رحل الاديب غونتر غراس، ذلك الكاتب الذي حطم صمت أجيال من الالمان عن ماضيهم، فقد توفي في احد مستشفيات لوبيك عن عمر ناهز السابعة والثمانين. الرئيس الالماني جواكيم جوك كان في مقدمة من نعاه، وقدم تعازيه الى يوتا غراس ارملة الكاتب وقال في بيان له: "كانت رواياته وقصصه القصيرة وقصائده تعكس الامال العظيمة والخيبات، مخاوف وتطلعات اجيال باكملها." كلمات النعي بدأت بالظهور بعد دقائق من اعلان دارالنشر ( شتيدل) عن وفاته.
وفي بيان قصير لها قالت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل: "لقد عاصر غراس وشكّل تاريخ المانيا بعد الحرب بفنه ونشاطه الاجتماعي والسياسي."
الكاتب التركي الحائز على جائزة نوبل اورهان باموك تحدث عن ذكرياته الشخصية الحميمة: "تعلم غراس الكثير من رابليه وسيلين وكانت له بصمة مؤثرة في تطوير الواقعية السحرية كما فعل ماركيز، لقد علمنا ان ترتكز القصة على قدرة الكاتب في الخلق والابداع، مهما كانت قاسية ومؤلمة." ويضيف باموك: "في نيسان عام 2010 حين غطى سماء اوروبا غبار نووي كان غراس حينذاك في اسطنبول وامضى وقتا اكثر مما كان قد خطط له، ذهبنا الى المطاعم، كنا نشرب ونتحدث،كان صديقا دافئا جدا وكريما ولطيفا."
اما جيوفري موليجان الناقد البريطاني والذي كتب الكثير عن غراس فقد قال :"كان غراس واحدا من عمالقة الادب العالمي"، مضيفا: "بينما كان اغلب الناس فرحين بنجاحهم في واحد من المجالات الفنية، فان غونتر غراس كان ناجحا كفنان، ونحات، وشاعر، وكاتب مسرحي، وروائي، وكان يمتلك شخصية مرحة وسخية، وكانت صحبته رائعة."
كان غراس يحقق نجاحا في كل عمل فني يقوم به، من الشعر الى الدراما، من النحت الى الفن الغرافيكي ولكنه لم يحز على شهرة عالمية الا عندما صدرت روايته (طبل الصفيح) في عام 1959 والتي نال عليها جائزة نوبل بعد اربعين عاما. اما ويلي براندت كاتب خطابات المستشارة الالمانية فيقول: "لم يكن غراس يخشى ابدا من ان يستخدم ما منحته اياه الشهرة، فكان ينظم الحملات من اجل السلام والبيئة، ويعارض اعادة توحيد الالمانيتين، والذي كان يقارنه باحتلال هتلر للنمسا."
ولد غونتر غراس عام 1927 في مدينة دانتسيغ وتسمى الان جدانسك حيث ضمت الى بولندا،وكما كان يقول: "لقد كان الوقت متأخرا على الاغلب وغير كاف لان اتجنب الانخراط في النظام النازي فالتحقت بالجيش عام 1944." وفي السادسة عشرة من العمر خدم في سلاح الطيران، كما خدم في الوحدات النازية، واتهم بالخيانة والانتهازية والنفاق، حينما تناول الموضوع في سيرته الذاتية (تقشير البصلة) عام 2006.
كان الكاتب مندهشا من قوة ردود الافعال مجادلا بانه كان يعتقد ان الوحدة التي خدم فيها هي وحدة نخبة، ولذلك فقد تحدث بصراحة عن سجله الحربي في الستينات، انتهت الحرب بعد ستة اشهر دون ان يطلق رصاصة واحدة، وجرح في كوتبس ورقد في مستشفى عسكري للجيش الامريكي، مما جنبه التهمة بارتكاب جرائم حرب والتي، حسب ما كان يؤكد، كان يستحقها لو كان قد ولد قبل ثلاث او اربع سنوات "فبالتأكيد سوف اجد نفسي متهما باحدى تلك الجرائم." وبدلا من ذلك فقد بدأ بالتدرب على مهنة البناء ودرس الفن في دوسلدورف وبرلين وانضم الى مجموعة 47 لهانس ريختر جنبا الى جنب مع انجيبورج باخمان وهنريك بول، وبعد انتقاله الى باريس عام 1956 بدا العمل في انجاز روايته التي تحكي قصة المانيا في النصف الاول من القرن العشرين من خلال حكاية طفل يرفض ان يكبر.
