عن صراع الروح البشرية، بين اللوعة والمتعة وفلسفة الألم

حسين السكّـاف

«علينا أن نوَلد أفكارنا من صميم آلامنا.» نيتشة

 

منذ زمن وهو يبحث في دواخل الروح البشرية، آلامها، آمالها ودلالة ما تخفيه من أوجاع ومسرات ليجسدها رموزاً داخل العمل الفني... أعماله تمنح المشاهد انطباع أولي يتجه نحو الأسلوب الكلاسيكي أو أسلوب عصر النهضة تحديداً، إلا أنه سرعان ما يكتشف رموز ودلالات متداخلة مع بنية العمل تشير إلى حداثة وتفرد بأسلوبٍ وفلسفة خاصة... صحيح أن أعماله كثيراً ما تحاكي أشهر أعمال فناني العالم، والفلاميين على وجه الخصوص مثل جان فيرمير وجاكوب يوردانس وغيرهم، إلا أن تلك المحاكاة لا بد وأن تأخذنا إلى فكرة معاصرة تتماهى مع الواقع المعاش. حيث يستدعي عمل شهير لأحدهم  ثم يوظفه في خدمة فكرة حديثة لا تخلو من فلسفة صراعات الروح البشرية المعاصرة بآمالها وآلامها، بولعها المشحون بفكرة مريحة تسمى أحياناً "أمل"، ولوعتها الأزلية الممتدة منذ بداية الخلق حتى يومنا هذا...كل هذا يجسده الفنان التشكيلي العراقي بشير مهدي معتمداً التكنيك الكلاسيكي في التنفيذ، ولكنه مطعماً بالحداثة ومشاكسة الفكرة.

هي إذاً فكرة "اللوعة والولع، والأمل والألم" التي باتت تشغل تفكير هذا الفنان منذ زمن ليس بالقصير، فبين لوعة الحياة، والولع بها، نكتشف أن المتعة التي تتلبس روح الفنان وهو يترجم أفكاره على قماش اللوحة، ما هي إلا متعة منبثقة من آلم المخاض حيث ولادة العمل، ترى لماذا صوَّرَ لنا نيتشة ولادة الفكرة كولادة الإنسان المنبثق من بين كومة آلام "ممتعة"؟... أليس العمل الفني فكرة؟ لنتأمل إذاً العمل المعنون "أنا الإنسان"، هذا العمل الذي سرعان ما يصدمنا عنوانه حين نتفحّص العمل ولا نجد للإنسان حضوراً واضحاً! فالإنسان غائب من المشهد، ولكن ثمة صخرة تشبه دماغ الإنسان متروكة على الوسادة، ولو تأملنا العمل قليلاً مطلقين العنان لخيالنا، لوجدنا إن هناك إنسان بالفعل، نائم ووجهه إلى الحائط، وهذا ما تشير به حركة الغطاء وتكوينه، ولكن الفنان عمد إلى تغييب جسد الإنسان، لا روحه وأثره، من المشهد ليمنح المشاهد فرصة للتساؤل...المكان ضيق جداً، لا يتسع إلا لسرير. قد يكون جحر في زاوية غير محددة من هذا العالم. ولكننا نعرف أن السرير في عالم الفنان هو الحياة بكل تناقضاتها، هو الموت والسعادة والأحلام والولادة والمرض. وهو أيضاً إشارة واضحة إلى ضعف الإنسان وهوانه... النائم كائن ضعيف وإن كان جباراً في يقظته، ولكننا نجد في أحيان أخرى تفسير يتماهى مع تلك الرؤى، حيث يشير السرير أيضاً في لوحاته، إلى وطن الفنان الذي هُمِّشَ فيه الإنسان منذ سنوات طوال، لذا فالإنسان هنا رغم حرارة جسده وتكوينه الذي يلمسه المشاهد من خلال شكل الفراغ المدروس بدقة، موجود كأثر بشري داخل التكوين... وهكذا يفصح لنا في هذه اللوحة؛ أن الإنسان المشار إليه لا يبتعد عنه شخصياً، فيقول: "هذه اللوحة تمثلني... إنها أنا، أنا المتروك في زاوية من هذا العالم، تماماً كتكوين الدماغ الذي تحجر وصار صخرة على وسادة... ولكن إن تأملت اللوحة قليلاً ستجد بصيصَ أملٍ ما زال يقاوم العزلة..." وهنا يأخذنا الفنان إلى ذلك الكرسي الصغير على الجانب الأيسر من التكوين، كرسي غير متساوي الأرجل، حاول الفنان موازنته من خلال قطع مضافة ساندة تزيد من الشعور بالتوازن، وما وجود قدح الماء فوقه إلا لتعزيز فكرة الاستقرار الذي يؤكده لنا ذلك الغصن الأخضر بداخلة. أمل بعيد، قد يزهر يوماً حين يصبح للغصن جذور وتدب فيه الحياة مرة أخرى. إلا أن هذا لا يتم إلا باتزان الكرسي واستقرار الماء داخل القدح، أو باتزان واستقرار الأرض أو العالم بأسره... إنها في الحقيقة حالة تنشد التوازن والأمل وسط الخراب، خراب الأرض وضيق المكان... هل هي أمنية، أم حالة نضال مريرة مع واقع مؤلم؟... سؤال تطرحه اللوحة وتجيب عليه في آن واحد من خلال تزاوج فكرتي "الألم والأمل" أو "اللوعة والولع"... العمل لا يخلو من مشاكسة، أو تحدي، كما هو الحال في أغلب أعمال هذا الفنان، حيث نلاحظ أن الصورة الراقدة على الكرسي والتي ينتصب فوقها كأس "الأمل"، هي في الحقيقة صورة لعمل شهير للفنان الهولندي جان فيرمير (1632-1675)  "الفتاة ذات القرط اللؤلؤي" أدخلها الفنان في صميم لوحته لتكون اعترافاً صريحاً بتأثره بفن وطريقة تنفيذ وتكنيك فيرمير، وهو أيضاً تحدي ذاتي واضح لقدرات الفنان الفنية الذي يعتمد الدقة في الرسم وكأنه صائغ مجوهرات محترف... الولع، والحب، والبحث عن الدهشة، قيم جمالية يتملكها الإنسان لتكون دافعاً حقيقياً للاستمرار، صحيح أن الفنان مولع بالرسم، ومحب له، شغوف به، لكن فن الرسم الذي توَلّع به لا يأتي بسهولة، هو في الحقيقة مخاض حقيقي، لا يمكن أن يخرج ويتمثّل أمام المشاهد، إلا واللوعة والألم تصاحبه.. وهنا تدخل المتعة في كلا الحالتين، فهناك، وبكل تأكيد، متعة خاصة يجدها الإنسان في اللوعة التي تصاحب ولادة العمل الفني...

