المكان الخالي

عاصم عبد الأمير

ثمة مباحث يشتغل عليها الفنان العراقي بشير مهدي تمثل بمجموعها بنيات تنهض بكلية الرؤيا، منها الأمكنة الضاجة بالجمال والفراق والوحشة التي تقطع نياط القلب، والانتظار الذي لا يفضي إلى شيء، والإنسان الذي يرى ولا يرى نبرات الوقت. شفرات من هذا النوع يراد لها تصعيد الشكوى ومرارة الإحساس بوطأة الغربة، فالأمكنة برغم هناءة العيش فيها، تبدو في جوانب عدة جحيم لا يطاق، لذلك الأشخاص لم يمكثوا طويلا فيها، فهي أقفاص يجري فيها اغتيال السعادة والرغبة في امتلاك الحرية.

بشير مهدي يبدأ خطاباته من المكان الخالي كمركز طرد قوي ومصدر للضجر الذي لانهاية له، لهذا وبرغم وفرة الجمال ومصدر الراحة التي يشي بها المكان غير أنها ليس إلا فضاء تخنقه الجدران، لذا فليس هناك من فرصة مؤاتية لممارسة حريتها، فالجدران والأرائك والكراسي والخزانات والسلالم النظيفة لا تصنع إلا معاناة وحياة مهجورة ليس لها شبيه إلا في المنافي، فالمكان عنده دال على مفارقة ومبعث التعاسة اللانهائية، ثم أنه وفي جانب واسع النطاق يحتفظ بسريته.

الأمكنة يغمرها الضوء والظلال في تجادل يوهمنا بأننا إزاء فردوس غير أنه ليس له وجود إلا في خيالاتنا المصادرة. ثمة صمت يجلجل باسطا نفوذا غريبا في أرجاء المكان، مع هذا ثمة نوافذ تطل على المطلق، لعله الخلاص، من يدري؟، غرف ناعمة الملمس غير أنها ترشح بالفناء، لهذا فإنسانها مغيبا، حتى وإن كان له وجود فهو رمزي أكثر مما هو حضور فيزيائي. لهذا نحى بشير في أحدى لوحاته إلى نفي المرأة في مكانها، مع أنه حين تكرر المشهد أحضرها قانطة، مستسلمة وهي تمعن النظر إلى الضوء المنهمر على طاولة زرقاء عارية تماما.

إن غرف بشير برغم العناية في محتوياتها وجماله الظاهر، تخفي وجها وأنينا بالإمكان التأكد منه حين نرقب العزلة التي تدك المكان، فيما يحرسه الضوء دون كلل. غرف يخيل إليك إنها الجنائن بعينها، ويجوز لك أيضا أن ترى فيها صناديق مليئة بالغربة والغياب. الفنان في شفراته هذه يستمد أصول لعبته الشكلية من طاقة الحس في إعادة قراءة الواقع كمرجع والعمل على تحميله قدرا جديا من طاقة الرمز. دون أن يدع شاردة أو واردة تفلت منه، فرسوماته التي يطبعها بحساسية عالية تحف بها مشاعر إنسانية لاهبة لا تخطئها العين، فالمكان عنده ليس إلا ما يخلقه الإنسان من سرية الوشائج مع الأشياء، فهي تمارس دورا بالنيابة، الأمر الذي يجعلها تترك انطباعا عن حجم الأسى والضياع، والانتظار الذي يطل على اللاشيء، الأشياء لديه تحمل ماهية ووجود مغاير لماهيتها حين تبدو محض أشياء لا معنى لها. فالفنان لا يستهدف فيما يبدو، مماثلة الموجودات مع إنها في الواقع ليست إلا كذلك. وتبدو ثمة إجراءات بصرية يجريها على جسد المكان ليجعل منه في النهاية محض منخفض مظلم لاستلاب حريتنا. إنه يبحث في جانب صريح على حقيقة الرسم حين يماثل الحرية.

غرف بشير المرتبة تحمل هويتها دون تلفيق، وحين تطيل النظر عبر نوافذه المشرعة يتأكد لك أنه ثمة عشاقا ما كانوا يسكنون تحت سقوفها، لكنهم قد اختفوا خلسة دون أن يتركوا لنا ملمحا دالا عليهم غير أنهم غابوا مع أحلامهم، نحو فضاء الحرية اللانهائي.