هوجمت روايته (طبل الصفيح) من قبل النقاد، تلك الرواية التي كانت مزيجا كبيرا من الفنتازيا والحكايات العائلية والخرافات والاساطير السياسية، وحرمت من جائزة بريمن الادبية، بسبب غضب النواب، احرقت في دسلدورف واصبحت الاكثر مبيعا في العالم. وحين تحدث امام الاكاديمية السويدية عام 1999 اوضح غراس ان ردود الافعال تلك علمته «ان الكتب يمكن لها ان تثير الغضب وتهيج المشاعر، وحتى الكراهية، منذ ذلك الوقت اصبحت مثيرا للجدل.»
روايته الاخيرة (مشية السرطان) 2002 تتناول حادث غرق السفينة الالمانية فيلهلم غوستولف في عام 1945
الاوساط السياسية في المانيا كان رد فعلها سريعا لخبر وفاة غراس، زعيمة حزب الخضر الالماني كاترين جورنج وصفته «بالمؤلف الكبير ذي الروح الناقدة وكان يمتلك ارادة مكنته ان يقف في وجه التيار السائد.» اما وزير الخارجية الالماني فرانك والتر شتينماير فقد عبر عن (صدمته العميقة) لسماع خبر وفاة غراس. والكثير من كلمات نعيه اعتبرته واحدا من اهم كتاب المانيا في فترة ما بعد الحرب. اما مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي فقد ركز الكثير منهم حول شخصيته ومواقفه المثيرة للجدل، مشيرين الى خدمته في الجيش وما زعم عن معاداته للسامية.
وفي حديثه لمجلة باريس ريفيو عام 1991 فان غراس اعتذر عن تركيزه المستمر على ماضي المانيا المعقد "لو كنت مؤلفا سويديا او سويسريا لربما عبثت اكثر، ولرويت نكاتا وما الى ذلك، لم يكن ذلك ممكنا بسبب خلفيتي، لم يكن عندي خيار اخر."
وقد أثار الجدل مجددا بعد نشر قصيدته (ما يجب ان يقال) عام 2012، والتي انتقد فيها سياسة اسرائيل ونشرت في وقت واحد في صحيفة سودتشه تزايتونغ الالمانية وصحيفة لاريبوبليكا الايطالية والبايس الاسبانية، وقد اثارت هذه القصيدة ردود افعال غاضبة من السفير الاسرائيلي في المانيا شيمون شتاين والذي رأى فيها إشارات مزعجة لماضي اليهود واسرائيل. ورغم تقدمه في السن، فقد كان غراس ناشطا في الحياة العامة، وكان له حضور مميز في الاسابيع الماضية، وفي مقابلة تلفزيونية اجريت معه في شباط الماضي بعد قراءة على الهواء لمقاطع من كتابات الكاتب الالماني غريم، وصف كتابه الاخير بانه (اعلان عشق للغة الالمانية.)
كما تحدث كيف ان الانترنت وتلاشي فن كتابة الرسائل قاد الى نوع من الامية الجديدة "بالطبع فان لذلك عواقبه فهو يؤدي الى فقر في اللغة، ويسمح لكل شيء ان يطويه النسيان بما في ذلك الاعمال الخالدة للاخوين جريم."
كما ذكّر بانتقاداته للسياسة الغربية في الشرق الاوسط:" نحن نرى الان الفوضى التي خلقناها في تلك البلدان من خلال قيمنا الغربية."
وقال غراس:"لدي اطفال واحفاد واسأل نفسي كل يوم ما الذي سنتركه لهم؟،عندما كنت في السابعة عشرة عند نهاية الحرب،كان كل شيء مدمرا،ولكن جيلنا،بغض النظر عما كان دافعه جيدا ام لا،كان يملك الأمل . لقد اردنا ان نصنع المستقبل وهذا صعب جدا بالنسبة لشباب اليوم،بسبب ان المستقبل يبدو على الاغلب ثابتا ومحددا من قبل ولا يمكن تغييره."
عن جريدة الغارديان البريطانية