منذ أن نشر الكاتب والأديب الألماني غونتر غراس، والحائز على جائزة نوبل في الآداب، ورحل بالأمس عن عمر يناهز 87 عاماً، قصيدته النثرية «ما ينبغي أن يقال»، في صحيفة «سودوتشي تسايتونغ»، في الرابع من نيسان العام 2012، اعتبرته سلطات الاحتلال الإسرائيلي، محرضاً، وقادت آلتها الإعلامية حرباً بلا هوادة ضده، كونه انتقد تهديدها بضرب المنشآت النووية في إيران، واعتبرها تهدد السلام العالمي، وجاء في مطلعها «ولهذا أقول ما ينبغي أن يُقال.. لكن لماذا صمتُ حتى الآن؟ .. لأني اعتقدت أن أصلي .. المدان بجرائم لا يمكن أبداً التسامح فيها ... منع من مواجهة دولة إسرائيل، بهذا الواقع كحقيقة واضحة ... لماذا أقول الآن فقط وانا كبيرٌ في السن، وبآخر قطرة حبر من فكري:إن القوة النووية لإسرائيل خطر على السلام العالمي الهش بطبيعته؟»
وفي قصيدة غراس، الذي شارك العام 1944 في الحرب العالمية الثانية كمساعد في سلاح الطيران الألماني، وبعد انتهاء الحرب وقع العام 1946 في أسر القوات الأميركية إلى أن أطلق سراحه في نفس السنة، قال إنه «سئم من نفاق الغرب فيما يتعلق بإسرائيل، وأهوال النازية ليست ذريعة للصمت».
وقال غراس للصحيفة التي نشرت القصيدة، إن ما دفعه لكتابة القصيدة حول الخطر النووي الإسرائيلي، هو سلوك نتنياهو الذي «يخلق المزيد من الأعداء لإسرائيل ويزيد عزلتها»، مشيراً إلى أن «الخطر الفوري هو الخطر الذي لا مثيل له، ضربة وقائية إسرائيلية ضد إيران يمكن أن تكون لها عواقب فظيعة».
حملة إسرائيل شعواء
ومن الممكن القول بأن موقف إسرائيل من انتقادات الأديب الألماني غونتر غراس ورد فعلها عليه تجاوز كل الحدود، وتقريبا لم يتخلف أي سياسي صاحب اسم في إسرائيل عن المشاركة في الحملة المنظمة عليه، فهو في كل الأحوال ألماني ويكفي ذلك لاعتبار أن النازية تعود لترفع رأسها وأن ذلك قد يشجع على تنامي المظاهر المعادية للسامية في أوروبا تحديداً.
ولا يهم في هذا السياق إذا كان أباطرة الأدب والفكر الإسرائيلي منذ ما قبل العام 1967 يكنون تقديرا هائلا لغونتر غراس أم لا، فالمهم هنا أن انتقاداته لحكومة الاحتلال تجعل منه عدواً للشعب اليهودي بأسره و»معادياً للسامية».
وذهب الكثير من المعلقين والساسة الإسرائيليين في موقفهم من غراس إلى حد محاولة تصفية الحساب وتأديب ألمانيا بأسرها بسببه، إذ كيف يجرؤ ألماني، خصوصا إذا كان قد نال جائزة نوبل للآداب، على توجيه انتقاد كهذا لإسرائيل وحكومتها وسياستها؟ ومن أين يمكن أن تأتيه الجرأة لإعلان ذلك وتفضيل إيران واعتبار أن إسرائيل هي التي تشكل خطراً على العالم؟
واعتبر نتنياهو، وقتها، أن مقارنة غراس لإسرائيل بإيران «تشير قليلا إلى إسرائيل وكثيرا إلى غراس، فإيران، لا إسرائيل، من يهدد بتدمير دول أخرى.. إيران لا إسرائيل، من يدعم منظمات الإرهاب التي تطلق الصواريخ على المدنيين الأبرياء. إيران لا إسرائيل من يدعم المجزرة التي ينفذها النظام السوري ضد مواطنيه.. إيران لا إسرائيل من يقتل النساء ويشنق المثليين ويضطهد عشرات الملايين من مواطنيها».
وهكذا لا بد للإسرائيلي من العودة إلى مهاجمة الألمان عموما، واعتبار أن نزعات عنصرية تعشّش عميقا في نفوسهم وأنها تتجلى بين الحين والآخر، والمهم أن يتشكل لدى الألمان خصوصا والأوروبيين عموما خطً أحمر لا يمكنهم تجاوزه، ويشكل «تابو» ليس مسموحاً لهم تناوله عبر انتقادات علنية.
وهكذا فإن كل مواقف غراس وصداقاته في إسرائيل مع كبار الأدباء من شاي عجنون إلى الشاعر ناتان ألترمان لم تشفع له انتقاداته، فهو غير مسموح له بإطلاق هذه الانتقادات، ولهذا السبب بادر وزير الداخلية الإسرائيلي، آنذاك، إيلي يشاي، الذي ربما لم يسمع أبدا بغراس، ولم يقرأ أبدا أياً من إنتاجه الأدبي إلى الإعلان عنه «شخصية غير مرغوبة»، ومنعه من دخول إسرائيل.
