تقدم (الكلمة) في هذا الملف نوعا جديدا من الملفات التي تواكب الحدث وتسجل وقعه الغض على الذات العربية الكاتبة والمبدعة، وإن كان هذا الحدث الدامي الذي كشف عن تناقضات الواقع العربي المؤلمة وعرى سوءاته المخزية يستحق أن يتريث عنده الفكر السياسي العربي طويلا، ويحلل متغيراته في ملفات ضافية تحتاج من الثقافة العربية والفكر العربي إلى تأمل ودرسات مكثفة. لكننا نود هنا أن نسجل أثر الصدمة ووقعها المرير، وفداحة الإحساس بالغضب والهوان.

بربرية العدوان الصهيوني على غزة

   خطاب العدو وحق المقاومة

يعلمنا التاريخ وهو يكتب أبجديته في الضمير الإنساني على مر العصور، ويجذر قيمه وأولوياته في الذاكرة التاريخية للبشر، أنه مادام هناك احتلال فإن حق مقاومة هذا الاحتلال ليس حقا مشروعا فحسب، ولكنه حق نبيل وواجب إنساني على كل من تقع أرضه تحت الاحتلال. هذا الدرس هو درس التاريخ في كل العصور، وفي كل الثقافات. لاخلاف فيه بين شرق وغرب، أو بين قديم وحديث. من الولايات المتحدة الأمريكية نفسها ـ أكبر المعتدين الآن ـ والتي سبق لها وأن وقعت تحت الإحتلال البريطاني، وقامت بثورتها وتحررت منه، حتى فرنسا التي جعلت المقاومة شارة شرفها الذي لامساس به عندما وقعت تحت الأحتلال النازي إبان الحرب العالمية الثانية، وإلى مصر ومختلف بلدان القارات الثلاث: أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية التي وقعت تحت نير أشكال مختلفة من الاستعمار والاحتلال فكان عليها واجب المقاومة حتى يتحقق لها التحرر والاستقلال. فحق المقاومة حق إنساني خالص لا مماراة فيه. لأنه حق برفع الظلم ورفض العبودية، في أقصى صورها، وهي عبودية الوطن لمحتل غاصب. وحقوق من هذا النوع ليست موضوعا للجدل أو لوجهات النظر أو الاختلاف، لأنها كما بدأت دروس التاريخ وقيمه في الضمير البشري.

لكن الغريب أن الخطاب العربي المرتبك إزاء العدوان الصهيوني الإجرامي على غزة ـ سواء منه خطاب المؤسسة الرسمية العربية الذي يتبنى في معظمه خطاب الدولة الصهيونية المعتدية، أو حتى خطابات المعارضة ومن يدعون أنفسهم بالمستقلين ـ ينطلق من نكران مضمر لهذا الدرس التاريخي. فخطاب المؤسسة العربية الرسمية وكلاب حراستها الذين يملأ نباحهم الفضائيات العربية صباح مساء، لايفعل أكثر من أن ينشر علينا ما فبركته ما تسمى بـ إدارة الاستعلامات الوطنية الإسرائلية Israeli National Information Directorate التي أنشأتها دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتلة قبل عدة أعوام للعمل على بلورة خطاب إعلامي يشيطن حماس منذ قدومها للسلطة عبر ما يمكن أعتباره أول انتخابات ديموقراطية نزيهة في الوطن العربي منذ زمن طويل. فقد عمدت تلك الإدارة إلى ترويج مجموعة من الأكاذيب حول حماس، ونشرها في وسائل الإعلام الدولية، وتداولها فيها بصورة أكسبتها مصداقية وجاذبية، بل وجلبتها إلى الخطاب الرسمي والإعلامي العربي الذي يكررها ببغائية مؤسية.

