتصر للسرد الهادئ الذي يتجه، أفقيا، نحو هدفه بدون لف أو دوران، بل أصبحت مرآة للقلق اليومي، بعد أن ذابت المرجعيات الكبيرة – ثقافيا وسلوكيا وأطروحات تأسيسية - ذات البعد الرمزي في أتون معاناة الكائن مع جبهات متعددة، مما فسح المجال لسرد مضطرم بتقاطعات العمودي والأفقي، الهنا والآن، الجزئي والمشترك، اللغة العارية والإشراقات التعبيرية ذات النفس المأساوي والسارد، بالإضافة إلى هذا وذاك، لا يتردد في "تقشير" هذه اللحظة، طبقة طبقة، للوصول إلى عمق البئر الذي جف ماؤه منذ أمد بعيد، دون أن يمنعه ذلك من مواصلة الحفر. فمن يدري، فقد ينبجس الماء من تلافيف الصخر، أو لعله المثوى الأخير لسارد آن له أن يترجل؟