انه هنا .. هناك .. قابع بين الأرائك والسماوات الفسيحة الملونة.. والشراشف البيضاء النظيفة .. ومبحر في التهاويم .. لا أظن أن أحدا تعرف عليه دون أن يمنحه ذلك الحب الآسر .. انه - بشير مهدي - الكائن الأليف مثل طائر السنونو.. الصاخب.. الحاد المزاج مثل موجة متوحدة عاتية.
حين تراه لأول وهلة تشعر بأنك قد تعرفت عليه منذ عشرات السنين، كيف لنا أن ننسى الوجه العراقي الأسمر والعينين الحادتين كعيني نسر.. وتلك الابتسامة والخطوط النازلة على محياه..
هنا أقول : ينبغي أن نفهم الأشياء من خلال قدرتها على التأثير في الآخرين سلبا آو إيجاباً.. و – بشير مهدي - الفنان العراقي المنفي في ايطاليا منذ عشرين سنة يصرخ ملء صوت مبحوح.. والمتفرد في النقاء والصدق: نحن لا نرفض محاولات التجديد في الفن عموما.. والفن التشكيلي بوجه خاص إذا كانت تنطوي على تجربة تطرح دلالاتها بالتأثير وإذا وجدت تبريرا لسلوكها فنياً.. ومن هنا فان بشير الفنان الكلاسيكي المستحدث لمواضيع أعماله المتجددة أبداً ، يفهم لغة واحدة فقط هي اقرب إلى ضرورة امتلاك الوعي لدى الفنان. وحينما يجيء فنان ما ويضع وجهه أمام الأعين الذكية وإمام الحواس الباحثة أبدا عن طمأنينة التقبل لما يحمله عمله الفني من إشكالات وغموض وبهاء وجمال وصدق.. وفعالية، ويمارس مع صوته الحاد لعبة الصمت أو الغضب فأننا يجب أن نعاين قدرة هذا الفنان على امتلاك فعل المساهمة الواعية في تغيير الواقع وهنا ينبغي لنا كمتلقين أن نتخلى عن فلسفة التقييم التقليدي انسجاماً مع موقفنا بحثا عن الأصالة.. وهنا أتساءل: هل لي أن ادخل ضمن المواصفات العميقة لدلالات أعمال – بشير - التشكيلية ؟ ربما.. فلأحاول: أحيانا تنداح تلك الشريعة التي تحضر أبداً وتتوزع في كل الاتجاهات.. باحثة في الصميم عن النتيجة التي تجيء على شكل رؤيا تستلهم العين والحواس.. الوجود في لوحة – بشير – ما هو إلا شكل هلامي يتحول كيفما اتفق إلى مادة تبقى تسيل وتسيل حتى تصير أخيراً إنسانا. الوجود في لوحة بشير مضمون أسير لسؤال كبير عن هذا الإنسان بجماله.. برعبه، بانكساراته، بهزائمه، بانتصاراته الوهمية، بإصراره على أن يحمل والى الأبد في داخله لغة الإنسان الواحدة الخالدة. هنا في لوحة بشير تصير الكتلة شيئا يتحرك باتجاه الكل.. وتصير طائرا أسطورياً من نوع خاص. هنا يكرر الإنسان نفسه على سطحها الجميل الأخاذ.. ويعيد تركيب كل الأفراح القديمة، يستلقي بإرهاق على ضفة تريد أن تلتحم بماض معتم سحيق. هنا يسترجع هذا عصر الكهرباء والذرة حتى يستطيع بعد ذلك أن يقرر إن العالم ارض واحدة.. ويقين واحد.
وسط هذا الزمن الذي يدفع الإنسان لارتياد الفطنة والسؤال الأهم.. وأيضاً إلى ضرورة استشعار الحقيقة التي تشير نحو الإخلاص وتهشيم قالب المستحيل.. تنفجر دقيقة بعد أخرى تلك المحاولات التجديدية الرامزة للبحث والاستطراد في استقاء المؤثرات الحقيقية التي تخلق في كل وقت وفي كل مكان نوعية هذا الإنسان ومحيطه.. والنوازع الأساسية الجادة التي تقدر أن تبث فيه حياة أخرى مناقضة وتغيره من شكل ومن نموذج إلى أخر .في أعمال – بشير - نكتشف أن التكوين الشامل هو إحداث الوحدة والتكامل بين العناصر المختلفة للعمل الفني من خلال عمليات التنظيم المنظر والتحليل والتركيب والحذف والإضافة والتغيير في الأشكال والدرجات اللونية وقيم الضوء والظل والمساحات وما إلى ذلك من المكونات.. ويقوم تكرار بشير للأشكال المرئية: مائدة، كرسي، إنسان، طفل، حلم، طائر سماء مفتوحة على شمس لا تغيب خيول مترامية في البعد.. تمثال يتوجع.. زقاق عراقي في حارة إيطالية يسكنها الخوف والدهشة، على أساس خلق نوع من التعاطف أو الترابط العضوي بين مكونات اللوحة من خلال جعل هذه المكونات مجرد صدى لذكريات غابرة.. يجب هنا أن نؤكد أن في أعمال بشير تكوينات تحلق بواسطة الخطوط. وهناك أيضا تكوينات ومساحات داخل فضاء اللوحة الواسع اعتمد فيها على إبداعاته اللونية .. وتقوم هذه التكوينات أساساً على مبدأ التركيز على تدرج النغمات والكثافات اللونية. أن الشيء الجدير بالتنويه هو انه في عديد من أعماله الفنية تتفاعل الأشكال والألوان والخطوط بعضها مع البعض الآخر في تكوينات فنية متماسكة استطاع الفنان من خلالها أن يؤكد على أهمية اعتماد كل منها على الآخر.
في العرض الأخير لأعمال هذا الفنان يتوضح لنا انه لا يعمل هكذا دون ضوابط أو قوانين.. بل هو يفكر من خلال قواعد وأسس تعطي لجملة أعماله الفنية في النهاية صفات التماسك والاستقرار والهدوء والفعالية الايجابية المؤثرة. في لوحات – بشير - وضمن هذا الإطار تتحرك الأشياء بتلقائية، وتنشط في قلب اللوحة كل الفضاءات المشرقة الملونة في اطر شمولية إلى النموذج النقي للإنسان النموذج.
من الممكن أن تقدم لنا لوحة ما نزعات إنسانية عامة.. ولكن في أعمال – بشير - فان اللوحة عنده لقادرة تماما على أن تأخذنا إلى حلم جميل غير مشوش.. وقادرة أيضا على أن تضع أمام حواسنا حقائق مذهلة لغرض دفعنا إلى ضرورة استيعاب تحرك الإنسان المتطور.. والمضطرد باتجاه كل العناصر الأزلية الخالدة في الوجود.