في التجارب الفنية التي تقدم بها الفنان العراقي "بشير مهدي" نجد ذلك الترابط الموضوعي بين الشعر واللون والفلسفة والموسيقى. فقد لازم صورا حية وسهلة الانقياد لفهمنا، إن اشتغاله الفني يبتدئ من اهتمام هذا الفنان بفنون عصر النهضة وطبّعت صوره المستلة مواضيعها من طبيعة المشاهد التي نألفها في تجاربنا البصرية المعتادة. غير أن الفارق هو في التوليف الصوري وفي إنشاء الموضوعات المركبة، وفي اقتراح الصيغ المثلى في تغيير الاحتمالات الشكلانية للأشياء المرئية، بتغيير احتمالاتها المكانية على نحو مثير بحيث أنها تخلق شعورا بالارتحال إلى زمن لا يشبه زماننا. إنه عالم الأحلام، وأول هدف مركزي يرمي إليه "بشير مهدي" هو اجتزاء مشهد داخلي لمبنى قديم في طرازه المعماري ويشبه إلى حد ما طراز المباني في العصر القوطي، حيث الأعمدة المتراصفة والواجهات المستديرة والأرضية ذات البلاطات المرمرية والجدران الواسعة والسقوف العالية، لكن طبيعة هذا المبنى تحظى بالأناقة والنضارة وكأن انفتاحه على الأضواء وسطوعها معد أصلا لأغراض الرسم فحسب. فكل المشاهد التي يهدف إليها "بشير مهدي" منظور إليها وكأنها في طابق علوي من المبنى، وأن ثمة فرقا في المستوى البصري مع الأرض، وأن لذلك صلة بفلسفة العلو في المفاهيم والعقائد الشرقية وتتصل بفكرة الارتقاء، حيث أن كثير من الفنانين المعاصرين ينظرون إلى الأشياء بعين طائر.
لقد استطاع بشير أن يلعب مع المتلقي لفنه لعبة الأوهام البصرية على طريقة الألوان، والخطوط والوحدات الصورية، فأسلوبه الفني الذي يعتمد على محاكاة الجوهر أو المحاكاة التوليفية الانتقائية، والذي يعني مرة أخرى الإمكانية الفردية في رسم ملمس للخامات المختلفة، ولتحليل ألوان الأفق البعيد الواقع تحت سلطة المنظور. إن جل محاولاته هي لإكساب أنساقه وتصوراته وصفا دقيقا عن الأبعاد المكانية واستحالاتها الدينامية. ويبدو لي أن أسلوبه في المحاكاة لم يكن أسلوبا نمطيا أو تقريريا لأنه يحاول الدمج الصوري بطرائق ابتكارية يستلزمها التصميم النهائي للعمل الفني، حتى ليبدو وكأنه في خضم الخيالات الحلمية. إن بشير يتدخل في افتراض صيغة أخرى لتصميم المبنى كأن يقصي الأبواب وما ذلك إلا توقاً إلى العالم المنفتح الذي لا تحده فواصل الأنا، ولا ملكيتها. وهذا هو جوهر الفلسفة التي ترسم صورة مشرقة تربط الشيء بمحيطه. ضمن هذه الفلسفة تتضح الإمكانيات الكبيرة على الاستقراء والتأويل والتأمل. أقول كل ذلك لا يتم إلا عن طريق الدقة المجهرية في رسم التفاصيل والمنظور الجوي الأمامي واحتساب استحالات اللون وتغايرها وتأثيرها على المشهد من المنظور العياني جديد كل الجدة من نواحيه المعمارية، وهو تصميم يصلح لحمل الأجواء الحلمية ولا يصلح لحياة البشر العملية. لأن أي واحد منا لا يرغب في أن يعيش ضمن هذه الفضاءات المكشوفة ولا يمكن وضع سرير بوسادتين أمام أنظار الملأ، حيث التحرر المطلق من على الجدار وغالبا ما تكون في أمامية اللوحة التي يرسمها وتتأثر هذه الصورة - وفي العادة تكون اللوحة كلاسيكية مشهورة في تاريخ الفن - بالضياء المسلط عليها من خلال النافذة المجاورة أو الفتحة الموجودة في سقف المبنى. إن صورة اللوحة الكلاسيكية التي يضعها على لوحته في جانب محدد من يجعلها تعطي الشفرة التي تحلل طبيعة العمل الفني كله. ولها صلة بدرامية الموضوع الذي انطبع في مخيلته. وفي الحقيقة أنه يريد القول بأنه قد بلغ مرحلة من النمو الفني الذي يضاهي بها فنون أسلافه. أما إضفاؤه الستائر المخملية المزينة بالزخارف النسيجية ذات البريق الحريري، والتي سرعان ما تتأثر بمساقط الضياء وانكسارات الظلال، فإنها هي الأخرى مثيرة إلى حد الدهشة لما تتصف به من دقة قائمة على الأسس التصميمية.
إن الأهمية في لوحات "بشير مهدي" تبدأ من مساحات اللوحات الصغيرة التي يشتغل عليها، وتنطلق إلى خبراته الباذخة، ومهاراته المبدعة في الأداء الفني، ومن ثم في المقدرة على التأويل والاستنباط والتأليف الموضوعي، مراعيا كل الأسس أو الخصائص الواجب توفرها في العمل الفني النموذجي، وما صوره إلا تأكيدا على المعنى الحيوي. وبالرغم من خلو أغلب اللوحات من الحضور الآدمي المباشر فإنها تترك لنا الانطباع بأن كل أشياء الصورة، فارقها الإنسان منذ لحظات. وهذه الصياغات التعبيرية هي التي ميزت كل لوحاته بحيث أن أسمى جوهر لديه هو الصدق. ولأن الفن هو إدراك حدسي فإنه لا يعتمد على الوقائع، ولكني أجده متجسدا في لوحات بشير. إنه يستطيع أن يجعلنا نتنفس هواء مختلفا، وإن نحلق في عالم مختلف، ونتعايش مع مشكلات مختلفة، وأسئلة مختلفة، وفي الواقع أن السبيل لفهم منتجات بشير تصل بنا إلى كل الغايات، ومثلما فتح لنا أبواب عالمه وأسراره فإنه يحفز مقدرتنا على الاستقراء والاستنباط بروح متجلية، ولي الحق في أن أزعم إن كل ذلك يمثل دربا مهذبا يأخذنا إلى عالم التصوف، حيث المنظور الجوي يعني تبني فلسفة العلو والذي يجعل سلوك ذائقتنا الجمالية تتأثر به، وفلسفة العلو تؤمن بأن مستقر الأرواح والذوات المنصرمة من الوجود الحيوي ترتقي في نهاية مطافها إلى الفلوات والفضاءات المفتوحة على سعتها، ويبدو لي أن ذلك محض نزوع رومانتيكي يعين الذاكرة على البرهان والاستنتاج. لقد عرفنا في تاريخ الفن ذاته بأن الفن ليس عملا ولا علما ولا دينا ولا أخلاقا ولا نقدا اجتماعيا، ترى ما الذي يجعله يشارك في الحضارة وله هذه الأهمية العظمى إذا؟.
إن بشير يقدم أشكالا، وهذه الأشكال تكون خيالية في بعض الأحيان، وما الخيالي إلا بقية لقوة الجبلة الأولى، التي بقيت حتى زماننا عالقة في ذواتنا مثل أية جين وراثي له صفاتها وطبائعه وجذوره. فجوهر الرسم لدى بشير مهدي يعني المزاوجة بين الثنائيات؛ الأرض والسماء، البعيد والقريب.