بعد أن لقّنَتنا السرديات حقيقة أن المكان يحتضن الحادث من دون القدرة على صنعه، نقف اليوم في فسحة الخطوط والألوان والأفكار نتأمل قدرة المكان في بناء الحادث. ومع أننا لا نضيف شيئاً جديداً في قولنا أن اللوحة فنّ المكان، لكننا في تجربة الفنان بشيـر مهدي نلمس أفكاراً وذكريات وأساطير وهي ترسل إشارات ممكن إدراكها بصرياً وحسياً تعكس دور المكان في صنع الموضوع. ففي المنفى، الذي وَسّعَ من مساحة حريته ومصادر ثقافته، أضاع بشير مهدي الكثير من مفردات الاستقرار الاجتماعية لغرض الوصول إلى اللوحة التي ملأت رأسه، ولذلك فإن الانشغال بمتن المكان فنياً والعيش على هامشه واقعياً معادلة ليست بجديدة في حياة المنفيين، فبرغم وحشة الهامش إلا أن هناك كثر ينتمون إليه بفضل الظروف السياسية والاجتماعية الطاردة للثقافة والإبداع.
لوحة بشير، التي تفتقد البساطة في التصميم، تنشد الموضوع المعبر عن عوالم الفنان وتلح على إبراز المكان بدقة وعمق كبيريّن يتجلى ذلك في التأثيث وقلة الألوان ومساقط ضوء الظهيرة التي تتيح لنا التقاط اللحظة الموغلة في فراغ الجدران. الفراغ عنده يستدعي لون الأرْض الذي يمتلك طاقة تعبيرية لتجسيد الصمت وقدرة على الإيحاء بالجانب الدرامي للحكاية، فيغدو الفراغ في النهاية مظهراً خادعاً للصمت ومتاهة للتأمل والأسئلة التي لا تكف عن العودة للبدايات. يقدم الفنان بشيــر مـهدي نفسه عبر أكثر من لغة وذاكرة وثقافة، وهو ما دفع بالكثيرين للتوقف عند موضوعاته وأمكنته المقطوعة الجذور بالبيئة والتراث المحليّين، من جانبنا لا نستطيع الجزم كلياً بانقطاع الجذور، خصوصا وأن أي خروج عن السائد يضع صاحبه هدفاً للتشكيك والأسئلة لا ينتهيان. ففي لوحته الأخيرة( الهروب في الظلمات 140× 160) التي يشيّد موضوعها على خليط من الاستجابات الشخصية والأفكار الفلسفية والدينية والجمالية المتضمنة أسئلة وأسرار ومحرمات، نجده مأخوذاً بالمكان ويؤثثه بمزيج من ذاكرات وثقافات مشبعة بتلك الأفكار البسيطة والعميقة التي تغذي حياة الفنان وتجعل من المكان الافتراضي مرتبطاً بنزعة المفهوم لواقع غائب وقد تم إعادة إنتاجه مكانياً من دون اللعب على تغريبه. موضوع اللوحة ليس جديداً، علاقة الثنائي بتفاحة الخطيئة في عالم مُتَخّيل. إبهام في وضوح الجسديّن العاريين في الظلمة وهما يلاحق أحدهما الآخر، ففي عمق الظلمة دائماً هنالك متسع للخطيئة. الآخر يستمْرئ العُري ويتبعها في الظلام بخطوات تؤرخ لبداية الخَطِيئَة تاركاً نظراتنا معلقة على حمرة التفاحات المتناثرة في المكان وبنطلون الجينز والقميص الأبيض. انه خلع ملابسه وارتدى لعناته مقتحما الظلمة باعتبارها غواية المحبيّن، خلف المرأة التي سبقته إلى العالم الآخر، اللوحة التي تمثل بدايتها البحر ونهايتها الظلمات. أنه تَبـِِعَ وهماً ودخل خلفه ليرتطم بالجدار ويجرح ساقه البرْواز المكسور، ويبقى ساقه في العالم الأول بينما نلمح من الجسدين في العالم الآخر مؤخرتي رجل وامرأة يملآن الأرض محرمات وفضلات. ترك خلفه قطرات دم شبهة بحمرة التفاحات على أرضية المكان الذي افترشته مفردات قليلة لم تتقاطع دلالاتها بل توزعت على عالمي الخطيئة والطهارة التي تحدثنا عنهما الأسطورة بعيداً عن الاحتفال باليومي والمألوف، باعتبار أن اللوحة التي تتخذ من الأساطير موضوعاً غالباً ما تحتوي إشارات مبهمة عن مواضيع كونية. فخيط الغواية المتسلسل من غصن شجرة التفاح الذي تلوّح به يد شيطانية من النافذة ثم حفنة تفاحات توزعت بعناية الأرضية، تفاحة مكتملة النضج وأخرى قضمت على عجل ورميت بين ملابس العُرْي والثالثة مقشّرة بعناية ترمز عند الأوربي إلى حِسبةٍ أو مشكلةٍ لم تنتهِ بعد، وقد قدمت التفاحة على بلاطة مخلوعة من أرضية المكان، ثم إبريق ماء الطهارة وغصن شجرة الخطيئة وملابس العري، هذه الرموز التي نراها ونتحدث عنها لم تكن إكسسوارا أو ضحية للتجريد بقدر ما هي كشفاً لحيثيات الغواية استمد الفنان عناصرها من التاريخ والفلسفة والأساطير، وقد أخفت الكثير من أفكار الفنان التي لم تظهر في اللوحة كما أخفت ملابس المرأة.. الوهم.
