نزع القداسة عن قضية فلسطين

محمد برادة

 

أنطلق من فكرة أساس أنا مقتنع بها منذ أمد، وهي ضرورة الكفٌ عن تقديس القضية الفلسطينية تقديسا يبعدها عن دائرة التاريخ وقوانينه وتقلباته وخياناته. ذلك أنه منذ 1964 سنة انطلاق منظمة التحرير الفلسطينية، عانق المناضلون العرب، وبخاصة اليساريين منهم، القضية الفلسطينية في وصفها رمزا مخلٌصا من الجمود واستعمار إسرائيل، ودكتاتورية الأنظمة... وكان الوضع العربي في حاجة إلي من يلوٌح له بإمكان الثورة الشعبية وتصحيح الانقلابات الفوقية: ومن ثم ذلك التأثير السريع الذي مارسته الثورة المسلحة، وبالأخص الفكر الماركسي الفلسطيني بجميع فصائله وتفريعاته، علي جماهير الشباب والطلاب العرب في مختلف الأقطار، وهو ما جعل من انطلاق المقاومة الفلسطينية لحظة مقترنة بميلاد أفق التغيير الثوري في المجتمعات العربية التي كانت تلعق خيْبتها من نتائج الاستقلالات السياسية ،وتعاقب الهزائم والحروب الداخلية.

اليوم، بعد أكثر من أربعين سنة علي انطلاق الثورة الفلسطينية التحريرية، وبعد أن طفتْ علي السطح الأخطاء والتعثرات والخلافات والصراع علي السلطة، أصبحت القضية فاقدة لغلالة القداسة والأمْثلة التي دثٌرناها بها منذ المنطلق، وأصبحت تتطلب منا أن نعيدها إلي سياقها الواقعي، وإلى تجديد أسئلتها التي تمنحها الشرعية وجدارة التحرير الوطني. 

طبيعة الانهيار
قبل أن نحاول إعادة صوغ إشكالية القضية الفلسطينية، نذكٌر ببعض تجليٌات الانهيار العربي ـ الفلسطيني:

شكل المقاومة الممكن
في مثل هذه الشروط والظروف ، يجطرح سؤال عن المقاومة الممكنة ،خاصة بعد تجربة الانتفاضة الأولي الناجحة ، ثم الثانية المتعثرة والانتهاء إلي نوع من المواجهة الحربية بين حماس وإسرائيل ذات أقوي جيش في الشرق الأوسط، إلى جانب مفاوضات فارغة بين السلطة الوطنية وحكومة تل أبيب، ما جعل الموقف يتحول إلي مشهد مكرور من دون إجماع وطني وقومي، ومن دون تخطيط استراتيجي يبلور الأفق ويحمي الصراع من التآكل والاندثار... فكيف نعيد التفكير في شكل المقاومة الأكثر فعالية وملاءمة لهذه المرحلة؟

أظن أن علينا أن ندعو إلي مقاومة فلسطينية تضطلع بالمهمة الاستعجالية التي لم يتم بعد تحقيقها علي امتداد أربعين سنة، وهي تحرير فلسطين (ما تبقي منها) من الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وإقامة دولة عاصمتها القدس، وهي مهمة عويصة علي رغم الوعود والاتفاقات، لأن قادة إسرائيل لا يريدون السلام، ويتخوفون من إنجازه: ولذلك لا يمكن للفصائل والمنظمات الفلسطينية أن تتجاهل مقتضيات مرحلة التحرير وتقفز علي ضرورة الإجماع الوطني والتكتل ضد العدو المشترك، لتدخل في صراع من أجل السلطة المفقودة أصلا: إن مثل هذا القفز إنما يعطل مسار التحرير وبناء الدولة، ويعرض القضية للضياع وفقدان المساندة العالمية. وفي الآن نفسه، لا يمكن أن تتخذ المقاومة شكل مواجهة حربية بسبب ميزان القوي المائل لصالح تل أبيب. ولما كانت المفاوضات المكملة لاتفاق أوسلو قد فشلت لعدم احترام إسرائيل التزاماتها، فإن الأمر يستدعي استمرار المقاومة، لإرغام المحتل علي تصفية آخر استعمار في العالم، وهو ما يستدعي أن تكون المقاومة في شكل انتفاضات شعبية متوفرة علي الإجماع ووحدة الهدف، ومستفيدة من تأييد الرأي العام العالمي الذي يدين الاحتلال والاستعمار. وهذا الشكل من المقاومة هو ما يحقق الهدف المزدوج المطلوب راهنا لإخراج القضية من عنق الزجاجة، أي استعادة الوحدة الوطنية وفضح وجه إسرائيل الاستعماري، القمعي، المتوحش. بعبارة ثانية، المقاومة الممكنة والملائمة للمرحلة تقتضي تأجيل الصراع علي السلطة بين الفصائل والمنظمات الفلسطينية، والالتفاف حول هدف الاستقلال وبناء الدولة من خلال الكفاح الشعبي وكسب الرأي العالمي، واستثمار المفاوضات من موقع قوة يرغم الخصم علي تصفية الاستعمار والسماح بقيام دولة فلسطينية. 

