في مقولات «الصمت الثقافي»

عبدالحق ميفراني

أنهت آلة التقتيل الصهيونية عملياتها في غزة، مع تنصيب الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية والذي قيل أنه "يرغب في علاقات جديدة مع العالم الإسلامي". العمليات التي جرب فيها الكيان الصهيوني كافة الوسائل والتقنيات الحربية الممنوعة منها والمحرمة على الحجر والبشر. وككل الجرائم من دير ياسين الى صبرا وشاتيلا الى قانا، يعبث الكيان الصهيوني بأرواح الفلسطينيين بغطاء سياسي دولي. لكن، هذه المرة بشكل مكشوف وبإجرام لا مثيل له. لم تنفع حتى الراية البيضاء للجرحى، لم يفرق بين الأطفال والرضع والنساء والشيوخ. بين المساجد والمساكن، بين مدارس الأمم المتحدة وسيارات الإسعاف. الكل معني بآلة الإجرام الصهيوني وهذه المرة بتواطؤ معلن. بموازاة هذا الإجرام الصهيوني، تحركت الجماهير والشعوب العربية للاحتجاج على الصمت، وللتضامن مع قضية ظلت وطنية عند الكل.

وككل نكبة جديدة، أعيد السؤال عن وظيفة المثقف اليوم في ظل هذه الصورة الكاريكاتورية للعالم العربي. وبين متاهات "الفصائل" والايديولوجيات، أعيد السؤال بشكل اتهام صريح ومعلن. في المغرب الثقافي مثلا، اكتفت بعض الإطارات الثقافية بإصدار بيانات التنديد المعدة سلفا لأمثال هذه الويلات، اكتفى الفنانون والكتاب بالوقوف احتجاجا على العدوان، واكتفى بعضهم بإعادة تدبيج شعاراته. وككل الجغرافيات العربية، يعاد التساؤل مجددا، عن طبيعة دور ووظيفة المثقف تجاه قضايا الأمة المصيرية. ولو هذه المرة بشوفينية لافتة، فاقت وظيفة السياسي. لكن، ظل السؤال الجوهري هو نفسه، يرتبط في العمق بطبيعة دور المثقف في ظل هذه التحديات التي تواجه الأمة العربية؟ وفي ظل هذه النكبات حين يتواصل فعل التشرذم والتهلهل للكيانات والأنظمة العربية، من قمة الدوحة الى قمة الكويت .. من الضفة الغربية الى غزة؟؟

لقد جربت الآلة العسكرية الصهيونية في حربها على غزة، كافة الوسائل الإجرامية التي تسوقها الى المحاكم تحت طائلة جرائم الحرب. وككل مرة، ستجد هذه الآلة غطاء سياسيا دوليا. وسنظل نحن، نعيد اجترار أسئلتنا القديمة الى الواجهة لعلنا نكتشف هذه المرة، سؤالا حقيقيا يوحدنا. وهو ما لم يحدث، إذ تفنن المشهد الثقافي هذه المرة في تدبير تقنية جديدة "معولمة" موسومة ب"الصمت الثقافي". أو لنقل الـ "لاموقف"، والذي ظل رهين سياساتنا الجديد منها والقديم. وككل مرة، وأمام كل عدوان جديد. تتحمل التراجيديا الفلسطينية وجعها وجراحها لتكشف عجزنا العميق. أليست القضية الفلسطينية مرآتنا العميقة؟ ألم يتحول كل عدوان على فلسطين الى هامش للتذكير بالخيبة والعجز؟ حتى في تدبير خلافاتنا نخلق شعارات مرحلية ما نلبث أن نصبغ عليها بلسما وغطاء دوليا آخر تأكيدا لانخراطنا في عالم لا نفقه أوله من آخره؟

يجب الاعتراف مع ذلك، أن الأنترنيت تحول اليوم عربيا الى فضاء للاحتجاج والرفض.إذ لم تتوقف، وطيلة يوميات الحرب على غزة، منتديات الحوار والتضامن والاحتجاج وبجميع اللغات. تحولت المواقع والمدونات الى أشكال للاحتجاج والتعبير عن الغضب والرفض بالصورة أحيانا وبتصدير البيانات، وأحيانا بالتنديد بالتوقيعات الموجهة للمنظمات الحقوقية والأممية. في خضم آلة التدمير الإجرامية الصهيونية، كان العالم يعرف صراعا آخر، أكثر ضراوة، لمستوى الصورة. صورة الحرب على غزة..مستوى ظل محكوما بحس إيديولوجي صارم، إذ لا مجال للحديث عن استقلالية ما يقدم كخبر إعلامي عن الحرب. حيث لا يتساوى القاتل والضحية. لكن، للصورة تنميط آخر وفعل إجرائي تحفيزي بمستويات يختلط فيه المهني بالسياسي. صورة الأطفال/ الشهداء تتحول الى صورة جنود "يدافعون عن وطن من العدو تحت يافطة:"إنهم يكرهوننا ويجب أن نقتلهم لكي نعيش"."تصبح للقاتل ترسانة من "الحقوق" في مقابل تحول الضحية ل"إنسان متخلف وهمجي...".

