الشاعرة العراقية نازك الملائكة
تحتل نازك الملائكة مكانها في الرعيل الأول من شعراء وشاعرات الجيل الجديد في عاصمة فيصل. وهي شاعرة منتجة، عرفتها الصحف ومحافل الأدب بحرارة شعرها العاطفي الغني بالخيال والصور الشعرية المترقرقة. وقد نشأت نازك في بيت عامر بالأدب والشعر، فأبوها صادق الملائكة شاعر وأديب له مكانته بين أدباء العراق، ووالدتها المعرفة في محافل الأدب باسم: "أم نزار الملائكة" شاعرة من الشواعر المبرزات في العراق، ولأخيها نزار وأختها إحسان مشاركة في الأدب والشعر. وقد نال الجميع حظاً عالياً من الثقافة، واتقنوا عدداً من اللغات الاجنبية، واطلعوا على الآداب العالمية بلغاتها الأصلية. ومن هنا تهيأ لنازك جو أدبي خالص تكونت فيه شاعريتها وذوقها الأدبي والفني. وعلى الرغم من أنها نشأت في بيئة شرقية محافظة، إلا أنها في حياتها البيتية قد لقيت رعاية طيبة ونالت حرية واسعة، وأتيح لها أن تمضي في الدراسة إلى أقصى حد تستطيعه، فقد أنهت دراستها الجامعية في دار المعلمين العالية في بغداد، ونالت شهادتها. وقد كانت أخيراً تواصل دراستها العالية في إحدى جامعات الولايات المتحدة. ولنازك ديوانان مطبوعان، الأول "عاشقة الليل" وقد طبع سنة 1947، وكتبت مقدمته أختها إحسان، والثاني "شظايا ورماد" وقد صدر في عام 1949، وفيه مقدمة تحليلية بقلم الشاعرة نفسها. وعلى الرغم من تقارب المدى بين ظهور الديوانين، فإنهما يمثلان مرحلتين مختلفتين من مراحل التطور في حياة نازك الشعرية. فالأول يمثل دور العاطفة وحدها بينما يمثل الثاني دور "الوعي" أو دور "العقل" بتعبير أدق. وبين هذين الطورين اختلافات جوهرية واضحة كل الوضوح في شعر الديوانين. أما في الديوان الأول فقد كانت نازك شاعرة موفقة، إذ كانت العاطفة والطبع وحدهما يسيران شاعريتها، ويمدانها بالفورة والحنان والحيوية والصورة الملونة الحية، وكان في عبارة شعرها كل ما يميز الشعر العربي الجميل من موسيقى وتجانس والشعر العربي في رأي أغنى من الشعر الغربي بهاتين الصفتين بشكل خاص، وهو إذا فقد تجانسه الموسيقي أضاع أهم عناصر جماله وتأثيره في النفس. لهذا نقول أن نازك الملائكة في ديوانها الأول موفقة كل التوفيق في موهبتها الشعرية، أما في الديوان الثاني فقد اختلفت الحال، لأن الشاعرة لم تعد تعتمد على الموهبة والحس والعاطفة، بل جعلت تستند في قسم غير قليل من قصائدها إلى الثقافة الواعية المركزة. لقد حكمت ثقافتها في شعرها وأرادت أن تجري عليه نوعاً من الاختبار الفكري، يتصرف به الوعي المثقف، محاولة أن تجري به على غرار حبكة الشعر الغربي، ولكنه جاء شيئاً يشبه النثر بتفعيلاته غير المتجانسة وغير المنضبطة في نظام موسيقى. ونشير ههنا إلى قصائدها: "نهاية السلم"، "الكوليرا"، "لنكن أصدقاء"، "في جبال الشمال"، "أغنية الهاوية"، "خرافات"، وغيرها. على أن الحقيقة أن الشاعرة قد وفقت في المقدمة التحليلية الطويلة التي صدّرت بها الديوان أكثر من توفيقها في تطبيق شعرها على هذه الأصول الأدبية التوجيهية