الشخصية قي القصة القصيرة

عبدالرحيم مؤدن

تجسد الشخصية رهان التجربة الفنية على اختلاف موادها وأساليبها واتجاهاتها. والإقتراب منها يقوم على ضوابط محددة يتداخل فيها الواقعي بالمتخيل، والكائن بما يجب أن يكون. وعلى ضوء ذلك نسجل الحقائق التالية:

أ‌-                 الشخصية عماد كل الفنون، بما فيها الفنون الزمانية، كما يسميها البعض، أو الفنون المجردة كمايسميها البعض الآخر، مثل الموسيقى. (السمفونية التاسعة ل"بتهوفن" تبلغ أوجها في المقطع الشعري ل"شيللر" الذى جسد الإنسان الكوني الباحث عن قيم الحب والفرح والسمو عن كل الأحقاد}.

ب‌-            ومن البديهى أن نفرق ، في هذا السياق، كما ورد في العديد من المناهج، بين الشخص وبين الشخصية. بين الكائن المصنوع من لحم ودم، وبين الكائن المصنوع من ورق ومتخيل ونصوص أو مواد معينة، بين الكائن « التاريخي» المنتمي إلى مرجع متداول من سجلات ومدونات وتقييدات، وبين الكائن النابع من فضاء نصي يمنحه وجوده الشرعي. غير أن ذلك لايمنع من وجود علاقات التواصل بين الشخص والشخصية. فالشخصية قد تأ خذ القليل أو الكثير من الشخص، والعكس بالعكس صحيح، ولكنها في الوقت ذاته تتجاوز ماهو كائن إلى ما يجب أن يكون، إلى المحتمل عوض الإكتفاء بالثابت، إلى الحلم قبل الواقع. (لنتذكر ما قاله أرسطو في كتابه فن الشعر عن الفرس بقوائمه الثلات عوض الأربع_ قولة قدامة بن جعفر الشهيرة في كتابه فن الشعر عن المستحيل المفنع خير من الممكن الذي لايقنع.}.

ت‌-            الكائن في النص الإبداعي قد يكون إنسانا، حيوانا، نباتا، جمادا.. قد يكون كل ذلك ، أو بعضا من ذلك. وهو، سواء كان هذا أو ذاك، يحمل القليل، أو الكثير، من ملامح خالقه، أو ما يطمح إلى خلقه وتشخيصه. ف"ناقة" طرفة بن العبد تختلف عن باقي النوق بحكم امتلاكها لنوع من الوعي يخول اختبار فحلها عند الضراب، وعند رعيها بالمرعى الجيد، وهي مختلفة عن باقي النوق تكوينا وجسدا الذي يشبه هيكل قنطرة الرومي، وقبل هذا وذاك، تتعاطف هذه الناقة مع الشاعر حزنا وفرحا وغضبا.. والخلاصة أن هذه الناقة تتجاوز الحيوان والإنسان أيضا، لتصبح شخصية قائمة الذات تجسد طموح الشاعر لتحقيق عالم فاضل يستند إلى قيم الجمال والوحدة والقوة والتوحد كما أشارت إلى ذلك بعض الدراسات والاجتهادات في هذا المجال. ومن ثم فالفنان قد يجعل من الشخصية أداة لحمل ما يحس به في لحظة محددة، أو مرحلة معينة. من منا لم يتعاطف مع لوحة « فان جوخ» التي حملت حذاء مهملا بسيور مندلقة على الجانبين بإهمال واضح، ومقدمة الحذاء تحلق في الفراغ مثل جمجمة باردة..

ث‌-             ومعنى ذلك أن الشخصية في أوضاعها المختلفة، في محاسنها ومساوئها، في مركزيتها أو هامشيتها، أقول: إن هذه الأوضاع هي منظور الفنان قبل أن تكون منظور الشخصية دون أن يمنع ذلك من امتلاك الشخصية لهويتها الخاصة بعد أن كسيت لحما وعظما، وحملت طبائعها الخاصة التي أصبحت متحكمة في مسلكياتها وعواطفها.. وفي كل الأحوال تظل الشخصية مدينة بالولاء لصانعها، بل إن رسم الرسام لذاته»البورتريه» هو رؤية ذاتية في لحظة معينة. والدليل على ذلك اختلاف « البورتريهات» باختلاف اللحظات، واختلاف مراحل العمر. (بورتريه «فان جوخ «بين البداية والنهاية، هاملت شكسبير وهاملت رومان بولانسكي، عطيل شكسبير وعطيل أورسون ويلز، بتهوفن جان لوي بارو وبتهوفن المخرجين المتأخرين...الخ}.