وقد فند هذه الأكاذيب لغرابة المفارقة أحد أبرز المؤرخين الإسرائليين الجدد ـ آفي شلايم ـ الذي ترك دولة الاستيطان الصهيوني بسبب رفضه المبدأي للمشروع الاستعماري الصهيوني، واستقر في بريطانيا حيث يعمل حاليا أستاذا للعلاقات الدولية في جامعة أكسفورد. ومن يقرأ مقال آفي شلايم المنشور في صحيفة الجارديان البريطانية في 7 يناير 2009 ـ والذي أدعو صحفنا العربية إلى ترجمته كاملا لما فيه من معلومات جديدة وحقائق دامغة ـ يدرك أن الخطاب الذي يقول بأن حماس وصواريخها هي المشكلة، والذي نجحت الدولة الصهيونية في ترويجه، باعتباره الحقيقة المقبولة من الغرب ومؤسساته السياسية خاصة ليس إلا حفنة من الأكاذيب. وهو خطاب يهدف إلى صرف النظر عن أن الاحتلال الصهيوني للأرض الفلسطينية هو المشكلة، ويدفع متبنيه إلى خدمة أجندة أولويات دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتلة في كل قضايا المنطقة، بدءا من العداء للمقاومة وانكار حقها في تحرير أرضها، وامتدادا إلى أجندة العداء لإيران وطموحها في التقدم العلمي، مرورا بتكريس احتلالها لأرض الفلسطينية والعربية، وصرف النظر عن الطبيعة العدوانية للمشروع الاستعماري الصهيوني في المنطقة وترسانته النووية الضخمة.

هذا الخطاب الذي ينهض كلية على مجموعة من الأكاذيب المنتقاة بمهارة، والمستخدمة عبر استراتيجيات التعتيم على الجوانب الحقيقية للمشروع الصهيوني والتغاضي عن انتهاكاته المستمرة للقانون الدولي وللقيم الإنسانية، هو الخطاب الذي تبنته قطاعات واسعة من الساسة والإعلاميين العرب في تناولهم لتلك الحرب الإجرامية التي يشنها العدو الصهيوني على غزة وسط عجز عربي رهيب. وهو خطاب مسموم برعت "إدارة الاستعلامات الوطنية" تلك في تعقيمه صهيونيا وتعليبه براجماتيا بصورة جعلته مقبولا، بل مرغوبا من المؤسسة السياسية العربية بدعوى أنه يحافظ على كراسيها، ويدعم استمرارها في السلطة، ويصوغ لها أولوياتها السياسية ـ من تصادق ومن تعادي ـ بعدما عجزت عن أن يكون لها مشروعها أو أولوياتها. وهو خطاب يقلب الوقائع فيجعل العدو صديقا ويحيل الصديق أو الحليف إلى عدو. فينسى الجميع أن عدو الأمة العربية وكل المطامح العربية في التقدم، عدوها الأول والأخير، هو العدو الصهيوني المدجج بأكبر ترسانة نووية في القارة الأسيوية.

والغريب أن كثيرا من الإعلاميين والمثقفين العرب وقعوا في أسر خطاب العدو الصهيوني المسموم المفبرك في "إدارة الاستعلامات الوطنية الصهيونية، والذي يشيطن المقاومة ويتغاضى كلية عن شرور الاحتلال أو انتهاكات دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتلة باستمرار لكل القوانين والشرائع الدولية، بما في ذلك أكثر من ستين قرارا من قرارات الأمم المتحدة. فأصبحت المقاومة عندهم شرا، والسكوت عن غطرسة الاحتلال فضيلة، وانقلب الحق عندهم باطلا، فأخذ الباطل يمشي بين ظهرانيهم وهو يفرك يديه حبورا. وأخذ الكثيرون يبررون العدوان ويلتمسون له الأعذار والذرائع في سلوك المقاومة. وللشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي بيت جميل يقول فيه "أكلت من طعام أعدائي فصرت مقعدا"، ولهؤلاء العجزة الذين يقتاتون على فتات خطاب العدو الصهيوني أقول إن المقاومة حق مشروع، وواجب إنساني، وهدف نبيل، وأن أي أمة تتبنى خطاب عدوها لهي أمة محكوم عليها بالتردي والهوان، ومآلها الأكيد هو التخلف والضياع. فليمحص الذين يتباكون على تردي الواقع العربي خطاباتهم أولا ليعرفوا أحد أهم أسباب هذا التردي.

