تستمد أعمال الفنان "بشير مهدي" طابعها من الواقع الغربي المؤثر بطريقة سيكولوجية على ذاته، وتتضمن مشاهد متخمة بالرموز المكانية مع بعض التوظيفات الإشارية للطبيعة "أحيانا" ومن ثم ينفتح على نقل رؤاه "المخيالية" داخل اللوحات، ليقترب إلى الجوانب الميتافيزيقية، وهذا بحد ذاته يمثل تكثيف العمل لأكثر من إشارة موضوعية برغم تقنية الأداء في نهاية العمل. وتوضح أعماله الأخيرة، إنه يعمل على موضوعة الاغتراب وفق أسلوب شكلي تمركز على وضع علامات متفردة، فكل شكل جرى تبسيطه واختزاله إلى ملامح واضحة، فالكرسي والسرير، وحتى الرداء والسرير وما إلى ذلك. إذ ترسخت إلى بناء مشهد صوري أشد تركيزا على أنساقه المحدودة، وحتى في ضرباته اللونية التي اعتمدت على إبراز تفاصيل الشكل. من جهة أخرى جرى تصعيد الخاصية المعبرة للصورة باستعمال ألوان (منعشة/بارزة) كبقع من الأخضر الغامق والأزرق اللذين يتناقضان بحدة مع الألوان الحارة، مع التركيز على إبراز الضوء داخل اللوحة من خلال التمركز على اللونين الأصفر والأحمر في الأغلب.
وبوحي من الإيمان بأن القدرة التي ينفذها "بشير مهدي" اعتمدت على عوالم متخمة بالجوانب الرمزية التي استعملت بانبساط وبلمسات رهيف، لمسات تعكس ضوء وجو نهار أوربي "إذ قضى ربع قرن يمارس الرسم في بلدان أوربا".
إن إحساسه المميز لبناء مشهد صوري منسق وواضح يظهر جليا في التناغم المؤشر بين التصعيد الإيقاعي بموضوعات المكان، ولا تقتصر أشكاله التي تحيدها العين إلى المرأى الممتد أمامها بانسياب البصر عبر المنظر المرسوم. وفي الوقت ذاته أن يوحد الفنان بناءه الصوري، فعليه أن يكون طبقات مشاهده المتباينة في نسق موضوعي منفرد؛ أي أن يعمل على ممارسة الأخذ بموضوع معين والعمل عليه بانفرادية، لا كما شاهدناه - إن في العمل الواحد تتكثف عدة مواضيع - وهكذا. ومن ثم يقيم هذا الفنان تمازجا بين المادة التي يستخدمها وبين الموضوع الذي يعمل على طرحه، ولكن أغلب أعماله كشفت عن جوهر تأثره بالموروث الغربي، كما أشرنا إليه، فالأبنية والزخرفات وتفاصيل الإنسان لها علاقة بمشهدية العمل الفني/الواقعي الغربي، وإن انطوت على شيء فإنما انطوت على إشارات من معان اصطلاحية على المستوى ألآثاري أو التاريخي أو الاجتماعي، الأوربي، فبالنسبة إليه مجرد توصلات بصرية مقنعة، بل وتمكن من اجتيازها بسلام وهدوء دونما أية ضجة سيميائية مفتعلة.
وعلى الرغم من أنه يقترب من المعنى الحقيقي للأشياء، ولكنه يحاول أن يضع المتلقي في حيز ملموس من منطقة البحث عن ألغاز داخل النص/اللوحة. فالاتصال الزوجي الذي وضعه في العديد من لوحاته كانت هناك ثيمات أو كتل استنتجت من خلال الاتصال، وهذا يعيد التوازن في محور العمل ككل، بعد أن يظهر بتوصلاته الجمالية إلى إدراك عناصره، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بطريقة المعايشة، وهذا هو أسلوبه الفني الذي تفرد به منذ عقود.
وبذلك فإن تجربة الفنان "بشير مهدي" التي تمتد لأكثر من ثلاثين سنة، قد استنفذت الكثير من أسئلة الوقائع الفنية التي عبرت عن روح الواقع المكاني، بدءا بمظهر اللوحة الخارجي ووصولا إلى ما تطرحه عناصر اللوحة من أبعاد متخيلة، ولا نقول حديثة، بالرغم من ارتباطه التقليدي المتصل مع الأشياء بآلية سياقية واضحة. وقد استدل مرجعياته التي تقع داخل أشكاله من خلال الرموز والإشارات والآثار وحتى الحروف إلى بعض الفنانين الأوربيين، ليعمل على تقليد بعضهم "كوبي" ليتخلى عن كل ما كانت تحتويه تجربته الأولى في بلده الأم، إذ كان من الأجدى أن ينقل موروثه الحضاري والمكاني داخل نصوصه/ لوحاته ليوثق المنظور الفني العراقي في بلدان أوربا.
ميزة هذا الفنان أنه لا يتحول بسهولة من منطقة إلى أخرى، إذ تقترب جميع لوحاته بأسلوب أدائي واحد وبحساسية شديدة التنفيذ، غير أن ثيماته وأدواته ترتبطان في منظور تأسيس/فني واحد، بعد أن يجسد أفاقه ورؤاه بشكل تنفيذي واضح. وقد يبدو غريبا أن يكرس اهتماما مميزا في طرح بعض لوحاته التي تحمل معنى التكريس لصور "الكتلوك"، أي أن الشكل عنده رسم بقياسات محسوبة، متجانسة، مع أنه ركز على إظهار مناطق الظل والضوء بطريقة جمالية وهاجة داخل العمل/اللوحة، إذ استطاع أن يسمو بانعكاساته السيكولوجية - أي الفنان - إلى مشاهد نقية لم يتأمل نقاءها سوى الإنسان.