غزة: تاريخ مقاومة

محمد المزوغي

أمام عدوّ مدجج بأحدث أسلحة الموت التي عرفتها ولم تعرفها الإنسانية، فإن صمود شعب غزة وبسالة مقاتليه الشبان، قد أذهل العالم أجمع، وصدم أول من صدم العدوّ الصهيوني وأربكه في الصميم. هذه المعلومة ليست بجديدة، بل هي على مرأى ومسمع الجميع، وموثقة ومعروفة. ما هو غير معروف، ربما، القولة التالية:

«أعتقد أنه من الصواب والعدل منح أهل غزة الشهادة التي يستحقونها. ورغم أنهم لا يختلفون بتاتا عن أهل الشام من حيث البراعة التي أظهروها في العمليات الحربية، فهم مع ذلك يتميّزون خصوصا، بالقدرة على رد الفعل، بالتعاضد المتبادل وبالأمانة للكلمة المعطاة »(1).

هذه الأقوال لم تصدر من صحفي عربي حديث متعاطف مع الفلسطينيين، أو من أحد الساسة التابعين لحماس، بل هي، على راهنيتها، متأتية من أحد المؤرخين القدامى الذي يَفصِل بيننا وبينه 2200 سنة تقريبا، وأعني المؤرخ اليوناني بوليبيوس. لقد أورد معلومات قيّمة جدا عن غزة، لا نجدها عند المؤرخين القدامى، وأبدى تعاطفا وحماسة في ذكر خصال أهل غزة نادرا ما نعثر عليها في كتب التاريخ. ولهذا فقد رأيت من الأجدر ترجمة هذا المقطع وتقديمه للقارئ العربي لكي يعي بأن شعب غزة، خصوصا، والشعب الفلسطيني عموما، هو منذ القديم شعب مجاهد، صامد، وبطل.

يقول بوليبيوس بأن «أهل غزة لهم شجاعة لا مثيل لها (لا يمكن تجاوزها "ανυποστατον")». فعلا، في عهد الغزوة الفارسية (529 ـ 522 ق. م) «حينما كانت عظمة ذلك الملك المطلق، تُرهِب الشعوب الأخرى والجميع يُسلمون أنفسهم وأوطانهم إلى الفرس، أهل غزة فقط هم الذين جابهوا الخطر، معرّضين أنفسهم لمحاصرة العدوّ. ثم إنه، حينما ظهر الإسكندر، وبينما كانت الشعوب الأخرى ليس فقط قد أسلمت أنفسها، بل حتى سكان صور وقع سبيهم بالقوة، ولم يبق هناك أي أمل في الخلاص لمن جابه عتواة الإسكندر، أهل غزة هم الوحيدون، من بين شعوب الشام أجمعين، الذين قاوموه دون أن يَتركوا أي محاولة للنصر(2)». وأيضا بعد الإسكندر، في المناسبة التي غزاهم فيها أنتيوخس الثالث حاكم سوريا سنة 201 قبل الميلاد، فقد أظهر أهل غزة مقاومة شرسة تصدّت لمشروع غزوه فلسطين بأكملها، وأخّرته لعدة شهور. وهذه المقاومة، يقول بوليبيوس مردها هو أمانة أهل غزة، والتزامهم بالكلمة التي أعطوها لبطليموس حاكم مصر آنذاك(3). مجموع هذه الخصال النبيلة جعلت بوليبيوس لا يتوانى من الإشادة المتحمسة بالغزاويين قائلا: « يجب عليّ أن أذكر بكلمات إشادة أهل تلك المدينة جميعا الذين هم، بالسّيرة وبالمبدأ، اعتادوا على القيام بأعمال نبيلة».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ـ بوليبيوس، التاريخ 10 ـ 21. الترجمة الإيطالية
Polibio, Storie X-XXI, a cura di Roberto Nicolai. Edizione integrale con testo greco a fronte, Grandi tascabili economici, Newton, Roma 1998, p. 331.
(2) ـ في سنة 332 ق. م
(3) ـ هذه الأحداث وقعت بين 200 و 202 ق. م.