ورأى يشاي أن «قصائد غراس هي محاولة لتغذية الكراهية ضد دولة إسرائيل وشعبها، وتحقيق الفكرة التي كان شريكاً لها في ماضيه عندما ارتدى في الماضي لباس وحدات إس إس النازية. وإذا أراد مواصلة نشر إبداعاته المشوهة والكاذبة فإني أقترح عليه أن يفعل ذلك من إيران، حيث يمكنه العثور على جمهور متعاطف».
وأعلن وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، حينها، أن غراس «مستعد للتضحية مرة أخرى بالشعب اليهودي على مذبح المجانين المعادين للسامية».
وتجدر الإشارة إلى أن وزراء الداخلية في دولة الاحتلال، سبق وأن أصدروا قرارات تجعل من عدد من المفكرين، بينهم يهود، شخصيات غير مرغوب فيها في إسرائيل، على حد تعبيرها، فقد سبق لوزير داخلية الاحتلال أبراهام بوراز في حزيران من العام 2004 أن حظر دخول الصحافي البريطاني بيتر هونام بدعوى علاقته بالخبير النووي مردخاي فعنون، كما أن «الشاباك» أمر في أيار من العام 2008 بحظر دخول المؤرخ اليهودي الأميركي نورمان فينكلشتاين.. وفي أيار من العام 2010 منعت إسرائيل دخول الكوميديان الإسباني إيفان باردو لأسباب مشابهة، وفي الشهر نفسه أيضا مُنع المفكر نعوم تشومسكي، وهو أيضا يهودي، من دخول إسرائيل بسبب مواقفه السياسية.
صديق إدوارد سعيد
ويرى د. موسى الكيلاني، الكاتب والناقد الأردني، أن غراس «يمثل ضمير الشعب الالماني، بصدق وامانة وموضوعية، ولأنه كذلك، استشاط رئيس الوزراء الاسرائيلي غضباً عليه بسبب قصيدة ... غونتر غراس، الذي فاز بجائزة نوبل للآداب العام 1999، واعتبره الألمان فخراً للشعب كله، سبق أن تعرض لعذابات السجون، وحارب في الجبهات العسكرية دفاعاً عن الوطن وجاء عمله الادبي ثلاثية داين_تسيغ تتويجاً لأعماله السابقة التي سبرت عمق المواطن الالماني كإنسان ومشارك في إعادة صياغة الكوزموس الكوني».
وأضاف الكيلاني: لم يتنكر الرجل لمبادئه الانسانية بعد فوزه، بل استمر مبشراً بأقوال صديقه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي قال إن على الشاعر ان يلتزم بقضايا وطنه اولاً، ثم عليه ان يتبنى قضايا المظلومين في اميركا اللاتينية، ومعاناة الجائعين في افريقيا، وأمال الاطفال المحرومين في العالم أجمع، وخاصة مآسي اللاجئين الفلسطينيين... والمثقف الذي لا يلتزم بقضايا امته والناس فهو فاقد للاحترام، ولا يصلح الا ليكون جليساً للطغاة الديكتاتوريين، ليشارك في حفلات الترفيه عنهم وتقديم الفكاهة والتسلية لهم، وتدبيج مقالات النفاق بأمجادهم.
تحول في المواقف
وعندما اعلنت لجنة جائزة نوبل منح غراس الجائزة العام 1999، قالت في ديباجتها أن ذلك تقدير لدوره في الارتقاء بالأدب العالمي، باختياره ثيمات تركز على كون الفرد جزءاً من المجتمع الانساني الاكبر، وليس فقط جزءاً من مجتمعه الإقليمي او الاسري كما جسّد ذلك في ثلاثية داين_تسيغ.
وفي حينها، حيا أدباء اسرائيل غونتر غراس بعد فوزه بالجائزة قبل ثلاثة عشر عاماً، باعتباره داعية للفكر الانساني العالمي الذي يتجاوز الحدود الجغرافية، بل ينحو الى أفاق اوسع من الاخوة الشاملة مهما كان العـِرْق او الدين او اللغة او لون بشرة الجلد.
ولكن شاهدنا، ومنذ العام 2012، المعلقين الاسرائيليين انفسهم ومعهم الادباء اياهم يهاجمون غونتر غراس بسبب نشره قصيدة ينتقد فيها النفاق الدولي في الموضوع النووي الذي يغض الطرف عن تملك اسرائيل لترسانة من الاسلحة النووية ولا يخشى حرباً أخرى نتيجة تداعيات هجوم اسرائيلي على ايران ونتائجه.
وانتقد غونتر غراس دولته التي زودت تل ابيب بست غواصات «دولفين»، المصنعة خصيصاً لحمل رؤوس نووية قادرة على إبادة عاصمة كاملة بكبسة زر واحد، ينتج عنه قتل مئات الالوف من المدنيين.