لوحات تجسد لغة الغياب

قاسم عبد الأمير عجام

صور أربع للوحات أربع، رسمت بالزيت على “الكانفس” بمقاييس شتى، ولكنها أكثر من ذلك. فهي متعددة فيما تتركه في المتلقي، وهي متعددة في محتويات اللوحة الواحدة. ففي المتلقي تبدأ اللوحة تتناسل أو تتصادى تأثيراتها على صعيدين؛ أولهما الإدهاش الذي تحدثه مهارة التحكم بالضوء واستثمار مساقطه للكشف أو رسم الظلال. وثانيهما إنطاق المكان بلغة الغياب. واللوحات في الحقيقية هي رسومات أو تصوير تعتمد منطق الفوتوغراف في تحديد الشكل وأبعاده ولكنها تشحن الشكل في التعبير من خلال العلاقات التي يقيمها الرسام بين محتويات اللوحة. وهي علاقات يلعب استثمار الضوء والظل فيها الدور الأساس في تكوينها وشحنها بالمعنى وبالتالي في تكوين مفردات لغة المكان. وقد أثث الفنان بشير مهدي مبدع هذه اللوحات، لوحاته بالعديد من التشكيلات والعلاقات الداخلية بطريقة ترمز إلى إنسان غادرها أو يوشك على المغادرة ولكنها متروكة بهيئة تنطق بما أسميناه لغة الغياب، وهي تكاد لما في اللوحة من ظلال وانكسارات والتواءات في الضوء أو خطوط الأشكال توحي بالأسى والفقدان والغربة، أو بعزلة مفروضة، فثمة سرير ينزوي بين جدران وزاوية الباب تحت نافذة مفتوحة أو مغلقة.. وفي الحالتين ترك الفرش مهملاً بعد المغادرة، وثمة، غير الفراش، أشياء أهملت هي الأخرى.. تفاحة مقطوعة تدحرجت على الأرضية أو كتاب ملقى على طرف السرير. والسرير ضيق يتفق ومنطق الاستيحاش الذي تنثه اللوحة، أو حتى وردة سقطت على الأرض وفقدت بعض تويجاتها في لوحة هي الذروة في التعبير عن غربة الإنسان حيث تعرض جمجمة بشرية في قاعة للعرض أبدع الفنان في تفاصيلها إلى درجةٍ متناهية. وهذه اللغة المؤسية ما كان لها أن تتكون وتنطق لولا الإبهار في دقة التكوين. وهي دقة تنبثق من مهارة استثمار الضوء كما أشرنا. فالنوافذ المفتوحة على الفضاءات ليست مجرد مصادر للإضاءة وإنما إشارات لأبعاد تمنح اللوحات أعماقاً تمتد إلى أمكنة أخرى، وتحيلنا بدورها إلى الغريب المغادر الذي يفر إلى الطبيعة رمزاً لنقاء مفقود. ففي كل اللوحات شيء أو مساحة من تجليات الطبيعة.. إن لم تكن حقلاً أو شجرةً فلوحة داخل المكان تجسد الطبيعة. وفي تلك الامتدادات تبلغ دقة التكوين ذراها إذ تستحيل إلى نوع من نمنمةٍ تثير الدهشة ولذا تمشت في المرمر عروقه، وفي المنحوتات الجدارية داخل اللوحة حياة وحركةً، وفي نقوش الأفرشة والجدران، أو النوافذ ما جعل اللوحة الواحدة تشكيلاً من لوحاتٍ عدة لا يمكن للمعنى أن يكتمل إلا باستنطاقها جمعياً.

يسمونها مرحلة ما بعد الفوتوغراف، وهي كما تلخصها أو تجسدها هذه اللوحات مرحلة شحن الصورة بحرفيات التشكيلي ورسالته التعبيرية، فليس الشكل المعطى في أية لوحة إلا موقف الرسام. تلك هي لوحات - بشير مهدي - التي شارك فيها في معرض مشترك تجول في أكثر من مكان في العالم، قالت لي ما قالت في صور صغيرة فماذا كانت ستقول لي لو رأيتها على الكنفاس؟!.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ناقد عراقي معروف أغتيل مع أبنه عام 2005 على طريق حلة - بغداد