بموازاة آلة التقتيل الإجرامية الصهيونية سوق الإعلام "الحر" صورة نمطها بالشكل والأسلوب الذي يراه وفيا لسياسته العنصرية. ليتحول هذا الإعلام "الحر" الى بوق دعاية للإجرام. ورغم ذلك استطاعت صورة المحرقة والمجازر الصهيونية أن تصل، سواء ثابتة أو متحركة أو رقمية. لقد أصرت آلة التدمير الصهيونية هذه المرة، أن تخفي أدلة الإثبات. خوف قبلي من الهزيمة، أو استباق للتستر على أسلوب قذر لا يحترم لا البشر ولا الحجر. لدراية برمزية المكان. غزة في النهاية ليست إلا صورة من فلسطين. لذلك يصر المحتل أن يسوق مذابحه بشعارات جوفاء تحت غطاء دولي. لطالما ظلت الصورة في خضم الحروب. جزء من أساليبها تجييش الرأي العام حول فكرة قد تكون عنصرية. ففي فرنسا مثلا، رغم الإصرار، عند بعض القنوات، على خلق تعتيم إعلامي. واللعب على مبدأ التساوي في وجهات النظر، تسربت صور الشهداء كي تخلق مسيرات تضامنية مع غزة، لسبب وجيه: تحلل الصور من التضييق ما دام مجال تداولها أمسى مفتوحا. هذه الترسانة السادية من فعل القتل، قابلتها صورة الإنسان الفلسطيني الذي فتح جرحه دائما لأي صورة كيفما سيقت. عمق التراجيديا والمأساة الفلسطينية أنها ظلت مرآة شفافة للعجز العربي. لذلك لا يحتاج هذا العجز لأي صورة ولا لأي تدبير إعلامي. مادام هو ثابتا بقوة التاريخ وحتى الجغرافيا.

بهذه الرؤية، كيف يمكن للمثقف أن يستعيد دوره خارج إنشاء هذه الترسانة من مقولة "الصمت الثقافي"؟ وكيف يستعيد دوره ووظيفته الرمزية من أجل تغيير الأذهان وبلورت الأفكار ومقاومة وضعا بئيسا متهلهلا؟ لم يصبح للصمت اليوم، مجازا للاحتجاج. إذ ولى زمن هذا الأسلوب من "الاحتجاج". لكن، أن يتحول لفنون القول والتعبير. بالشكل الذي تصمت فيه الأفكار على بناء المعرفة وتوليد المنظورات. وبذلك يتحول المثقفون الى فئات سوسيولوجية جديدة تتقاطع مع مثيلاتها في الواقع والتي ظلت دوما "صامتة". فهذا هو منظور "الصمت الثقافي" المولد للغياب والنفي القسري. لطالما ظل المثقف في المغرب الثقافي، وفي بعده المغاربي، صوتا مفردا بصيغة الجمع، منحازا للقوى الفاعلة فيه، معبرا عن آمال وطموحات الناس نحو عالم وغذ أفضل. بل حتى في شكله "العضوي" ظل ملتصقا بأحلام الجماهير. أما اليوم فتولدت الحاجة لمثقف آخر تولد بديلا وهو أشبه بـ "تقنوقراط" مجازا.

يستطيع المثقف أن يعيد الوهج للصورة المشروخة، بتوسيع هامش فعل الصد والمقاومة. ولطالما ارتبط المثقف على الأقل في التجربة المغربية بالأفق السياسي لليسار. لكن، هذا الأفق اختلط في متاهات المشهد السياسي الحديث. إن تحيين السؤال اليوم، كفيل بجعل هذا الفاعل الثقافي يستعيد منظورا حداثيا في علاقته بمصير واقع متحرك ليس معطا منتهيا وإنما هو واقع حي يرى الصورة وبالعين المجردة لأنه تاريخي. قد يبدو هذا النقاش يحتاج لترسانة معرفية وتحضير نظري قبلي. لكن الحاجة اليوم تبرز أهمية الخروج من هذا النفق:"الصمت الثقافي" الذي يخيم على نخبة فقدت بوصلة التاريخ والايدولوجيا بل وحتى دورها ووظيفتها.