مـزالـق النقــد المعــاصـر
يؤدي إلى الاحتفاء بالعوالم المهمشة وبالخصوصيات المميزة
ما زال النقد الأدبي بمعناه الحديث فناً ناشئاً في آدابنا المعاصرة تنقصه الأسس التي يرتكز إليها في أحكامه ويعوزه التركز والرصانة. فنحن مازلنا نعبر من حياتنا تلك الفترة التي تتصف بالعفوية والاستغراق، وهي فترة تمر بها الآداب في أوائل يقظتها حين يكون إنتاجها غير شاعر بذاته، فيتفجر على صورة أدب يعالج الانطباعات النفسية والذهنية والاجتماعية معالجة تلقائية دون أن يقف ليراجع هذا الإنتاج ويحكم عليه. والنقد الأدبي مرحلة يبدأ فيها الأدب العفوي إحساسه بذاته على أثر نضجه واكتمال نموه وشعوره بفيض من الحيوية الناقدة التي لابد لها أن تنطلق. وهو في حياة أية جماعة يمثل مرحلة اكتمال ثقافي يمكن أن نسميه وعياً للذات ولهذا نجد المألوف في آداب الأمم أن يوجد الفنانون أولاً ثم النقاد. وما دامت الحاجة إلى النقد الأدبي بدأت تبرز وتتضخم في آدابنا فليس من شك في أنه على وشك نمو سريع، فمتى اقتضت الظروف أن يوجد لون معين من الأدب كان لا بد له أن يوجد وأمامنا شواهد تاريخية كثيرة على هذا القانون. على أن هذا الفرع من فروع التأليف وهو يسير على غير هدى سيضع جهوداً كثيرة حتى يهتدي إلى الأسس التي ستوجهه وتحكمه، وحتى تنشأ فيه النظريات والمذاهب والمدارس التي تستند إلى أدبنا المحلي دون ارتكاز إلى نظريات النقد الأوربية. والمزالق التي يجابهها النقد العربي اليوم أكثر مما يمكن معه الاطمئنان، فالناقد يدخل هذا الميدان المضل دون نظريات تقوده ولا مذاهب توجهه ولا أسس يعتمد عليها في أحكامه وإنما يجد مكان هذا إحساساً داخلياً مبهماً يهتف به أنه وهو يسلك مسلك الناقد إنما يضع بنفسه خططاً وقوانيناً وأسساً، وذلك لأنه لايملك حتى نماذج رديئة يقيس عليها. ومن هنا ينشاً في نفسه التهيب ويحس بضرورة الحذر الشديد والاقتصاد في الأحكام وإلا جرفه تيار الابتذال. وهذا فيما نظن موقف كل ناقد مثقف يعرف هدفه معرفة جيدة ويهمه ألا يضل الطريق. فالنقد في هذه المرحلة من مراحل نموها الثقافي موضوع دقيق خطر، وسيكشف المستقبل القريب الغطاء عن كثير مما يمر بنا اليوم باسم النقد، فيلوح لنا إذ ذاك مظهراً من مظاهر صبانا الثقافي لا أكثر. وأحد المزالق الشائعة التي يكثر سقوط الناقد العربي المعاصر فيها، مزلق يغلب على ظننا أنه صدى للأبحاث السايكولوجية الحديثة التي تصب اهتماماً ضخماً على الفنان نفسه حين تحاول تقديم إنتاجه الفني. وقد بات شائعاً أن يكتب الكاتب مقالاً في نقد قصيدة أو ديوان شعر فينتقل دون وعي إلى الحديث عن حياة الشاعر وظروفه الاجتماعية والبيتية. وليس من الضروري لكي يتم السقوط في هذا المزلق أن يتحدث الناقد عن مولد الشاعر وطفولته، وإنما يكفي أن يقول أن هذه القصيدة تدل على أن الشاعر جبلي مثلاً، وأنه يعيش حياة هادئة ونحو هذا لكي لا يخرج كلياً عن حدد مملكة النقد الأدبي ويدخل في نطاق سيرة الحياة. ذلك أن المهمة الأدبية للناقد تبقى مقيدة بالقصيدة من وجهتها الجمالية والتعبيرية، في دراسة موضوعية خالصة، يلاحظ خلالها هيكل القصيدة العام، ويقف عند أداة التعبير فيدرس مدى اتساقها مع جو القصيدة والعاطفة التي تسيطر عليها، ويدرس الوزن واللمسات الموسيقية وأثر القافية، ويتحدث عن الموضوع وأسلوب الشاعر في تناوله، ويعين الأساس الذي ترتكز إليه الفكرة العامة، وقد يخرج إلى المقارنة بين قصيدة وقصيدة وشاعر وشاعر، ولابأس في أية اتجاهات أخرى لاتخرج عن هذه الحدود ولا تدخل في نطاق حياة الشاعر وآرائه الاجتماعية، فهذا يدخل في باب السيرة وهي دائرة منفصلة عن دائرة النقد الأدبي. وأقرب المزالق إلى مزالق السيرة هذا، اتجاه الناقد إلى العناية بما في القصيدة من عواطف وأفكار وجعلها الأساس في نقده. وهذا خطأ شائع يسهل الوقوع فيه خاصة في هذا القرن الذي تشعبت فيه الآراء وزادت سطوتها في الأذهان فبات لكل منا معتقده الذي يؤمن به إيماناً عميقاً ويتحمس له. ومهمة الناقد الأدبي شاقة لأن عليه أن يتجرد من طغيان آرائه وهو يتناول القصيدة التي يدرسها، فالمهم بالنسبة إليه هو القصيدة لا نوعية الآراء التي تحملها. والحقيقة إن استهواء الأفكار والآراء استهواء خطر لا سبيل إلى الاستهانة به خاصة حين تكون هذه الآراء مما يمس القضايا الحساسة في أنفسنا إنسانية كانت أو وطنية أو فردية. وكثير من الناس يجنحون دون وعي إلى الاعجاب بكل قصيدة تعبر عن آرائهم متغافلين عن ضعف القوى الشعرية فيها تغافلاً تاماً. وتلك حالة تشفع فيها للقصيدة عوامل لا علاقة لها بالشعر، وهي حالة يقع فيها كثير ممن يكتبون في النقد، فالقصيدة عندهم رديئة لأنها تحتوي على رأي في الحياة يخالف رأيهم وكأن للآراء الشاعر الخاصة قيمة فنية تؤثر في حكمنا على شعره. والمشكلة الأساسية في هذا المزلق، أن الكاتب يخلط بين القصيدة وموضوعها وهما شيئان منفصلان. ويمكن أن نقول إجمالاً إن الموضوع ينبغي أن يؤثر في القصيدة للتعبير لا في الناقد، فكل ما يهم الناقد أن يلاحظ كفاءة القصيدة للتعبير عن الموضوع دون أن يناقش صلاحية الموضوع من الوجهة الاجتماعية والتاريخية، فهذه تدخل في حدود مهمة الذين يدرسون تاريخ الحركات الوطنية والأدبية، وهي إن استاهلت من الناقد التفاتاً فهو التفات الإشارة، الذي لا يعفيه من نقد القصيدة نقداً موضوعياً. والسقوط في هذا المزلق يستطيع أن يتم كما تم سابقه دون تطرف كبير، فيكفي أن يهتم الكاتب بالإشارة إلى آراء الشاعر حتى دون أن يناقشها لكي يخرج عن حدود مهمته. ومن نماذج هذا الخروج أن يقول الناقد للقارئ أن الشاعر يحب الطبيعة أو أنه شديد الحساسية بدليل قوله...وأنه يدعو إلى الانطلاق بدليل قوله...ونحو هذا. فهذا كله لون من الدراسة الاجتماعية والنفسية ولا علاقة له بالنقد. ومن أبرز المزالق التي يحذرها الناقد المثقف ما يمكن أن نسميه بالنقد التجزيئي، وهو ذلك النقد الذي يتناول القصيدة تناولاً تفصيلياً يقف عند المظاهر الخارجية، ويعفي نفسه من معالجة القصيدة باعتبارها هيكلاً فنياً مكتملاً. وأظهر أعراض هذا النقد اعتبار القصيدة مجموعة من المعاني وحدها البيت على الأسلوب القديم. وفي هذه الحالة يقف الناقد عند البيت الواحد مناقشاً