التي رسمتها في الصفحات (من 8 إلى 12) من المقدمة، بشكل خاص. والمقدمة هي التي تحدد أهداف الشعر ومنازعه وطرائقه التي تحاول نازك أن ترسمها لنفسها وللشعر العربي الجديد، وإن يكن التطبيق قد انزلق عن هذه المسالك المرسومة كما تنزلق عجلات القطار عن خط الحديد. بعد هذا كله نعود إلى شعر نازك نتلمس ما فيه من معان وخصائص، فنجد أن الحصة الكبرى من شعرها قد وقفتها على عواطفها وانطباعاتها الشخصية، التي نستطيع أن نجمعها تحت عنوان واحد هو "الحرمان". وفي القصائد العديدة التي عبرت بها الشاعرة عن قسوة الحرمان هذه، نلمس عاطفة شديدة الحرارة، ولهفة شديدة العمق، ونطالع صوراً تقطر بالدم وتندلع باللهيب. وهذه الحرارة العاطفية في شعر نازك قد تتحول إلى فورة كلها عنفوان وتمرد وكبرياء ونقمة. والفورة هي الميزة التي تميز حياة الشباب عادة، كما أن هناك ناحية أخرى قد ترافق مرحلة الشباب وهي الحيرة. وقد عبرت نازك عن حيرة الشباب هذه في قصيدتها "صراع" أحسن تعبير، فهي تحب وتكره وتضحك وتبكي، وتريد وتنفر، ولكنها لا تدري ماذا ولماذا، فهي تقول: أحــب وأكــره، ماذا أحـب وأكـره؟ أي شعــور عجيــب؟ وأبكي وأضحك، ماذا ترى يثير بكائي وضحكي الغريب؟ أريــد وأنفـــر أي جنـــون حياتي؟ وأي صراع رهيــب؟ لماذا أعيش؟ لمـاذا أغنـي ومن ذا أصارعه؟ لامجيــب؟ والحيرة تولد الألم والتشاؤم، وهذان أبرز ما يصطبغ به شعر نازك في ديوانيها معاً، لا فرق في ذلك بين ما يدخل منه في نطاق عاطفتها الفردية الخاصة، وما يمس الحياة العامة. فهناك قصائد تعالج بعض مشاكل الحياة والنفس البشرية، ولكنها تكفنت بالتشاؤم الموجع، فضاع ما كان يمكن أن تؤديه من رسالة الجمال والحب والخير. ونذكر من هذه القصائد: "خرافات"، "جامعة الظلال"، "أغنية الهاوية"، وغيرها. قلت أن الحصة الكبرى من شعر نازك تتعلق بمشاعرها الفردية وتعبر عن مشاكل قلبها وعاطفتها الخاصة. على أن هذا لا يمنع من القول إن هناك زاوية من نفسها كانت تنفتح للشعور مع الآخرين ولتصوير ما في المجتمع من شرور وآلام. ففي الديوان الأول نجد خمس قصائد من هذا النوع، هي: "مرثية غريق"، "سياط وأصداء"، "المقبرة الغريقة"، "خواطر مسائية"، "عيد الإنسانية". وفي ديوانها الثاني ثلاث قصائد هي" "الكوليرا"، "لنكن أصدقاء"، "يوتوبيا في الجبال". على أن الذي لمسناه في هذه القصائد كلها أن العاطفة فيها "دافئة" فقط، وكان يعوزها شيء من الاضطرام لكي تجد تأثيرها القوي في النفوس. وشيء آخر نلاحظة في القصائد الثلاث التي من ديوان "شظايا ورماد"، وهو أن المعاني التي تدورعليها كلها حنان ورحمة على أبناء الحياة، ولكننا لا نظلم الشاعرة إذا قلنا أن طريقة النظم فيها لم تعرف الرحمة بآذان القراء وأذواقهم الشعرية، فقد ألف القراء في الشعر العربي إيقاعاً موسيقياً متجانساً، فوجدوا هنا نظماً غريباً مقلقلاً يصدم الأذن بشكل عنيف. والحقيقة أن القارئ يسير من الشاعرة في هذه القصائد وأمثالها، لاهثاً من التعب، فهناك بيت طويل وآخر قد لا يزيد على لفظة