قد يكون للسرير قصة في حياة الفنان، وقد يكون الحرمان وراء حضوره في الكثير أعماله، ورغم اعتراف الفنان، بأنه طالما حلم بامتلاك سرير في مراحل متقدمة من حياته، إلا أن المتابع لأعماله يمكنه تلمس ذلك التباين بين موضوعاتها التي تتراوح بين الاستضعاف والثورة. ففي اللوحات التي يكون فيها السرير حاضراً، تكون هناك إشارة للضعف البشري، وحين يختفي السرير من العمل تكون الإشارة إلى الثورة وحركة الإنسان والطبيعة وسعيهما نحو التطور والخلاص... 

الثورة، نجدها بشكلها الصاخب والواضح في لوحة " ثور... ة الحياة" لوحة بطلها ثور غاضب استعاره مهدي من الميثولوجيا الأسكندنافية التي تحكي قصة "جيفيون" التي حوَّلتْ أولادها الأربعة إلى ثيران لتحرث بهم أرض جزيرة شيلاند في ليلة واحدة، لتكون عند الصباح ملكاً لها. الثور في اللوحة يظهر برونزي التكوين ليشير إلى الأسطورة التي أصبحت تمثالاً، ويحدد بشكل الثور وحركته، شكل الرسالة التي يحملها العمل: "دعوة إلى سماع أنين الأرض وأوجاعها، دعوة إلى أعمار الأرض لا تخريبها كما يجري على أرض الواقع..." حركة الثور العنيفة والبخار المتفجر من منخاريه، وبوله، كل هذا يشير إلى ثورة عظيمة قد توازي ثورة الأرض وغضبها... الثور في حركته، كأنه يصارع شيئاً ما... ديناميكية الحدث والغضب الموجود في اللوحة بالإضافة إلى الرموز العديدة، تمنح المشاهد فسحة لتصور حجم الكارثة في حالة اتخاذ الأرض قرارها في تجنيد كل وسائل غضبها ضد الإنسان... البركان في عمق اللوحة يعلن وجع الأرض وهو يمتد ليغطي مساحة كبيرة من السماء فوق الأرض الغاضبة، وثمة مدينة في المسافة بين البركان والثور، ترمز إلى وجود الحياة على الأرض، ولكنها حياة مدمَّرة، وكأن زلزالاً حدث للتو معلناً غضب الأرض على الإنسان... العمل وثيقة احتجاج باسم الأرض موجهة إلى البشر، "كفّوا تعذيباً للأرض" وكأن الفنان يتبع الديانة المانوية التي تعتذر للأرض حين حرثها... والحقيقة، أن الناظر للوحات بشير مهدي غالباً ما يشعر بالبرد والخوف والوحشة، فهناك ماض مؤلم ومستقبل غامض تلوح قسوته قبل مسراته.. وبعض أعماله تحمل الكثير من المتناقضات... رغم التوازن الكبير الموجود داخلها... وهناك ثمة من يرى في أعماله طرق سريالية في التنفيذ، ولكنه يقول: "أنا لست فناناً سريالياً، لأنني أقف ضد التشويه دائماً.. والذي يجد بعض من السريالية في أعمالي، يمكنني أن أمنحه الحق إذا وجدها على شكل نصوص شعرية تثير بعض الأسئلة بطريقة سريالية... ولكني ومثل ما يفكر الفنان رينيه ماجريت (1898-1967)، أرى أن أعمالي رغم واقعيتها فهي تحتوي على الكثير من التجريد..."

