بلاغة بشير مهدي الباهرة

فوزي كريم

الفنان بشير الذي وصلني شيء من لوحاته مصورة في البريد، مدهش في أكثر من معنى. لوحته ساعية إلى الكمال: في التقنية الشغوفة بأشياء الواقع في ذاتها، في استلهام الضوء، في التوازن، في القصيدة التي وراء اختيار الموضوع، في الشكل، في النسيج واللون، وأخيرا في المضامين المفتوحة التي تغذي كل بصيرة فردية بما تريد.

الكراسي والأسرة والضوء، التي يراها مقدم دليل الفنان رموزا للسلام والهدوء، أراها، على العكس، خشبة مسرح مفعمة الدراما بالعزلة والهجر والفقدان. إن غياب الإنسان عن المشهد ليس إلا خدعة بصرية. الصرخة المكتومة لأشيائه تجعله كثيف الحضور. خذ لوحة "الحقيبة" هذه. الشرشف المتهدل من فم الحقيبة تابع لرجل كثير الأسفار. إنه وقاية من تلوث الأسرة اللا معدودة للفنادق الرخيصة؛ والبطانية المدعوكة المتهدلة إنما بفعل نوم عكر. والأزهار المجففة أزهار زينة لا مناسبة لها ولا مكان. والضوء يقبل من مكان علوي خاف دائما. والعمود المركون على الجدار هل هو صولجان، عكاز، أم عصا وردية لسحر الماضي الذي لا يعود؟ من يعرف!

في مطلع عام (2000) كتبت قصيدة قصيرة تحت عنوان "أحتوي ذكرك الجميل" هذا نصها:

أحتوي ذكرك الجميل،

بزهور لم أسقها منذ يومين،

قشور لبيضة الأمس تعوي في إناء،

وحزمة من ثياب لفظتها حقيبة السفر السابق،

بيتي عش وأنت حمام البيت.

فلأكتفي بوهمي، حتى

أحتوي ذكرك الجميل.

إن مشاعر الفقدان واحدة في القصيدة وهذه اللوحة، خاصة في الثياب التي لفظتها حقيبة السفر السابق، وفي الزهور الجافة. ولكن نسيج هذه اللوحة الخشن أكثر بلاغة.

*  *  *

الرسام بشير شاعر واقعية صلبة. اللوحة التي أمامنا تمثل هذا الشعر والواقع والصلابة بصورة رائعة، فلنتمثلها معا، كرسي على أرض عارية مع شرشف أبيض ألقي عليه عرضا. الكرسي والشرشف وضعا بقصدية لتصويرهما، تماما كما يوضع إنسان لرسم بورتريت. وهذه أول خطوة لانتزاع الموضوع(الكرسي) من واقعيته. الجزء المرئي من الشباك وضع كمصدر للضوء، ثم لامتداد الغصن بأزهاره البيضاء ليكون عامل خرق للصمت المهيمن على المشهد بفعل صلابته ودقته. الدقة هنا تتجاوز الواقع لأنها دقة فائقة وغير عفوية. الإضاءة والظلال التي تستخدم عادة لإضفاء حركة درامية على المشهد، يبدو هنا لإضفاء كثافة على الصمت المهيمن. الواقع الدقيق هنا يتجاوز نفسه بسبب دقته ذاتها. يتجاوز واقعيته إلى ما وراءها. إلى حالة اغتراب عن الواقع. وعملية التجاوز هذه هي من صلب العمل الشعري. عن صلابة ما هو حسي نتصل بالفائق اللا مرئي وراءه.

الصمت هو كلام من نوع مختلف. في هذه اللوحة كلام لا يُمل، يصدر عن الأشياء الصامتة. بفعل وجودها ذاته، وبفعل الإضاءة التي تبعثر روحا خفية في البلاط والشرشف والكرسي والجدار.