المكان لا يختصر اللوحة. وهو عند بشيـر مهدي ليس أحجاراً وجدران بل حاملا لحيوات وترميزات وخربشات وذكريات بقيت موضوعاً جمالياً غير منفصل عن التكوين الحسي والشكلي للوحة، أعتمد في بنائه مرجعيات مختلفة الجذور الثقافية. وقراءة اللوحة (الهروب في الظلمات) من اليمين إلى اليسار تبدأ بشباك صغير ويد تلوح بغصن الغواية يطل على درج صاعد إلى مكان مظلم. وحقيقة هذا الدرج الذي ظهر في اللوحة كجزء من تشكيل المكان، أنه جزء من بيت في مدينة الديوانية بوسط العراق كان سجناً مهلكاً في بدايات النصف الثاني من القرن الماضي كان الفنان بشيـر مهدي يزور فيه والده المسجون حاملا الطعام والملابس، وبعد سقوط الصنم عاد الفنان إلى العراق ووجد أبن أخيه الصغير وقد أصبح رجلاً يسكن ذلك البيت نفسه.. فهل هنالك من مصادفات ؟ أم أنها حياتنا الأكثر غرابة من خيال الفنان. وإذا كان الدارسون قد قسموا الأمكنة إلى أليفة ومحايدة ومعادية فإن السجن من بينها الأكثر إساءة للكرامة الإنسانية ويحمل بعداً اجتماعياً غائراً في النفوس استحضره الفنان من صندوق الذاكرة، هذا يعني أن بشيرا لا يشيد لوحته على الارتجال ولكنه يستعين بالمرئي والمتخيّل والمُستعاد لتصوير أفكاره ومشاعره الغائرة في طبقات الذاكرة بعد أن بنى النسيان عليها طويلا. ومن هنا نلمس اتجاهاً توليفياً لبناء اللوحة من أمكنة وأزمنة وثقافات مختلفة، يترك باب الافتراض منفتحاً على متعة الفهم. وفي الحقيقة فإن الدرج كمفردة تشكيلية ظهر عند الفنان في أعمال كثيرة، وفي دلالتيّن مختلفتين إيجابية (الدرج) وسلبية ( الدرك) ارتبط كل منهما بطبيعة موضوعه.
في مرحلة من تاريخ العراق السياسي والثقافي ابتلينا بورطة الأحزاب، كان فيها الموضوع في العملية الإبداعية قبل أي شيء، وأحياناً كل شيء. وعندما تغّيرت الرياح غادرنا المكان بعد أن كسّرنا الأدوات والمفردات وسحنا في دهاليز القرية الصغيرة ناشدين التجريب تحت أضواء العولمة. الفنان، في الغالب، يأمل من مشاهديه فهم اللوحة على أن يرتبط ذلك الفهم بتبسيط العملية الفنية وتغييب العناصر الأخرى. أن عملية الفهم بقيت فضولا إنسانياً متوارثاً وجزء من تقييم العمل، فاللوحة عندما تكون مفهومة أو غير مفهومة، مفرحة أو محزنة إنما هي تعبر عن مرحلة معينة في تكوينها تعكس متعة العين وهي تلتقط خيطاً من تلك الخيوط التي تضئ قيمة العمل، من دون أن يقود ذلك إلى اطمئنان الأسئلة وانطفاء الفضول. كثيرون انشغلوا بالأفكار إلى جانب العملية الفنية، وتعاملوا مع الموضوع على أنه ليس بالضرورة فناً مفاهيمياً في اليومي والجماهيري، وأدركوا أهميته في ترتيب أسئلة الفنان في إبراز معاناة الفرد أو الجماعة. ولكن تلك الأفكار الدينية والسياسية والفلسفية، تتغير دلالاتها عبر مرورها بمصفاة الفنان وأطراف أنامله متجاوزة الزمان والمكان. وبشيـر مهـدي من الفنانين اللذين يعطون الموضوع أهمية كبيرة، ولذلك فإن رؤيته للمكان وتأثيثه بالرموز واستخدامه للون والضوء، يهدف منها الوصول إلى اكتمال فكرة الموضوع. واقعية بشير الفنية تتمثل في الكشف عن موضوعات إنسانية وطبيعية بعيدة عن البطولة والطرافة والعقلانية، ولا تختزل الشكل في تركيزها على مفردة معينة، وهذا ما نلمسه في تطور وتنوع أعماله الفنية في الأعوام العشرة الأخيرة. فلقد كان الفنان بداية منشغلا (مكانياً) بالفراغ والغياب، بالضوء والظل للإيحاء بكثافة الصمت وتصعيد المشهد الدرامي للأماكن المختفية، تطلب ذلك مساحات لونية لجدران يتباطأ فيها الإيقاع، والابتعاد عن المبالغة في تأثيث المكان (كرسي عتيق وجده في الشارع اتخذ مكانه في لوحات كثيرة أو شباك مشغله الذي ظهر في أكثر من لوحة) ووجود الأبواب والشبابيك المشرعة دوماً على هدوء الطبيعة وخضرتها، إلا أن صمت البيت المتوتر هو غير الصمت المبهج لأشجار الغابة.