الموقع الأخلاقي الأعلى
وقد سبق أن ذكرت في افتتاحية (الكلمة) عن أن عالمنا العربي قد أصبح في مطالع القرن الحادي والعشرين، وفي عالم الكيانات الكبرى من دول أو تجمعات، رجل العالم المريض، مثلما كانت الدولة العثمانية رجل أوروبا المريض في مطالع القرن العشرين. وقد كشفت أحداث الأسابيع الأخيرة التي دار فيها العدوان البربري على غزة المحاصرة منذ أعوام، عن أن عالمنا العربي بحق هو رجل العالم المريض، بالرغم من أن قطاعات واسعة من الجماهير العربية ومثقفيها ترفض هذا الوضع المرضي وتتظاهر ضده. كما كشفت أيضا عن أن مسيرة تركيا الديموقراطية طوال الشطر الأكبر من القرن العشرين قد مكنتها من تجاوز وضعها المرضي القديم، وتبوء مكانة مرموقة قادرة على التأثير في الموقف بصورة لم تستطع أي دولة عربية أن تحقق شيئا منه. فلم يستطع هذا العالم العربي المترامي، والذي ترشحه إمكانياته البشرية ـ أكثر من ثلاثمئة مليون نسمة ـ والاقتصادية ـ ما يقرب من نصف انتاج الطاقة في العالم ـ لأن يكون قوة لايستهان بها، أن يحرك ساكنا إزاء غطرسة القوة الصهيونية الغاشمة، وانتهاكها للمواثيق والأعراف الدولية، وتقتيلها البشع الذي استمر لأكثر من ثلاثة أسابيع للمدنيين والأطفال، وتدميرها المتعمد للبنية التحتية، واستخدامها للكثير من الأسلحة المحرمة دوليا. أقول لم يستطع أن يحرك ساكنا، لا على صعيد الفعل أو حتى على صعيد الخطاب.

فقد انقسمت المؤسسة العربية تجاهه، بالرغم من أنه عدوان جائر صريح. وتبنت قطاعات واسعة من الإعلام العربي خطاب العدو الذي أشرت إلى سياقات عن صياغته، أو بالأحرى فبركته، لأنه ينهض على مجموعة متكاملة من الأكاذيب، في إدارة الاستعلامات الوطنية لدولة العدو الصهيوني. وقد كان من عواقب تبني المؤسسة العربية لخطاب العدو الذي يلوم الضحايا ويلتمس العذر للجناة أن فقد أصحاب الحق الموقع الأخلاقي الأعلى، وهو أهم ما يملكه أي طرف في أي معركة سياسية كانت أو وطنية. لأن الموقع الأخلاقي الأعلى هو رأس المال الرمزي الفاعل والأهم لأي قضية سياسية، فبدونه لا تستطيع هذه القضية أن تحقق النجاح، وأن تبرر مشروعيتها وأجندتها للرأي العام الإنساني مهما توفرت لها من مصادر القوة.

لأن ما يسمى في الجدل الثقافي بالقوة الناعمة أهم كثيرا من القوة العسكرية الغاشمة، وأكثر منها قدرة على التأثير وخاصة التأثير بعيد المدى. لذلك تحرص كل الدول ـ حتى أكثرها سطوة وقوة عسكرية ـ على أن تحتل هذا الموقع الأخلاقي الأعلى، وأن تكسب معركة العقل قبل أن تخوض معركة الأرض. ولو رجعنا بضع سنوات للوراء وتذكرنا مدى حرص الولايات المتحدة الأمريكية ـ وهي القوة الأعظم في عالم اليوم ـ على تبرير احتلالها المشئوم للعراق بذرائع أخلاقية من عينة تحرير الشعب العراقي من الطغيان، وتخليص العالم من شرور الإرهاب، وتجريد نظام ديكتاتوري من أسلحة الدمار الشامل، وهي الذرائع التي تكشفت عن خوائها وعن أنها مجموعة من الأكاذيب فيما بعد، إلا أن اقناع العالم بها، والتفاف الرأي العام نسبيا حولها، كان عنصرا أساسيا في نجاح تلك الحرب في تحقيق أهدافها المضمرة، والتي يعرف الكثيرون أنها مغايرة كلية لما ينطوي عليه هذا الخطاب الأخلاقي من مضامين.