ترى، هل يمكن للإنسان ممارسة اللذة في خضم الألم؟ يأخذنا هذا التساؤل إلى لوحة "الهروب إلى الظلمات" التي تسحب المشاهد في نظرته الأولى إلى تكوين فوتوغرافي لمكانٍ أو زاويةٍ بيت ترتكن عندها لوحة مهشمة! حينها ينتابه شعور بالأسف لتحطم لوحة فنية جميلة أو مغرية. إلا أن المشاهد سرعان ما يتلمس الدهشة حين يعرف أن اللوحة المهشمة ما هي إلا جزء من اللوحة الأم، هذا التناقض السريع بالمشاعر أو التدرج بتباينها هو في الحقيقة فلسفة العمل، التي تشرحها لنا عناصر اللوحة ورموزها فيما بعد... المكان بارد عتيق، حيث الرطوبة لعبت دورها بجدارة عالية، وهذا ما يفصح عنه انهيال طبقة الجبس (الجص) من على الجدار وظهور الطابوق بلون اللحم البشري، وكذلك هيئة الأرض، بوضوح تكسر أو تفتت بعض بلاطاتها ووضوح خرابها... الانتباه إلى طبيعة الأرضية سرعان ما تأخذ منحى آخر، حيث ثمرات التفاح المتناثرة، ثلاث ثمرات قدمتها يد من خارج المشهد حيث النافذة، يد عمدت على لَيّْ غصنٍ لتدخله داخل المشهد، هل هي يد الخطيئة، التي تحاول إعادة قصة بداية الخليقة؟ الإجابة على السؤال نجدها في اثنتين من التفاحات الثلاث. التفاحتان مقضومتان، وما قُضِمَ تم بصقه على الأرض، إذاً فهناك قصة سرعان ما نكتشفها حين نحوّل نظرنا صوب اللوحة المهشمة، فهناك امرأة عارية دخلت فضاء اللوحة أو عالم الخيال، بعد أن قدمت التفاحة لشاب كان بقربها "أغوته ليسلك طريقها" فما كان من الشاب إلا أن يخلع ملابسه ويرمها على الأرض ليدخل اللوحة بسرعة طمعاً باللحاق بالمرأة مما أدى إلى تهشم اللوحة، وسقوطه بعد أن أصيب ساقه الأيمن بأحد مساميرها. الدم النازف من الساق نشاهده على الأرض أسفل القدم التي ما زالت خارج اللوحة... إنها بالفعل ممارسة المتعة في خضم الألم، وأنها لوعة الولع الذي قاد الشاب وراء الفتاة ليدخل عالم الخيال عارياً، عالمُ مبهم مظلم، لا يظهر منه سوى موج بحر ورمل بارد حيث الليل قد أرخى سدوله منذ ساعات... ترى ما الذي يجعل الإنسان مجبراً على ولوج عالم أغرب وأقسى من عالمه الذي يعيشه؟... هل الرغبة في تعذيب الذات وتلمس أقسى حالات الألم، أم هي إشارة أراد الفنان أن يضعها أمامنا لينبهنا إلى أننا نسير في اتجاه خاطئ؟ خصوصاً وأن العمل يشير برموزه إلى الكثير من قيم الجمال والمتعة رغم آلامه الواضحة.