واحدة، لأن "التفاعيل" قد وزعت على الأبيات بدون نظام، فغدت مدعاة للملل والتعب والارتخاء النفسي. ونكتفي الآن بإيراد نموذج قصير من هذا الشعر الذي نعنيه، وهو من قصيدة "فلنكن أصدقاء": لنكن أصدقاء إن صوتاً وراء الرماد في عروق الذين تساقوا كؤوس العداء في عروق الذين يظلون كالثملين يطعنون الإخاء يطعنون أعزاءهم باسمين في عروق المحبين والهاربين من أحبابهم، من نداء الحنين في جيمع العروق إن صوتاً وراء جميع العروق هامساً في قرارة كل فؤاد خفوق يجمع الأخوة النافرين ويشد قلوب الشقيين والضاحكين ذلك الصوت صوت الإخاء فلنكن أصدقاء والذي يطالع شعر نازك المتألم يلمس هناك شيئاً من أثر أبي القاسم الشابي، وعباراته الشعرية الجميلة، وقوة تصوره. ويظهر هذا الأثر على الأخص في قصيدة "بين فكي الموت" التي نظمتها نازك في حالة المرض، مما جعل هناك جامعاً بين حالتها الشعورية والحالة الشعورية التي كان الشابي ينظم فيها قصائده الباكية. وفي القصيدة تقول الشاعرة: أيها الموت، وقفة قبـل أن تغري بجسمـي سكونــك الأبـديا أه، دعني أملاً عيوني من الأنوار، وأرحم فؤادي الشاعريا أه، دعني أودع العود، يا موت، فقد كان لي الصديق الوفيا وأرنـم لحــن الـوداع لدنيــاي، لأمضـي للمـوت قلبــاً شقيا ونجوى الموت وتمنيه من الأشياء الكثيرة الشيوع في شعر نازك، وهي شيء نتمنى لو خلا منه الشعر عامة، إذا كنا نريد من الشعر أن يقود الحياة إلى السمو والقوة والفرح، وبالتالي إلى السعادة، وهذه هي رسالته. ونازك شاعرة قوية في روحها، عذبة في عباراتها، جميلة في خيالاتها، ويمكنها أن تؤدي رسالة الشعر إلى الحياة على أجمل وجه متى وصلت إلى وجهتها الصحيحة، فهي حتى الآن تتقلب في مراحل النضوج السريعة. وهذه الخصائص الشعرية التي ذكرناها الآن لشاعرية نازك نلمسها على أروعها في قصيدتها "أنشودة الأبدية" التي تناجي فيها روح الفنان الخالد تشايكوفسكي بقولها: سأحب الحياة من أجل ألحانك يا بلبلي الحزين، وأحيا سأرى في النجوم من نـور أحلامـك ظـلاً مخلـداً أبديا وإذا ثارت العواصف في الليل وراء الحقل الرهيب الجي لمست روحـي المشوقـة فيهـا ذكريات من روحـك الناري أيها المـوت، أيهـا المـارد الشريـر، يالعنـة الزمـان العنيـد كيف ترضى يداك أن تقتل الإلهـام؟ ماذا تركتـه للوجـود؟ سوف تفنى ذكراك أنت، ويبقى ظل ذاك الطير الجميل الوديع سوف تبقى نجواه تخفق فوق الأرض بالحب والجمال الرفيـع وبعد فلست أود أن أختم الحديث قبل أن أرجو إلى الشاعرة الموهوبة أن لا تجعل "للعقل" من شعرها المرتقب وطريقة نظمه أكثر من حظ الملح من الطعام، وأن تترك لطبعها الموهوب، وعاطفتها الصافية، وخيالها الطليق أن تدير دفة شعرها ليبلغ بحنان إلى قلوب القراء. كما أرجو أن تطلق عاطفتها الحنون في مداها الأرحب، لتطوف بوطنها العربي المحدود أولاً، ثم بوطنها الإنساني الأكبر لتغرف من فيضهما الذي لا يغيض، وأنا كفيل بعد ذلك بأن تصل إلى أرحب آماد المجد الأدبي الذي لا يموت. الأديب، س11، ج3، بيروت، مارس 1952.