وبالرغم من أن الفلسطينيين هم أصحاب الموقع الأخلاقي الأعلى، لأنهم شعب انتزع منه وطنه، واحتلت أرضه، وسلبت حقوقه، ووضع تحت حصار جائر ظالم من محتل استيطاني يروم التوسع، ويمارس أبشع أشكال العزل العنصري والتطهير العرقي، فقد حرص العدو الصهيوني على بلورة خطاب مكذوب يبرر هجومه العدواني بالدفاع عن النفس ازاء استفزازات صواريخ المقاومة الفلسطينية، ويحتل بالزور عبره الموقع الأخلاقي الأعلى. وبدلا من أن يذكر أن مطلقي الصواريخ يقاومون الاحتلال، جرى التركيز على أن المحتل قد ترك غزّة، وأنها بدلا من أن تبني نفسها، وتطور شعبها، وتنمي اقتصادها، آثرت أن توجه صواريخها لترويع المستوطنين الصهاينة. وعمد هذا الخطاب المضلل إلى التعتيم كلية على أن دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتلة تواصل حصار الشعب الفلسطيني في غزّة وتجويعه. وركز هذا الخطاب على الشقاق الفلسطيني الفلسطيني المؤسف، وتجاهل كلية حق فلسطين في مقاومة من يحتل أرضها وينتزعها من أهلها شبرا شبرا منذ أكثر من ستين عاما.

وكان من المؤسف أن رددت قطاعات واسعة في المؤسسة الرسمية العربية هذا الخطاب المكذوب، بدلا من التركيز على بلورة خطاب يمكنها من احتلال الموقع الأخلاقي الأعلى، تعري فيه العدو الصهيوني وتكشف أكاذيبه. والواقع أن التركيز على هذا الموقع الأخلاقي الأعلى هو سلاحنا الأساسي في المعركة بعدما تخلى الساسة العرب عن خيار الحرب، وتمسكوا بخيار الاستسلام. وبدلا من التركيز على الاحتلال ـ وهو أطول وأبشع احتلال عسكري في التاريخ الحديث ـ فضلوا ترديد الأكاذيب المنمقة الصادرة عن إدراة استعلامات العدو، وتركوا العالم كله يتظاهر مدينا عدوان الصهاينة البربري، فقد أدرك هذا العالم أن الفلسطينيين هم أصحاب الحق في الموقع الأخلاقي الأعلى، ومن هنا خرج في مظاهرات انتشرت في كل أرجاء الكرة الأرضية بصورة عابرة للغات والثقافات لتأييد الحق الفلسطيني. فالموقع الأخلاقي الأعلى هو وحده الذي يحظى بالتأييد الشعبي الدولي. وهذا الموقع هو ما يجب أن يحرص المثقفون العرب على بلورته وصياغة خطابه، والعمل على ترسيخ هذا الخطاب وترويجه، لا في وسائل الإعلام العربية وحدها، وهذا أمر ضروري، بل في كل وسائل الإعلام الدولية والشعبية في كرتنا الأرضية التي أصبحت بحق قرية كونية. فهذا هو دور المثقفين الذين لابد لهم من صياغة أولويات أوطانهم وقضاياها، وترسيخها في العقل والضمير معا بصورة لاتستطيع معها المؤسسة الرسمية تجاوز رواسخها وخطوطها الحمراء.