ليس بالشيء الغريب أن يعترف الإنسان بأخطائه، ولكن الغريب أن ذلك الاعتراف غالباً ما يأتي بعد أن يصبح خراب الخطأ، حقيقة ملموسة، فالبشرية عرفت العديد من الاعترافات، قد تكون أخطاء الحروب أكثرها كارثية وقساوة، إلا أننا لم نعرف يوماً بأن اعتراف كان قد أصلح الكارثة... ولكن، ماذا لو غضبت أمّنا الأرض وشنت حربها على البشر؟ ماذا لو تصورنا أن الأرض ضحية أولادها من البشر؟ أسئلة نابعة من ولعنا وحبنا، بل عشقنا للأرض التي باتت لوعتها تؤرقنا. لوعة ونذير كارثة نلمسها في لوحة "فكرة خاطئة"... فكرة ولدت، حين تقمص الفنان روح طفل "كبير" راح يفكر مستخدماً براءته ونقاء روحه: "منذ مئات السنين والإنسان يحفر الأرض، يعبث بها أحياناً، وأحياناً أخرى يغوص عميقاً بداخلها منقاداً لرغباته وأحلامه بالثراء. يفجّرها ليستخرج منها "فَرِحاً" شتى أنواع الخيرات دون أن يلتفت لآلامها! ولكن، أليس من المنطقي أن تكون هناك فراغات كبيرة داخل رحم الأرض حين يُنتزع من أحشائها مادة ما؟ ثم، هل ستبقى تلك الفراغات على حالها دون أن تملؤها مادة أخرى؟"... هنا يتقد ذهن الطفل فزعاً حين يتصور بأن مياه البحار ستنسحب إلى الداخل لتملأ الفراغات، فتختفي من على سطح الأرض، ثم تنكمش الأرض كعلبة معدنية فارغة!! إنها بالفعل صورة مفزعة وإن كانت محض خيال طفل تجاوز الخمسين.

العمل الذي يدعونا فيه الفنان إلى الاعتذار من أمنا الأرض والانتباه إلى آلامها، قبل وقوع الكارثة، يعود بنا إلى رمزية السرير، الرمز الذي يشير إلى ضعف الإنسان وهوانه أمام قوة الأرض وجبروتها، رغم كل ما يملكه من قدرات... السرير الوثير يشير لنا بثراء الإنسان المغيّب من المشهد، لكنه ثراء خاوي، حين تكون الأرض خاوية. فجميع رموز الحياة التي يتضمنها العمل هي حياة كان لها حضور في الماضي، رأس الخروف الظاهر على شكل جمجمة، وكأنه تحفة فنية لكائن منقرض تم الاحتفاء بها من خلال تعليقها على بابٍ عتيقة لا يمكن غلقها، فكل الاتجاهات مفتوحة بوجه الخراب، وصورة البحر الذي صار هو الآخر من الماضي، حين اختفى ليدخل باطن الأرض ويملأ الفراغات داخل رحمها، ويتحول إلى صورة في الذاكرة، تلك الصورة التي يحتضنها الجدار المظلم، رغم حركتها، حيث الموج المتلاطم والباخرة الشراعية، إلا أنها تبقى مجرد ذكرى لشيء جميل... المكان خارج "الغرفة" يثير في روح المشاهد خوفاً من التيه، فلا حياة هناك سوى آثار بحر وسماء غير صافية، فطبيعة الأرض الظاهرة عمد الفنان فيها إلى تقريب شكل تربتها من حركة مياه البحر لتنسجم مع الصورة الداخلية للبحر على جدار "الغرفة"... أما الزاوية اليسرى من المشهد، وحركة الأرضية المتجهة نحو هاوية أو حفرة عظيمة، فهي الإشارة إلى تكور الأرض على نفسها، وبداية تهشمها إلى الداخل نتيجة الفراغات الهائلة التي أحدثتها حفريات الإنسان وعبثه بطبيعة الأرض وتكوينها.

إن لفكرة اقتناص الولع ومتعته من داخل اللوعة، تؤدي بنا، بالضرورة، إلى تأمل سلوكنا اليومي وفلسفة الحياة التي وجدت لتبقى، كما الإنسان تماماً. فما من كائن وجد في هذا العالم إلا ليكمل ويساهم في ديمومة هذا العالم، لا في خرابه. ومن هنا نجد أن مساهمة الفن التشكيلي وتوظيفه لخدمة الإنسان والطبيعة، هي في الحقيقة وثيقة مضافة إلى العديد من الوثائق والفنية والعلمية والفلسفية التي تدعو إلى أعمار الكون باستخدام قيم الجمال وفلسفته.