تحتل نازك الملائكة مكانها في الرعيل الأول من شعراء وشاعرات الجيل الجديد في عاصمة فيصل. وهي شاعرة منتجة، عرفتها الصحف ومحافل الأدب بحرارة شعرها العاطفي الغني بالخيال والصور الشعرية المترقرقة. وقد نشأت نازك في بيت عامر بالأدب والشعر، فأبوها صادق الملائكة شاعر وأديب له مكانته بين أدباء العراق، ووالدتها المعرفة في محافل الأدب باسم: "أم نزار الملائكة" شاعرة من الشواعر المبرزات في العراق، ولأخيها نزار وأختها إحسان مشاركة في الأدب والشعر. وقد نال الجميع حظاً عالياً من الثقافة، واتقنوا عدداً من اللغات الاجنبية، واطلعوا على الآداب العالمية بلغاتها الأصلية. ومن هنا تهيأ لنازك جو أدبي خالص تكونت فيه شاعريتها وذوقها الأدبي والفني. وعلى الرغم من أنها نشأت في بيئة شرقية محافظة، إلا أنها في حياتها البيتية قد لقيت رعاية طيبة ونالت حرية واسعة، وأتيح لها أن تمضي في الدراسة إلى أقصى حد تستطيعه، فقد أنهت دراستها الجامعية في دار المعلمين العالية في بغداد، ونالت شهادتها. وقد كانت أخيراً تواصل دراستها العالية في إحدى جامعات الولايات المتحدة. ولنازك ديوانان مطبوعان، الأول "عاشقة الليل" وقد طبع سنة 1947، وكتبت مقدمته أختها إحسان، والثاني "شظايا ورماد" وقد صدر في عام 1949، وفيه مقدمة تحليلية بقلم الشاعرة نفسها. وعلى الرغم من تقارب المدى بين ظهور الديوانين، فإنهما يمثلان مرحلتين مختلفتين من مراحل التطور في حياة نازك الشعرية. فالأول يمثل دور العاطفة وحدها بينما يمثل الثاني دور "الوعي" أو دور "العقل" بتعبير أدق. وبين هذين الطورين اختلافات جوهرية واضحة كل الوضوح في شعر الديوانين. أما في الديوان الأول فقد كانت نازك شاعرة موفقة، إذ كانت العاطفة والطبع وحدهما يسيران شاعريتها، ويمدانها بالفورة والحنان والحيوية والصورة الملونة الحية، وكان في عبارة شعرها كل ما يميز الشعر العربي الجميل من موسيقى وتجانس والشعر العربي في رأي أغنى من الشعر الغربي بهاتين الصفتين بشكل خاص، وهو إذا فقد تجانسه الموسيقي أضاع أهم عناصر جماله وتأثيره في النفس. لهذا نقول أن نازك الملائكة في ديوانها الأول موفقة كل التوفيق في موهبتها الشعرية، أما في الديوان الثاني فقد اختلفت الحال، لأن الشاعرة لم تعد تعتمد على الموهبة والحس والعاطفة، بل جعلت تستند في قسم غير قليل من قصائدها إلى الثقافة الواعية المركزة. لقد حكمت ثقافتها في شعرها وأرادت أن تجري عليه نوعاً من الاختبار الفكري، يتصرف به الوعي المثقف، محاولة أن تجري به على غرار حبكة الشعر الغربي، ولكنه جاء شيئاً يشبه النثر بتفعيلاته غير المتجانسة وغير المنضبطة في نظام موسيقى. ونشير ههنا إلى قصائدها: "نهاية السلم"، "الكوليرا"، "لنكن أصدقاء"، "في جبال الشمال"، "أغنية الهاوية"، "خرافات"، وغيرها. على أن الحقيقة أن الشاعرة قد وفقت في المقدمة التحليلية الطويلة التي صدّرت بها الديوان أكثر من توفيقها في تطبيق شعرها على هذه الأصول الأدبية التوجيهية التي رسمتها في