نظرة في أعمال الفنان العراقي المغترب بشير مهدي

حامد الهيتي

كان من جراء النزعة التسطيحية في الفن أن أصبح للمكان بمعناه الشمولي وبمفهومه الاشتقاقي الرمزي .. وأصبحت للعلاقات به قيم مرتبطة بمفاهيم تنعكس عليها ومنها مواقف اجتماعية واضحة، وحين نتحدث عن الفنان التشكيلي العراقي (بشير مهدي) يمكننا أن نقول: على الفنان أن يبدأ بمحاولاته الجادة والرصينة في التشبث بكل الوسائل التي تؤدي إلى عملية الخلق والكمال الفني .. عليه أن يبدأ .. ولكن كيف ؟ ولماذا ؟ أجيب عن هذا التساؤل بنفسي وأقول : يبدأ لأنه طائر مسكون بهاجس الحرية، ولنقل عن أعمال الفنان بشير أنها محاولة عقلانية في التأصيل.

وليس تجاوزا للإنجاز الإبداعي العريض لبشير مهدي عندما أتحدث عن أعماله .. ذلك أن هذه الأعمال فيها من عناصر الإبداع والشد ما يوحي بإمكانية الفكرة المجردة التي تدفع وتحرض على الاكتشاف. وليس غريبا أن تتميز لوحة ما من بين حشد من الأعمال المزدحمة على كل الجدران(الصديقة)التي اختارها بشير مهدي.. فقد عبر هذا الفنان في لوحته هذه عن إمكانية تحرره من أسلوبيته المعروفة .
في لوحة بشير مهدي الجديدة يترك وظيفته كرسام ليتحول إلى منقب آثاري ليكشف لنا عن موجودات تاريخية..عراقية أصلية.. لقد اهتم - بشير - هنا بتوازن اللوحة وتناظر كتلتيها: الأولى الأثر الذي يزيح عنه تراب الزمن والثانية التي تمثل عمق اللوحة .
أن قوة الخطاب التشكيلي الذي يعرضه بشير مهدي في أعماله السريالية الشكل والمضمون والتهديف تكمن في إبداع بشير الذي يمضي بخبرته وتجربته نحو تعميق خطاباته التشكيلية في الحياة الثقافية المعاصرة من خلال المحافظة على أسلوبيته متجاوزا بذلك كل الاعتراضات النقدية التي تحاول تهميش هذا التكريس للأسلوب .أقول: خلافا لباقي الفنانين التشكيليين يجد الفنان.. السريالي نفسه في وضع يفتقر إلى الحرية المطلقة في تناوله لمواضيعه الفنية المتباينة والمختلفة من ناحية الطرح الموضوعي.. ولهذا يظل ( الخط والكتلة ) يمثلان العنصرين الرئيسيين في البناء التشكيلي لديه.. ونجاح هذا الفنان أو إخفاقه في هذا المجال ستقرره في النهاية تلك الطاقة التخيلية والبراعة الفنية اللتان يقدر الفنان أن يجسدوهما في عمله النهائي. يلعب بشير مهدي على التجاذب القديم بين الطرفين، فرح كبير عال جدا وألم عظيم.. وضوح ظاهر وغموض معقد.. وكل تطرف يوحد لطرفين حيث التشابك توجد هناك اللحظة التي تفصل بين الفرح والألم تكاد لا تدلك أو تلمس.. فجأة ..تنقلب الابتسامات إلى جراح .. أو يضيء الليل من شدة سواده. علينا إذن أن نهتم بلوحات - بشير مهدي - بوصفها جماليات لونية وشكلية وتجانسية وموضوعية وتمتلك استنفاراتها الحلمية الشفيفة وتعبر فن موضوعات حياتية مؤجلة تستطيع أن تمنحها الثقة والطمأنينة والأمان النفسي العارم. انه يعتني بالعلاقة، تنه نيابة عن عالمه الداخلي، أعماقه لا شعوره الفردي أو لا شعوره الجمعي.. يصنع خطابه، فيتحول الرسم إلى مسرح درامي متحرك يعلن عن إشارته ورموزه وبالدرجة الأولى عن تعبيريته فتاريخ الرسم هو التضاد والتوافق بتحولات الأفكار والباعث إلى مرئيات، بصريا تشخيصات، ولغة مزدوجة الوظيفة فالفنان ينتقل في الجحيم - داخل نصه الفني – في إشكالية الوجود في الاغتراب وينقلنا من خراب.. انه يلتقط أصداء التصادم بخيال له مرجعياته ذات الجذر الواقعي شبه المباشر ، كما في الرسم بصورة عامة وليس بصعوبة يعثر الفنان على مفرداته وتحول المرئيات إلى أشياء وعناصر تشكيلية تبقى ذات صلة قائمة بأسبابها :انه يخترع عالما مشتركا ومتدخلا لا يخلو من هاجس (الرواية ) ونبضات الشعر، وأصداء الموسيقى لا يخلو من البصريات – كعلامات – ومن المعاني كأفكار داخل بنيته التعبيرية .ثمة فجيعة واستثناءات تغدو قاعدة في تجاربه التخطيطية .. فهو يرسم انعكاس الواقع –المشهد العريض للطبيعة، والإنسان – في وعيه : يرسم وكأنه يتكلم بصمت الخطاب .فالفنان لا يتذكر إلا انه يحدق في المرئيات.. فالأبدية تنبعث بالغة المرارة.. الأمر الذي يجعل فنه نقديا، متمردا، في حواره الآخر (الكون=الطبيعة=الإنسان=الذات) عبر بنية النص الفني لان الفنان لا يلهو، ولا يتنزه، وكأنه قد تخلى عن المنطق اللذة والمؤانسة إلا لذة التقرب من المشهد المر، الواقع في تجليه المنفي – المقذوف – الشائك، والرمزي. إننا لسنا أمام فن ( القسوة ) كمسرح اللا معقول والمعروف ( أو القديم بحسب الموضوع المستعاد). فعالم بشير مهدي .. هو بالضبط عالم لوحته المتشابك الرصين.. انه عالم فريد من نوعه. عالم ينمو بصعوبة. ويتفتت بصعوبة ممزوجة بالحلم والخوف مقتربا من فجر يولد في بذرة خضراء متفتحة لشمس الوجود الساطعة .. وملتصقة بليل أسطوري حالم يسبح في ظلمته الزرقاء طائر غير عادي.. انه طائر الفينيق الأسطوري الذي يضم بين جناحيه سرا لا يعرفه احد غير - بشير مهدي - نفسه.

مدن قاحلة، تسكنها الدهشة ... ويسكنها الرمل .. أناس مجهولون قادمون من تواريخ بشرية معزولة يتهامسون فيما بينهم ثم يصمتون منحدرين إلى قاع لا قرار له ليسكنوا مدن الفنان في خزف - بشير مهدي - العاشق ويترك قلبه معلقا بين سماواتها الفسيحة وسماوات أخرى رحبة .. هكذا وبلمح البصر يحمل الناس عوالمهم ويقدمونها إلى كل غرباء العصر .. ومع ذلك تجيء المدينة بكل عريها وجمالها الطينية الحادة. والهادئة هاربة من نظرات الغرباء.

*     *      *