الشخصية في القصة القصيرة

سأنطلق من تجربتي الشخصية- وهي تربو على العقود الثلاثة- مسجلا الملاحظات التالية:

أ‌-                 لا وجود لوصفة جاهزة ترسم على ضوئها ملامح الشخصية القصصية. ومن ثم لاوجود لثوابت نظرية، أو فنية، تتحكم في بناء شخصية ما. وإذا كان من الطبيعي استفادة الكاتب من تجارب متعددة، فإن ذلك لايعني وجود «دليل» ما لرسم شخصية محددة. فالشخصية تولد من رحم النصوص، وتعيش حياتها بالطول والعرض داخل هذه النصوص، بعد أن يشتد عودها، ثم تأتي الكتابات النقدية، والنظرية عامة، لنمذجة ما هو وارد في هذه النصوص في انتظار خلق شخصيات أخرى.

ب‌-            وتكون شخصية ما قد يكون نتيجة لحظة غير متوقعة، أو قد يكون نتيجة متابعة واستقصاء وتخطيط ورسم لمختلف ملامحها ومكوناتها.. قد تحضر فجأة وتغيب فجأة في دوامة اليومي وإكراهاته إلى أن تنبع من جديد في سياق جديد، وقد حلت في شخصية جديدة. وهي، في كل الأحوال، حاضرة في وجدان الكاتب، في النوم واليقظة، لاتتركه بسلام إلا بعد الإنتهاء من رسم ملامحها الأولى التى تأخذ في النمو التدريجى، إلى أن تكتمل عناصرها في نص محدد، أو قد لا تنتهي إلى هذا الإكتمال إلا في نصوص تالية، بعد أن حلت في شخصيات أخرى وصارعتها على الوجود داخل نص محدد، وفي أوضاع محددة.

ت‌-             لاتنفصل الشخصية، إذن، عن فكر الكاتب وتعدد تجاربه. فتجاربنا الأولى كانت، في معظمها، مجرد محاكاة، بالمعنى الساذج، لشخوص صادفناها، بطريقة أو بأخرى، في حياتنا اليومية. ويرجع ذلك لأسباب عديدة منها ما هو مرتبط بمحدودية التجربة الحياتية ذاتها، ومنها ما هو «نوستالجي» عبر الحنين إلى مرجعيات محددة من خلال شخصيات معينة ظلت موشومة في ذاكرتنا، ومنها ما هو مرتبط بخلق مصداقية معينة بحثا عن متلق أو قارئ محدد. وبنطور التجربة الحياتية والإبداعية للكاتب، تصبح الشخصية منحوتة من تركيبة جديدة تجمع بين الواقع والخيال، الوهم والحقيقة، التوهم والإيهام... وتصبح ملامح الشخصية مزيجا من أسئلة الواقع وأسئلة الكاتب، بين ماهو كائن وبين ما يجب أن يكون.

ث‌-            ومن الثوابت اختلاف الشخصية في القصة القصيرة عن غيرها في أجناس إبداعية أو فنية مختلفة. ولو حاولنا المقارنة بين جنسي القصة القصيرة والرواية، في هذا السياق، لوجدنا الآتي:
-
تتميز بنية القصة القصيرة بالانغلاق والانفتاح في آن واحد. الانغلاق ينسحب على المساحة النصية، وينعكس، في الوقت ذاته، على باقي المكونات، ومنها مكون الشخصية. أما الانفتاح فيتجسد في الدلالة التي تمثلها القصة القصيرة . فهي مجرد شجرة، ولكنها تعادل الغابة، وهي الوردة والبستان في آن واحد، وهي اللحظة ولكنها تعادل الكينونة. أما الرواية فهي الانفتاح الواسع على الزمان والمكان، والتعدد في الشخصيات والوقائع، والتنوع في الأساليب سردا ووصفا وحوارا وتحليلا واستنبطانا ونقدا..

القصة القصيرة فن ذاتي. إنها نص المتكلم بامتياز. اللسان الناطق للجماعة المغمورة، أو المهمشة (فرانك أوكونور). والمتكلم، في هذا المجال، قد يكون شخصية حاكية، أو محكي عنها. وبالمقابل نجد الرواية فنا موضوعيا منتميا إلى الجماعة تسهم فيه كل الشخصيات.