الصفحات (من 8 إلى 12) من المقدمة، بشكل خاص. والمقدمة هي التي تحدد أهداف الشعر ومنازعه وطرائقه التي تحاول نازك أن ترسمها لنفسها وللشعر العربي الجديد، وإن يكن التطبيق قد انزلق عن هذه المسالك المرسومة كما تنزلق عجلات القطار عن خط الحديد. بعد هذا كله نعود إلى شعر نازك نتلمس ما فيه من معان وخصائص، فنجد أن الحصة الكبرى من شعرها قد وقفتها على عواطفها وانطباعاتها الشخصية، التي نستطيع أن نجمعها تحت عنوان واحد هو "الحرمان". وفي القصائد العديدة التي عبرت بها الشاعرة عن قسوة الحرمان هذه، نلمس عاطفة شديدة الحرارة، ولهفة شديدة العمق، ونطالع صوراً تقطر بالدم وتندلع باللهيب. وهذه الحرارة العاطفية في شعر نازك قد تتحول إلى فورة كلها عنفوان وتمرد وكبرياء ونقمة. والفورة هي الميزة التي تميز حياة الشباب عادة، كما أن هناك ناحية أخرى قد ترافق مرحلة الشباب وهي الحيرة. وقد عبرت نازك عن حيرة الشباب هذه في قصيدتها "صراع" أحسن تعبير، فهي تحب وتكره وتضحك وتبكي، وتريد وتنفر، ولكنها لا تدري ماذا ولماذا، فهي تقول: أحــب وأكــره، ماذا أحـب وأكـره؟ أي شعــور عجيــب؟ وأبكي وأضحك، ماذا ترى يثير بكائي وضحكي الغريب؟ أريــد وأنفـــر أي جنـــون حياتي؟ وأي صراع رهيــب؟ لماذا أعيش؟ لمـاذا أغنـي ومن ذا أصارعه؟ لامجيــب؟
والحيرة تولد الألم والتشاؤم، وهذان أبرز ما يصطبغ به شعر نازك في ديوانيها معاً، لا فرق في ذلك بين ما يدخل منه في نطاق عاطفتها الفردية الخاصة، وما يمس الحياة العامة. فهناك قصائد تعالج بعض مشاكل الحياة والنفس البشرية، ولكنها تكفنت بالتشاؤم الموجع، فضاع ما كان يمكن أن تؤديه من رسالة الجمال والحب والخير. ونذكر من هذه القصائد: "خرافات"، "جامعة الظلال"، "أغنية الهاوية"، وغيرها. قلت أن الحصة الكبرى من شعر نازك تتعلق بمشاعرها الفردية وتعبر عن مشاكل قلبها وعاطفتها الخاصة. على أن هذا لا يمنع من القول إن هناك زاوية من نفسها كانت تنفتح للشعور مع الآخرين ولتصوير ما في المجتمع من شرور وآلام. ففي الديوان الأول نجد خمس قصائد من هذا النوع، هي: "مرثية غريق"، "سياط وأصداء"، "المقبرة الغريقة"، "خواطر مسائية"، "عيد الإنسانية". وفي ديوانها الثاني ثلاث قصائد هي" "الكوليرا"، "لنكن أصدقاء"، "يوتوبيا في الجبال". على أن الذي لمسناه في هذه القصائد كلها أن العاطفة فيها "دافئة" فقط، وكان يعوزها شيء من الاضطرام لكي تجد تأثيرها القوي في النفوس. وشيء آخر نلاحظة في القصائد الثلاث التي من ديوان "شظايا ورماد"، وهو أن المعاني التي تدورعليها كلها حنان ورحمة على أبناء الحياة، ولكننا لا نظلم الشاعرة إذا قلنا أن طريقة النظم فيها لم تعرف الرحمة بآذان القراء وأذواقهم الشعرية، فقد ألف القراء في الشعر العربي إيقاعاً موسيقياً متجانساً، فوجدوا هنا نظماً غريباً مقلقلاً يصدم الأذن بشكل عنيف. والحقيقة أن القارئ يسير من الشاعرة في هذه القصائد وأمثالها، لاهثاً من التعب، فهناك بيت طويل وآخر قد لا يزيد على لفظة واحدة، لأن "التفاعيل" قد وزعت على الأبيات بدون نظام، فغدت مدعاة للملل والتعب والارتخاء النفسي. ونكتفي الآن بإيراد نموذج قصير من هذا الشعر الذي نعنيه، وهو من قصيدة "فلنكن أصدقاء": لنكن أصدقاء إن صوتاً وراء الرماد في عروق الذين تساقوا كؤوس العداء في عروق الذين يظلون كالثملين يطعنون الإخاء يطعنون أعزاءهم باسمين في عروق المحبين والهاربين من أحبابهم، من نداء الحنين في جيمع العروق إن صوتاً وراء جميع العروق هامساً في قرارة كل فؤاد خفوق يجمع الأخوة النافرين ويشد قلوب الشقيين والضاحكين ذلك الصوت صوت الإخاء فلنكن أصدقاء
والذي يطالع شعر نازك المتألم يلمس هناك شيئاً من أثر أبي القاسم الشابي، وعباراته الشعرية الجميلة، وقوة تصوره. ويظهر هذا الأثر على الأخص في قصيدة "بين فكي الموت" التي نظمتها نازك في حالة المرض، مما جعل هناك جامعاً بين حالتها الشعورية والحالة الشعورية التي كان الشابي ينظم فيها قصائده الباكية. وفي القصيدة تقول الشاعرة:
أيها الموت، وقفة قبـل أن تغري بجسمـي سكونــك الأبـديا أه، دعني أملاً عيوني من الأنوار، وأرحم فؤادي الشاعريا أه، دعني أودع العود، يا موت، فقد كان لي الصديق الوفيا وأرنـم لحــن الـوداع لدنيــاي، لأمضـي للمـوت قلبــاً شقيا
ونجوى الموت وتمنيه من الأشياء الكثيرة الشيوع في شعر نازك، وهي شيء نتمنى لو خلا منه الشعر عامة، إذا كنا نريد من الشعر أن يقود الحياة إلى السمو والقوة والفرح، وبالتالي إلى السعادة، وهذه هي رسالته. ونازك شاعرة قوية في روحها، عذبة في عباراتها، جميلة في خيالاتها، ويمكنها أن تؤدي رسالة الشعر إلى الحياة على أجمل وجه متى وصلت إلى وجهتها الصحيحة، فهي حتى الآن تتقلب في مراحل النضوج السريعة. وهذه الخصائص الشعرية التي ذكرناها الآن لشاعرية نازك نلمسها على أروعها في قصيدتها "أنشودة الأبدية" التي تناجي فيها روح الفنان الخالد تشايكوفسكي بقولها:
سأحب الحياة من أجل ألحانك يا بلبلي الحزين، وأحيا سأرى في النجوم من نـور أحلامـك ظـلاً مخلـداً أبديا وإذا ثارت العواصف في الليل وراء الحقل الرهيب الجي لمست روحـي المشوقـة فيهـا ذكريات من روحـك الناري أيها المـوت، أيهـا المـارد الشريـر، يالعنـة الزمـان العنيـد كيف ترضى يداك أن تقتل الإلهـام؟ ماذا تركتـه للوجـود؟ سوف تفنى ذكراك أنت، ويبقى ظل ذاك الطير الجميل الوديع سوف تبقى نجواه تخفق فوق الأرض بالحب والجمال الرفيـع
وبعد فلست أود أن أختم الحديث قبل أن أرجو إلى الشاعرة الموهوبة أن لا تجعل "للعقل" من شعرها المرتقب وطريقة نظمه أكثر من حظ الملح من الطعام، وأن تترك لطبعها الموهوب، وعاطفتها الصافية، وخيالها الطليق أن تدير دفة شعرها ليبلغ بحنان إلى قلوب القراء. كما أرجو أن تطلق عاطفتها الحنون في مداها الأرحب، لتطوف بوطنها العربي المحدود أولاً، ثم بوطنها الإنساني الأكبر لتغرف من فيضهما الذي لا يغيض، وأنا كفيل بعد ذلك بأن تصل إلى أرحب آماد المجد الأدبي الذي لا يموت. الأديب، س11، ج3، بيروت، مارس 1952.