فلسفة الغياب في لوحات بشير

كامل حسين

يتوهم من يعتقد أن - بشير مهدي - فنان كلاسيكي من الدرجة الأولى أو هو استمرار لدافنشي ورافائيل. ويتوهم أيضا من يظن أن لوحاته مقاطع طولية أو عرضية لفن الفوتوغراف المتقدم أو المعاصر. إنه لا هذا ولا ذاك، إنه بينهما تماما ومختلف عنهما تمام الاختلاف.

الغياب في الأدب والفن واحدة من معضلات التاريخ المعاصر، إنها فلسفة تدمير الذات من أجل الحضارة والتاريخ والمستقبل. أين رامبو الذي ألقى حجرا كبيرا في تلك الفلسفة؟ ما كان يرغب أن يكون شاعرا كبيرا بل إنسانا كبيرا، فوجد نفسه في الاثنين إذا صار صفعة للشعر والشعراء على مدى التاريخ. وقبله فعل ذلك أنجلو فأصبح موسى أو العذراء. لم يبقَ من رامبو إلا جحيمه ومن دافنشي إلا ابتسامة موناليزا ومن كَلكَامش إلا سر خلوده الذي أودى بحياته، خلاصة القول أن الوجود هو الباقي والإنسان زائل لا محال، وتلك معضلة بشير تماما (سر الوجود ومعناه). فهو يحاول أن يضع حجرا كريما في تاريخ الفن المعاصر ليمر منه هو وغيره من السائرين على هذا الدرب الشائك والطويل.

المكان في أعمال بشير أشبه بالمتحف المهجور، أو أنه معبدا له صيرورته المقدسة بحكم براءته، أي وجوده وماهيته، وهذا النوع من المعابد لا يحتاج إلى كهنة وقديسين، إنه يحتاج إلى رسامين لهم قدسية المكان والزمان معا. في كثير من الأحيان تحيل لوحة بشير إلى دافنشي ورافائيل مع الاحتراز الشديد لكنها تمر أيضا في بوتقة فرمير وتخترق وحشة دي لاكَرو عبر سريالية ماكريت الموميائية وتقنية دالي اللعينة. في لوحات بشير البراءة تبحث عن البراءة، وحشة الخارج ينقلها إلى الداخل حيث صمت وجبروت الأشياء الأزلية الباقية، بينما الكائن في زوال. الإنسان لدى بشير مولود في معبد الطبيعة، لا بل في الهواء الطلق، فالأبواب والشبابيك في أروقة بشير مفتوحة تتنفس من الخارج. المكان لديه صيرورة أولية منذ ملايين القرون، والإنسان عنده لا يحتاج أكثر من حاجاته البسيطة وملابسه الشخصية لأنه محكوم بفجيعته الأزلية(الولادة والموت). أشياءه الصغيرة شامخة ومهمة (الطاولة، اللوحة، الكرسي، أرضية الرواق) كلها حاضرة كما الأكل والشرب. في لوحات بشير الأشياء حاضرة تماما والإنسان غائب، وإن وجد فهو مسلوب الروح هائم، يتجلى في الغائب(القدر) وهذا هياما إيجابيا بحكم رؤيا الفنان إذ أن لديه آلاف العيون تتجمع في لحظة واحدة لتصبح عيون ميدوزا التي تحيل الإنسان إلى حجر. الطبيعة لدى بشير تتناسب تناسبا طرديا فإن غابت حضر، وإن حضرت غاب. الإنسان في لوحاته ما هو إلا رمزا أو رقما من الأرقام الحاضرة الغائبة، إنه حصيلة التراكم الكمي الذي يخلف نوعا خاصا يتحول إلى كم جديد من تلك المعادلة التي لا فرق فيها بين الماضي والحاضر والمستقبل، إذا كان الكائن فعلا كائنا معاصرا يعي اشكاليته وفجيعته التاريخية الكبيرة.

يختنق المكان في لوحات بشير ثم يتنفس عبر شبابيكه وأبوابه المشرعة على الخارج والتاريخ. إذ أن فنه يتعبد في محراب الفن، ففي كثير من خلفياته يتجول مانيه أو رويفر أو دي لاكَرو. إنهم أصدقاءه الحميمين لذلك نرى مساقط النور تتخلل أعمالهم لتحيلها إلى فضة ساكنة. إن لوحات بشير متحف شمع ينتظر أن تدب به الحياة، أنها رؤيا موميائية، إذ كيف أن صمت زجاجة يشبه صمت الإنسان؟ كيف تتوحد الأشكال؟ كيف يمكن للساكن أن يتحد بالمتحرك؟ أليس هما نقيضين؟. تنوجد الأشياء عند بشير بجلال وقدسية كم لو أنها في حفل جنائزي. لا أعرف ما هو سر السكون في لوحات بشير لكني أعرف أن كل حركة مصيرها السكون عندما يصرخ الطفل أو يسكن تماما عند ملامسة حلمة ثدي أمه، ربما يكون السكون لدى بشير صراخ لا تسمع نحيبه لذلك نراه سكون. سكون اللوحة يذكرنا بسكون دالي وهو خيط مشترك أو هو مس سريالي، إنه الأبدية، إنها القدسية التي ينشدها الفنان.

باختصار أن لوحات بشير أشبه بتمارين اليوغا بالنسبة للمشاهد، فهي تحتاج صمت وتأمل طويل، وأن البشرية بحاجة إلى ذلك النوع من التمارين الروحية.