في القصة القصيرة بحث دائم عن شئ مفقود في الطفولة?أو في زمان ومكان ما. أو قد يتعلق ذلك برغبة، أو حرمان مادي أو معنوي. من هنا تشرع القصة القصيرة في استرجاع هذه اللحظات ويتم إيقاف الزمن والإنطلاق في تبئير اللحظة أفقيا وعموديا. في الرواية نجد الزمن التاريخي، زمن الجماعة الإنسانية المتناسلة عبر التاريخ.

الشخصية في القصة القصيرة واحدة ووحيدة. مفردة، متمردة، عاقة. وفي حالة وجود شخصية أخرى، في النص ذاته، فإنها تمارس السلوك ذاته. أما في الرواية، فالشخصية تتحرك عبر تمثيلها لفئة، أو طبقة اجتماعية محددة.

الحدث في القصة القصيرة، عند ارتباطه بالشخصية، صاعق، سواء كان مركزيا أو هامشيا، خبرا بسيطا، أو حدثا مزلزلا. والحدث قد يكون وراء مأساة الشخصية، أو وراء سعادتها، مؤسسا لعقدة القصة بصفة عامة.
-
غير أن العقدة قد تكون الشخصية ذاتها التي تحمل رأسها الكبيرة (دوبل طيط)، أو لازمة محددة تكرر في مواقف معينة، أو رغبة جارفة لاتقاوم. فى الرواية نجد الحبكة القائمة على نظام معقد تتشايك فيه مكونات عديدة.

لاتقدم الشخصية، في القصة القصيرة، إلا من خلال جزئية دالة، بخلاف الشخصية الروائية المتسمة بالشمولية.
في قصة قصيرة كتبتها في الثمانينيات تحكمت فيها حالتان:

ـ الرجل والكمان: وفي هذه الحالة كان الكمان أداة للحلم والحوار والفرح.

ـ الكمان والرجل: وهو مقطع يجسد العجز واللاتواصل، وينفتح صندوق الكمان ليتحول إلى تابوت صغير يدخله الرجل بعد أن ترك الكمان وراء ظهره.

الشخصية، في القصة القصيرة، قد تكون إنسانا أو حيوانا أو نباتا. وهى، في كل ذلك، قد تنطق بالحكمة، أو الكلام الغريب. وقد تحمل اسما، أو قد تكتفي برمز معين، سواء كان حرفا، أو رقما. في قصة عنونتها ب»الحلم والواقع» حملت الشخصية حرف المجهول (س) بهدف التعبير عن المشترك بيننا جميعا. وما تعرضت له الشخصية ينسحب على الجميع.

الشخصية في القصة القصيرة تمتلك لغتها الخاصة، علما أنها قد تنطق بصمت عن طريق البياض، والفراغات والعلامات والشفرات. في الرواية يظل كلام الشخصية مشدودا إلى الوشم الجماعي الخاضع لتقاليد التواصل في اللغة والكلام. وبالمقابل نجد لغة القصة القصبرة الهامسة الحميمية المتداولة بين الناس. السرد في الرواية يشبه النهر الصامت، على مستوى السطح، ولكنه مليء بأساليب ومحكيات الذين عبروه يوما ما.

تطل علينا الشخصية في القصة القصيرة من خلال بناء من زجاح يعرض كل شئ من جهة، وهو، من جهة ثانية، قابل للكسر والتجدد المتواصلين. أما بالنسبة للرواية، فالشخصية تتموقع وراء بناء من حجر وإسمنت وحديد، لايسمح بالتعرف على الشخصية إلا بعد نحت وتعرية.

أخيرا، وليس آخرا، الشخصية في القصة القصيرة، وبالرغم من صدورها عن سارد معين، تشعر القارئ بأنها تتحكم في وجودها داخل النص بعيدا عن سلطة السارد، بل قد تتمرد عليه لسبب أو لآخر (انظر قصة « وتلك قصة أخرى» التي أصدرتها في أوائل التسعينيات من القرن الماضي). وهذا يعود، في جوهره، إلى رفض « النمطي»، العدو اللدود للقصة القصيرة. وبالإضافة إلى ذلك، تطرح هذهالوضعية إشكالية الكتابة بصفة عامة عند محاولة الكاتب تشكيل شخصية ما (انظر قصة "اللوح المحفوظ" لأحمد بوزفور}.

يموت الكاتب، وفي نفسه شئ من شخصية معينة قد تحمل القليل، أو الكثير، من هواجسه وأحلامه، قوته وعجزه... لا وجود لشخصية مكتملة أو نهائية، بل إن كل شخصية تخرج من بين أصابع الكاتب هي مجرد زاوية من الشخصية التي ما زالت في طور البناء، أو الكتاية.