لا زلت أذكر لقائي الوحيد معه. كان ذلك منذ خمس سنوات، في معرض الكتاب في باريس. يومها، لم أكن أعرف الرجل شخصيا، فقالت لي كاترين بواسون الناشرة في دار «أندري ديمانش» (التي أعادت نشر غالبية أعماله)، "هل تريد مقابلته؟ سيأتي ليوقع كتابه في السادسة مساء".
كان لقاء طويلا. جلست لساعات برفقة هذا «الشيخ الجليل». ربما لحسن حظي، لم يأت كثر ذاك اليوم، ليوقع لهم، ما أتاح لي وقتا ممتعا إلى أقصى الدرجات. تشعبت الأحاديث حول كلّ شيء. وبالرغم من سنّه ومعرفته وثقافته، بقي الرجل متواضعا إلى أقصى الدرجات. بقيَ متقدّ الذهن أيضا، ولم يشطّ للحظة. ربما هو الدرس الأساس، والأول، الذي تعلمته من إدمون عمران المالح.
منذ أيام، غادرنا الكاتب المغربي الكبير، بصمت وهدوء، كما عاش سنيّه الأخيرة. عاشها بين الأحرف والكلمات، التي عجنها، ليصنع منها بعضا من أجمل الكتب، التي تبقى عالقة في ثناياك. كتب تعيد تذكيرنا ببديهيات، لا أعرف لِمَ نتناساها. هي بديهيات العدل والمساواة، بديهيات الحق، الذي لا يسقط من جراء «دين» الشخص، بل بقي يعتبر الإنسان وما يمثله من قيمة إبداعية وأخلاقية هي "المذهب" الحقيقي الذي يجب احترامه. ربما ما من كاتب عربي، عرف كيف يدافع عن القضية الفلسطينية، وعن الحق السليب، مثلما كتب وحاضر وقال عمران المالح، وهو «اليهودي» المغربي، الذي لم يكن يجد في إسرائيل سوى دولة صهيونية، والذي لم يتوانَ عن التنديد بهجرة اليهود المغاربة رافضا انسلاخهم عن المحيط الذي عاشوا فيه، إذ اعتبر أنهم ينتمون إلى هذه البلاد، لا إلى دولة مزروعة غصبا.
هذه المواقف، جعلت العديد من دور النشر في فرنسا ترفض نشر كتبه، لما تضمنته من مواقف معادية للفكرة الأوروبية حول حماية الدولة "اليهودية"، ومع ذلك، لم يقدم أي مسوغات، فالموقف الأخلاقي بالنسبة إليه، كان الأهم من كل شيء.
لكن اختصار إدمون عمران المالح، على هذا الجانب، قد لا يفي الكاتب حقه. صحيح أنه بدأ الكتابة وهو في منتصف الستينيات، إلا انه وجد الوقت الكافي، ليصدر عددا من الروايات الجميلة والمهمة جعلته حاضرا على الخارطة الروائية. من هنا، ثمة مساران، المسار السياسي الذي بدأ بنضاله من أجل تحرير المغرب من الاحتلال الفرنسي، ومن ثم وقوفه مع القضايا العادلة، وفي ما بعد مسار الكاتب، الذي عرف كيف يبدع لغة خاصة به، داخل اللغة الفرنسية «الرسمية» التي تغرف كثيرا من محكية مسقط رأسه «الصويرة» كما من مناخاتها الشعبية.
رحيل عمران المالح، أكثر من خسارة للثقافة المغربية وحدها. هي خسارة لمبدع أعلى شأن الأخلاق {بمعنى Ethique } الإنسانية، من هنا نشعر كلنا برحيل واحد منّا. رحيل واحد، شكل مكانة حقيقة في وعينا الثقافي، على الأقل. لذلك من الصعب تعويض هذه القامة، في زمن، تفيض منه رائحة كراهيات الأديان المتناحرة.
شاعر وناقد من لبنان