المطلوب من المثقف اليوم
في ظل انهيار عربي متفاقم، ووضع فلسطيني منقسم، وعدوان إسرائيلي متزايد، لا يملك المثقف العربي ذو الفكر النقدي المتحرر سوي تجذير مواقفه من دون تطرف، وباتجاه المساهمة في إعادة صوغ إشكالية القضية الفلسطينية من منظور يعيدها إلي المدار الصحيح المرتبط بأفق الاستقلال والتخلص من وطأة الاحتلال، وبناء الدولة علي أسس ديمقراطية. ومثل هذا الصوغ يقتضي طرح القضية الفلسطينية علي أنها قضية استعمار تستدعي المساندة الإنسانية والحقوقية، قبل الاعتبارات الأخوية والدينية: وهي لذلك قضية لا تفلت من انعكاسات الانهيار العربي، وأطماع الدول الكبري ودول المنطقة، والمدٌ الأصولي... والمثقف العربي معنيٌ اليوم، سواء في بلده أو تجاه فلسطين، بأن يقوم بدور المكاشفة الجريئة للشباب والمنظمات والدولة، ليحذر من غياب فكر سياسي استراتيجي يسعف المجتمعات العربية علي مجاوزة مرحلة الاستبداد والتعصب التمامي الأصولي، وليدعو إلى إعادة تنظيم الصراع تنظيما ديمقراطيا، تضطلع فيه الدولة بحماية المجتمع ومؤسساته من إرهاب وسطوة المتاجرين بالدين، وتصون حقوق المواطن وحريته في التعبير. بعبارة أخري، المثقف مطالب بأن ينتقد سياسة الدولة الملتبسة تجاه الأصولية والفكر الظلامي، كما عليه أن ينتقد الفكر الأصولي، النكوصي، الباحث عن عصر ذهبي في ماض كسيح. إن القوي الوطنية والتقدمية لم تعرف كيف تجدد خطابها ومصداقيتها لدي الجماهير، ولذلك ينوب المثقفين أن يمهدوا الطريق لعودة القوي السياسية المستنيرة إلي حومة الفعل والتأطير. 

ماذا استفادت القضية وما خسرتْ؟
استفادت القضية الفلسطينية من التوجه الديني، أنها جذرت روح المقاومة والاستشهاد والنزاهة في فترة بدأ فيها الاستسلام لمفاوضات شكلية، وطفتْ خلالها مساوئ واختلاسات بعض متنفذي السلطة الوطنية سواء في عهد عرفات أو محمود عباس. ولكنها خسرتْ ذلك البعْد الوطني القومي، العربي، الذي يدرج القضية الفلسطينية ضمن قضايا التحرر الوطني، ويكسبها تأييد شعوب العالم... فضلا عن ذلك، فإن هذا التوجه الديني يفرض علي فصائله مشايعة القوي الدينية في المنطقة، بل والاستعانة بها لتصعيد المواجهة مع إسرائيل، فتخرج القضية من مدارها إلي مدار الصراع الإيراني ـ الأمريكي ـ الإسرائيلي... إن إعادة القضية الفلسطينية إلي مدارها الطبيعي، إلي مجال الفعالية السياسية والوطنية تقتضي أن تضطلع الأنظمة العربية بالحد الأدني من واجبها في حماية الدولة، وذلك بأنْ تكفٌ عن استغلال الدين ومغازلة الأصوليين، وأن تبادر إلي الحيلولة دون توظيف الدين لبسط الهيمنة علي المجتمع المدني من لدن المتاجرين بتعاليمه. وهذا هو المدخل إلي وقف الانهيار والنزيف العربييْن. إلا أنه ما دامت الأنظمة لا تستشعر هذا الخطر، فإن علي المثقفين أن يخوضوا معركة حماية المجتمع من وصاية التكفير والوعيد، وأن يبلورا تصورا متكاملا عن ضرورة فصل الدولة عن الدين في اتجاه يضمن حرية ممارسة الشعائر، وصوْنها من المتاجرة والاستعمال السياسي، ويقطع الطريق علي مّنْ ينصب نفسه وصيا علي عقيدة الناس وضمائرهم. 


عن أخبار الأدب