في أسلوب كلامي ويتناول التعابير مفصولة عن السياق فيحكم عليها بالجمال أو القبح. ويصبح ناقد هذا النوع خطراً حين يكون ذكياً بارع الأسلوب، فهو إذ ذاك يفلح في تضليل طالب الأدب الناشئ وتوجيهه وجهة مغلوطة في التذوق والحكم، فبدلاً من أن يقدم له أسلوباً منهجياً في تقيم القصيدة يشغله بملاحظات ذكية لاذعة هنا وهناك. مثل هذا الناقد ينسى أن النقد الحقيقي يبدأ بعد هذه المرحلة التي تقف عند الثوب الخارجي وتترك جوهر القصيدة مطموراً بعيداً عن تذوق القراء. وأحد المزالق أن يعتاد الناقد أن يكون سلبياً في أحكامه فبدلاً من أن يدل على مواطن الجمال في الشعر المنقود، يكتفي بتبرئته من المعايب الشائعة. ونموذج هذا تلك العبارة التي يكررها الكتاب حين يحاولون الحكم على شاعر مقبول، وهي قولهم "إنه شاعر حقيقي يشعر ولا ينظم..." أفلا تتضمن كلمة "شاعر" معنى الحقيقي الذي يشعر؟ ومتى كان الشاعر يمتدح بأنه ليس "نظاماً"؟ ومن أمثلة هذه الأحكام السلبية ما قرأناه لأديب كبير في نقد ديوان لشاعر معروف. قال: "لا تكلف ولا تبذل ولا لف ولا دوران ولا بهرجة بيانبة وعروضية ولا تفتيش مضن عن أوابد الكلم والمعاني." ولسنا نفهم كيف يكون هذا مديحاً إلا إذا أصبح مجرد خلو الشعر من بعض العيوب الفادحة يمكن أن يعد فضيلة تمتدح، وإلا إذا كان المعنى أن شعرنا اليوم يقوم على اللف والدوران والبهرجة والتفتيش المضني عن الألفاظ. وأحد المزالق الخطرة يكمن وراء استهواء الأفكار والسُكر بالنظريات، وهو مزلق يتردى فيه أولئك الموهوبون الذين قال عنهم ت. س. ايليوت في بعض مقالاته أنهم يملكون عبقريات خلاقة، إلا أنهم لتعطل في قواهم المنتجة راحوا يتسلون بالنقد الأدبي. مثل هؤلاء عادة يحوكون حول القصائد نظريات متحمسة أو تفسيرات من لون بعيد عن الأصل بعداً كبيراً قلما يلاحظونه، فهم منتشون ببريق الفكرة التي ابتدعوها وليس على القصيدة إلا أن تنضغط وفق القالب الذي يريدونه. وقريب من هؤلاء أولئك الذين يحملون عن القصائد آراء سابقة قبل أن يقرأوها فليس أخطر من هذا الاستعداد العاطفي، لأنه أحياناً ينوّم حاسة التذوق ويعطل قابلية الحكم ليفرض رأياً غير مقبول. أما إغراء الأسلوب والانتشاء بالألفاظ والتعابير فهو مصيدة للناشئين من النقاد الذين يسكرهم إحساسهم بالقدرة على التعبير فينشئون مقالاً منمقاً عالي الأسلوب مكتمل الإنشاء، إلا أنه لا يمس القصيدة التي يتناولها إلا مساً خفيفاً، ومن هؤلاء فئة تغرم بكتابة المقدمات التاريخية المتعلقة بموضوع الشعر، وأعرف أديباً يكتب في نقد قصيدة تصف سنابل القمح في حقل فيبدأ من تاريخ أول طاحونة هوائية. هذه المزالق كلها قائمة أمام الناقد العربي المعاصر تفرضها عليه الظروف التاريخية التي واكبت نهضتنا الحديثة وهي بما فيها من استهواء توشك أن تلقف كثرة بارزة من كتّاب النقد المعاصرين بحيث بات المجال دقيقاً محفوفاً بالخطر. وما لم يتسلح الناقد المعاصر بثقافة متغلغلة نفاذة أصبح لا بد له أن يذهب في الضحايا ويساعد في اسلام أدبنا المعاصر إلى الفوضى والاضطراب.
الأديب، س12، ج5، بيروت، مايو 1953